- الآيات ١ إلى ٧
- من سورة البلد
- تلاوة الآيات ١ إلى ٧
معنى “لَا أُقْسِمُ”
إن القَسَم الوارد في هذه السورة والمسبوق بـ (لا) النافية يمكن تفسيره بوجوه ، وهي تسري على سائر الموارد المشابهة ، ومن هذه الوجوه :
إن نفي القَسَم الوارد في هذه السورة هو نفي حقيقي ، بمعنى : أن الله تعالى لا يُقسِم ببلد مثل مكة ، والنبي ‘ فيها مهدور الدم ومباح العرض ، فإن مكة ـ على شرافتها ـ لا يُقسِم بها وهذا حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها ، وعلى هذا التقدير فإن نفي القَسَم فيه كمال التعظيم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
إن الأمر في المُقْسَم عليه ـ بناء على النفي حقيقةً ـ إنما هو على درجة من الانكشاف لا يحتاج معه إلى القَسَم .
إن القَسَم على حقيقته ، وتكون (لا) للتأكيد ، كما جاء في ثمانية موارد اُخرى من القرآن الكريم ، ومعناه على هذا التقدير : (إنني أُقسِم بهذا البلد وأنت مقيم وحالّ فيه) أي إن هذه البقعة على شرافتها تستحق القسم بها ، لشرافة اُخرى متمثلة في إقامة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها ، فعاد الأمر تعظيما له أيضا .
مظاهر التوحيد
إنْ جعلنا المراد بـ ﴿وَوالِدٍ وما وَلَدَ﴾ خصوص إبراهيم الخليل وولده إسماعيل (عليهما السلام) ـ ليناسب ذِكر مكة في صدر السورة ـ فإن السورة تكون فيها إشارة لرموز التوحيد (البشرية) المتمثلة بإبراهيم ﴿وَوالِدٍ﴾ وإسماعيل ﴿وَما وَلَدَ﴾ والنبي الخاتم ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ﴾ وإشارة إلى رموز التوحيد (المادية) كمكة المكرمة ﴿لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ﴾ ولا يخفى ما في مجموع القرآن الكريم من كثير الثناء على باني الكعبة وولده وزوجته ، فإن الله تعالى شكور لمَن صار له حق على توحيده في الأرض!
والملاحظ هنا أن الله تعالى ذكر الوالد بتعبير النكرة للتعظيم ، والولد بتعبير (ما) عدولا عن (من) للدلالة على التعجب ، وهذا بدوره دليل على علو شأنهما أيضا كقوله تعالى ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾[١] .
الكدح في الحياة
إن القرآن الكريم يهيّئ العباد لتحمّل شيء من العناء طوال فترة عيشهم في هذه الحياة الدنيا ، فلا يُفاجأ العبد بما يلاقيه من مشقة ؛ لأنه سوف يجني ثمار أتعابه ؛ كما في قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾ ومنها ما في هذه السورة الدالة على أن الإنسان وكأنه خُلق في المشقة والتعب ـ مبالغة لوصف الحالة ـ وهذه المشقة لازمت خلقته من حين كان في بطن أمه إلى حين خروجه وولادته ؛ حيث ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا﴾[٢] ثم ﴿وَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾[٣] ولازمَته هذه المشقة أيضاً في جميع مراحل حياته المختلفة : ككسبه للعيش ، ومواجهته لإيذاء الغير إلى حين موته .
ومن المعلوم أن علمه بملازمة المشقة له طوال عمره ، لمن موجبات الانقطاع إلى الله تعالى الذي بيده رفع الشدائد ، أو تخفيف وقْعها عليه .
المعنى الآخر لـ “كَبَد”
يرى البعض أن (الكَبَد) المشار إليه في قوله تعالى ﴿فِي كَبَدٍ﴾ بمعنى الاستواء والاستقامة ، فيكون معنى الآية مماثلا لقوله تعالى ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾[٤] وهذا المعنى يناسب ما سنتناوله في الآيات اللاحقة من بيان وجوه الاستقامة في الخلق : من خلقة العين ، واللسان ، والشفة .
وهذا هو ما يناسب أيضا دعوة العباد (للمراقبة) ـ بعد رؤية هذا الخلق البديع ، بقوله تعالى ﴿أَ يَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾ و(للإنفاق) في سبيله شكرا على هذه النعم بقوله ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ .
التقابل بين الدنيا والآخرة
إن من وجوه المقابلة بين الدنيا والآخرة ، هو أن الله تعالى خلق الإنسان في الدنيا ملازما للمشقة والتعب ، والحال أنه تعالی خلق الراحة والأمان في الآخرة بفارق : أن مشقة الدنيا فانية زائلة بالموت ، وراحة الآخرة باقية أبدية بالخلود ؛ فأي عاقل لا يشتري الراحة الأبدية بالمشقة الفانية؟!
فالحق في المقام ما قيل من أنه لو كانت الدنيا ذهبا فانيا والآخرة خزفا باقيا ؛ لكانت الآخرة خيرا من الدنيا ، فكيف والدنيا خزف فانٍ والآخرة ذهب باقٍ!
أنواع المنفقين
إن القرآن الكريم أورد في هذه السورة ذِكر مَن ينفق مالا كثيرا ﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً﴾ وهؤلاء على أقسام :
منهم مَن ينفق ماله رياء فيناسبه القول : بأن الله تعالى يراه ويرى عمله ، ويعلم النية التي صدرت منها الأعمال رياء ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾؟! .
ومنهم مَن ينفق ماله في محاربة الدعوة الإلهية وإيذاء النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فيناسبه القول : بأن الله تعالى قادر على أخذِه وطمس ماله ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾؟!
ومنهم مَن ينفق ماله وهو يمنّ على الله تعالى بأن جعل ماله للفقراء والمساكين ، كالذي قال في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات ، منذ دخلت في دين محمد»[٥] فيناسبه القول : بأن الله تعالى هو صاحب المنّة العظمى عليه ، حيث جعل ﴿ألَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ﴾ .
الدعوة إلى الانقطاع إليه
إن القرآن الكريم مليء بالآيات الداعية للرجوع إلى النفس ، لحمْلها على الالتفات إلى عالم الغيب لما يوجبه ذلك من الانقطاع إلى الله تعالى (باطنا) ، ومراقبة السلوك (ظاهرا) ؛ ومن هذه الآيات قوله تعالى ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى﴾[٦] ومنها أيضا ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾[٧] ومنها ما ورد في هذه السورة كقوله تعالى ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾ .
فمفادها جميعاً : إن الله تعالى يرى العبد في كل تقلباته ، أضف إلى كونه في قبضة الله تعالى ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾ فكون الإنسان في شدة وتعب يوجب له الخشوع الباطني ، وهو مدعاة ـ إن لم يكن ملازما ـ للخضوع والخشوع الخارجي .
الحسبان الباطل
إن المشكلة في كل مَن انحرف عن طريق الهداية هو أنه رأى الوجود من خلال نفسه ، فلم يعتقد بحقائق الوجود إلا بقدر ما صوّره لنفسه ، وأنكر منها ما بنى هو على إنكاره مكابرة من دون برهان قاطع ، ومن هنا أنكرت الآيتان عليهم قائلة ﴿أَيَحْسَبُ﴾ مرتين .
وعليه ، فإن الخلاص ممّا هم فيه يكون بتغيير هذا الحسبان على وفق ما يريده المولى الذي (يرى) العبد من ناحية ، و(يقدر) عليه من ناحية اُخرى . . والملفت هنا أن هؤلاء بحسبانهم الواهم ، أنكروا أمرين واضحين لكل ذي لب : أنه أولا لا يراه أحد ، وثانيا أنه لا يقدر عليه أحد ؛ فيا له من حسبان سخيف!