- الآيات ١٧ إلى ٢٦
- من سورة الغاشية
- تلاوة الآيات ١٧ إلى ٢٦
النظرة الواعية للآفاق
إن من الأساليب القرآنية هو الانتقال من المطلوب الظاهري إلى موجبه الباطني ، ففي الآيات السابقة دعوة إلى تذكّر المعاد ، والالتفات إلى حال المنعمّين والمعذّبين فيها ، ولكن هذا الوصف بمجرده لا يشكل داعويّة للعبد للعمل بما هو مطلوب منه ، فأردفها بالدعوة إلى اكتساب المعرفة الموجبة للخشية ، ومنها النظر إلى الآفاق وما يُحيط بالإنسان من مظاهر القدرة الإلهية . . ومن الطبيعي في زمان نزول الوحي ، أن يلتفت أهل الصحراء ـ في زمان نزول الوحي ـ إلى الإبل لأنها وسيلة معاشهم ، فإذا رفع بصره رأى السماء يرى ما فيها من زينة الكواكب ، وإذا نظر أمامه يرى الجبال الموتّدة للأرض .
وهذه الدلالات بمجموعها توجب الانتقال إلى (وجود) الصانع أولا ، ثم إلى (قدرته) ثانيا ، ثم إلى (حكمته) البالغة ثالثا ، ومجموع هذه الأمور الثلاثة قد تورث الاعتقاد بالغاشية التي افتتحت السورة بذكرها .
إثارة البواطن
إنه لمن المناسب أن يحرّك الدعاة في دعوتهم إلى الله تعالى بواطن العباد ، وذلك بإثارة التساؤل الذي يجرّهم إلى البحث عن الإجابة الموجبة أخيرا للقناعة الباطنية .
فهذه الآيات تستعمل كلمة ﴿كَيْفَ﴾ أربع مرات : بدءاً من محسوس قريب كالإبل ، ومرورا بما لا يُنال كالسماء ، وتذكيرا بمحسوس آخر بعيد كالجبال ، ثم الأرض التي يراها كل راءٍ وقد سطحت من أجل تيسير معاش الخلق ، كل ذلك من أجل الوصول أخيرا إلى معقول يتمثل بالوصول إلى مُكوكب الكواكب ، ومُوتّد الجبال ، ومُسطّح الأرض!
الحدّ من التوقعات
إن القرآن الكريم يذكر في موارد عديدة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كباقي الأنبياء (عليهم السلام) لا سلطان له على بواطن العباد ، وإلا انتفى الاختيار الموجب للثواب والعقاب ، وذلك في قوله تعالى ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ و﴿أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾[١] و﴿وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ﴾[٢] و﴿فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفا﴾[٣] و﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرات﴾[٤] .
وهذا بدوره يحدّ من توقّعات الداعين إلى الله تعالى ؛ لئلا تفتر همّتهم عندما يرون صدودا من الخلق ، والحال بأن سُنّة الأنبياء كانت في التذكير دائما من دون أن يكون لهم تحكّم إلزامي على القلوب ، وإلا لما بقي منكر لدعوتهم .
الجمع بين المداراة والحزم
استفاد البعض من آية ﴿إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ﴾ أن الإسلام دين الواقعية والرأفة معا ، إذ إن البناء الأولي على التذكير فقط ، ولكن مع وجود ﴿مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ﴾ ومواجهته لدعوة الإيمان ، فإن الأمر ينتقل من التذكير المجرد إلى مواجهتهم بالجهاد ، واستئصال جيوب الفتنة في الأرض ، مصداقا لقوله تعالى ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾[٥] وهذا كله خلافا لمنهج مَن يجعل الوعظ القولي آخر السقف في مجال الدعوة إلى الله تعالى ؛ طلبا للإعفاء من المواجهة المستلزمة لبذل النفس والمال .
أوصاف العذاب الأخروي
إن كل شيء حقير في جانب عظمة الرب المتعال ، وعليه فلو وصف تعالى شيئا بالشدة والكبَر ، فإنه يُشعر بعظمة ذلك الموصوف حقّا ، وهو ما تحقق في بيان عذاب جهنم عندما يصفها بأنواع الوصف ومنه ﴿عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾[٦] ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[٧] ﴿عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾[٨] ﴿عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾[٩] ﴿عَذَابَ السَّعِيرِ﴾[١٠] ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[١١] ﴿عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾[١٢] ﴿عَذَابَ الْخُلْدِ﴾[١٣] ﴿عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾[١٤] ﴿عَذَابُ جَهَنَّمَ﴾[١٥] ﴿أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾[١٦] .
وفي هذه السورة يهدّد الله تعالى الكافرين بعذاب هو ﴿الْعَذَابَ الأَكْبَرَ﴾ فالذي يعتقد بالمبدأ والمعاد ـ وكان مطلعا على هذه الأوصاف ـ فإنه لا بُد له من الارتداع عن باطله ، إلا أن يكون الشك في إيمانه ، أو في فهمه لصلاح نفسه!
[٧] . سورة البقرة : الآية ١٠ ، ١٠٤ ، ١٧٤ .
[٨] . سورة البقرة : الآية ٩٠ ، سورة آل عمران : الآية ١٧٨ ، سورة الإنسان : الآية ١٤ .
[٩] . سورة المائدة : الآية ٣٧ ، سورة التوبة : الآية ٦٨ ، سورة هود : الآية ٣٩ .
[١٠] . سورة الحج : الآية ٤ ، سورة لقمان : الآية ٢١ ، سورة سبأ : الآية ١٢ .
[١١] . سورة البقرة : الآية ٧ ، ١١٤ ، سورة آل عمران : الآية ١٠٥ .
[١٢] . سورة آل عمران : الآية ١٨١ ، سورة الأنفال : الآية ٥٠ .
[١٣] . سورة يونس : الآية ٥٢ ، سورة السجدة : الآية ١٤ .
[١٤] . سورة هود : الآية ٥٨ ، سورة إبراهيم : الآية ١٧ .
[١٥] . سورة الزخرف : الآية ٧٤ ، سورة الملك : الآية ٦ .
[١٦] . سورة طه : الآية ٢٧ .
الرجوع إلى الله تعالى
إن آية ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ فيها جهتان :
الأولى : وهي تسلية لفؤاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ذكر الكفار في مفتتح السورة ، فإن رجوعهم إلى الله تعالى وهو في مقام الانتقام منهم ـ يهوّن ما يصدر منهم من الأذى والاستعلاء .
الثانية : وهي تخويف للمعاندين ، فإن الله تعالى أرجع مهمة المحاسبة إلى نفسه وهو الذي لا تخفي عليه خافية ، ومن اعتقد بحقيقة الأوبة إلى الله تعالى ، فإنه لا ينقدح في قلبه الميل إلى المعصية ، فضلا عن ارتكابها .