- الآيات ٨ إلى ١٦
- من سورة البلد
- تلاوة الآيات ٨ إلى ١٦
الجعل الإلهي المتنوع
إن الآيات الكريمة تُشير في أكثر من سبعين مورد للجعل في عالم المحسوس وغيره ، ومنه ما في هذه السورة من ذِكر موارد الجعل فقال تعالى ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ﴾ وعدّاه إلى موارد متعدّدة من مظاهر قدرته ، إلا أن القضية لا تنتهي عند الجعل والمجعول ـ فذاك شأن الربوبية ـ وإنما المهم فيمَن يدرك هذا الجعل ويحوّله إلى أداة للاعتبار ، والإحساس بمنّة الجاعل وقدرته ، وهذا هو المطلوب من شأن العبودية .
آيتية البدن الانساني
لا يحتاج العبد لمعرفة عظيم منّة الله تعالى إلى السفر في الآفاق ، أو الغوص في أعماق النفس ، بل يكفي أن ينظر إلى ما في بدنه ، وعلى الخصوص إلى الآيات الباهرة التي أودعها الله تعالى في رأسه من ﴿عَيْنَيْنِ﴾ وعجائبها ، فهي بالإضافة إلى أنها أداة الإبصار ، فهي أيضا وسيلة لنقل الأحاسيس والعواطف بل التأثير الروحي كما هو معروف ﴿وَلِساناً﴾ يؤدي من الأغراض ما يُبهر من : المضغ ، والنطق ، وترطيب الطعام ، ومن ﴿شَفَتَيْنِ﴾ بهما قوام النطق ، فهي آخر مخارج الحروف بعد الحلق وفضاء الفم .
ولا يخفى أن عملية النطق باللسان والشفتين من أعقد العمليات في الوجود ، لما يصاحبها من التفكير غير المحسوس ثم التعبير عنه بالمحسوس ؛ وبمجموع العمليتين انتقلت المعارف البشرية بكل صورها . وبعبارة جامعة يمكن القول : بأن التأمل في الوجود الإنساني مادة وروحا ، محقق للسير الآفاقي والأنفسي معا .
الهداية الباطنية
إن الله تعالى كثيرا ما يؤكد على حقيقة الهداية الباطنية ، فمنها ما في قوله تعالى ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾[١] ومنها ما في هذه السورة حيث يقول تعالى ﴿وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ﴾ ولا يخفى ما في كلمة ﴿النَّجْدَيْنِ﴾ من لطف ، حيث تدل على الطريق المرتفع ، فأصل الطريق يمهد السلوك لسالكه ، فكيف إذا كان مرتفعا وواضح المعالم!
والسر في التأكيد على هذه الحقيقة : هو أن لا يحتجّ أحد بعدم وجود مذكّر له عند ارتكاب ما يعرفه من القبائح بالفطرة : كالكذب والظلم وأشباهه ، إذ إن استنكار الضمير لما يرتکبه الإنسان من الخطايا من أفصح المحتجين في باطنه .
التحكم في الحواس الظاهرية
لا تخفى المناسبة بين العينين والشفتين من ناحية ، والنجدين من ناحية اُخرى ، فإن الله تعالى كما جعل أدوات تحكّم في الباطن متمثلة بالمعرفة الوجدانية للخير والشر ؛ فإنه جعل أيضا أدوات تحكّم في الظاهر من العينين اللتين بإمكانهما غضّ البصر ، والشفتين اللتين بإمكانهما حبس اللسان من دون مشقة زائدة . . وعليه ، فإنه لا عذر لمَن أطلق بصره ولسانه ، سواء في حرام أو فضول .
اقتحام الموانع
إن المطلوب من العبد في هذه الحياة أن يقتحم العقبات ـ وهو الدخول في الشيء بسرعة ـ والمتحقق من خلال تجاوز هوى النفس ومشتهياتها ، فكما أن البِرّ لا يُنال إلا بالإنفاق ممّا يحبه العبد ؛ فكذلك الأمر بالنسبة إلى اقتحام موانع السير إلى الله تعالى ؛ فإنه لا يتم إلا في موارد العمل بما يشق على النفس مثل ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ وهو ممّا قد يستلزم المال الكثير ، والإنفاق عند القحط ﴿إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ بفارق أن في الأول : تخليص إنسان بكامله من قيد الرق ، وفي الثاني : تخليصه من خصوص الجوع .
وقد بلغ الأمر من الأهمية إلى درجة عبّر عنه القرآن الكريم ﴿وَما أَدْراكَ﴾ الذي لا يُستعمل عادةً إلا في موارد يصعب على العباد استيعاب حقائقها ، فكان ما خفي عنهم من الجزاء ممّا لا يمكن تصوّره!
الأقرب للقرب الإلهي
إن المؤمن عندما يريد أن ينفق مالا في سبيل الله تعالى أو يُطعم طعاما في حبه ؛ فإنه ينظر إلى الأقرب لمرضاته تعالى في جزئيات ذلك العمل القربي .
وبعبارة اُخرى : هو حريص على اختيار أفضل المصاديق لذلك العنوان العام ، وفي هذه الآيات دلالة على بعض العناوين المرجحة الاُخرى ، بعد إحراز أصل الرجحان في الإنفاق ، فمنها :
اليتم ﴿يَتِيماً﴾ لما يعانيه من آلام فقْد مَن كان يرعاه .
القرب النسبي ﴿ذا مَقْرَبَةٍ﴾ .
شدة الفقر ﴿ذا مَتْرَبَةٍ﴾ وكأنه التصق بالتراب لشدة فقره .
اختيار الأيام التي تعظم فيها الحاجة كأيام المجاعة ﴿فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ .
فكّ الرقاب من النار
إن الآيات بظاهرها ناظرة إلى فك الرقاب وإطعام البطون في دائرة (المحسوس) ويُعدّ ذلك اقتحاما للعقبة ، مع الالتفات إلى أن الآيات لم تقيّد المُنفَق عليهم بقيد الإيمان أو الإسلام ، فكيف إذا كان الأمر في دائرة (المعقول) ، أي : مَن فك رقبة عبد مسلم آبق من النار ، أو هدى مؤمنا ضالا فأطعمه من طعام عالم المعنى ، أو تكفّل يتيما من يتامى آل محمد (عليهم السلام) ؛ فأي جزاء ينتظر مثل هذا العبد يوم القيامة؟!
ويؤيد هذا المعنى ما ورد في الخبر : «أن الله تعالى أوحى إلى موسى : حببني إلى خلقي وحبب خلقي إلى ، قال : يا رب كيف أفعل؟ . . قال : ذكّرهم آلائي ونعمائي ليحبوني ، فلإن ترد آبقا عن بابي ، أو ضالا عن فنائي أفضل لك من عبادة مائة سنة بصيام نهارها ، وقيام ليلها ، قال موسى(عليه السلام) : ومن هذا العبد الآبق منك؟ . . قال : العاصي المتمرد»[٢] .