- الآيات ٩ إلى ١٧
- من سورة الطارق
- تلاوة الآيات ٩ إلى ١٧
إصلاح السرائر
إن الإنسان بإمكانه ستر سريرته الفاسدة بإظهار ما يوجب له حسن الذكر والصلاح ؛ ولكن ماذا ينفعه ذلك ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾؟! . . ومن هنا لزم على العبد المراقب أن يُصلح سريرته الباطنة غير مكتف بإصلاح أعماله الظاهرة ؛ وهو ما يغفل عنه حتى الخواص من الخلق!
فالله تعالى يحاسب على البواطن كما يحاسب على الظواهر ، بل يعذب عليها كما في الانحرافات الاعتقادية ، أو ما اوجب معصية في الظاهر ﴿وإِنْ تُبْدُوا ما في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ ويُعَذِّبُ مَنْ يَشاء﴾[١] .
الناصر المطلق والوحيد
إن الذي ينكشف سره الموجب للفضيحة بين الناس ، يتشبث بكل حيلة لدفع الضر عن نفسه ، سواء بالاعتماد على قوته أم على قوة غيره ، ومن المعلوم أن الخلائق في ذلك اليوم متساوية المثول بين يديه ، فلا يمكن أن يكون أحد ناصرا لأحد قبال الحاكمية الإلهية المطلقة .
ويا حبذا لو استشعر الإنسان هذه الحقيقة في دار الدنيا ، وهي أنه لا حول له ولا قوة إلا بالله تعالى ، وانه لا ناصر سواه ﴿فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ﴾ فإن نفي القوة والناصر حقيقة سارية في كل النشآت ، وإن استشعرها الإنسان في ذلك اليوم .
مناسبة القسم لجوابه
إن القرآن يرعى المناسبة بين القَسَم والمُقْسَم عليه وهو مقتضى الحكمة بلا ريب في كل موارد القَسَم ، فهنا أقَسَم بالسماء ﴿ذاتِ الرَّجْعِ﴾ وهو المطر الذي يرجع إلى الأرض بعد صعود البخار منه[٢] ، والأرض ﴿ذاتِ الصَّدْعِ﴾ أي ذات الشق الذي يخرج منه النبات[٣] ، فمجموع القَسَمين يوحي بأن هناك يداً تُحيي الأرض بعد موتها ، بتسبيب الأسباب الأرضية والسماوية!
ومن المعلوم أن القادر على الإحياء في هذه النشأة هو القادر على الإحياء في تلك النشأة أيضا ، وهو ما ورد ذكره في قوله تعالى ﴿إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ﴾ .
إنزال المطر والقرآن
إن المناسبة أيضا واضحة بين ظاهرة الإمطار السماوي والإنبات الأرضي ، وبين إنزال القرآن الكريم ، فهو أيضا من مظاهر الرحمة الإلهية التي تنزل على القلوب المستعدة ، فتخرج منها ثمار المعرفة .
وعليه ، فإن مَن يريد فاعلية تأثير الهدى الإلهي في النفوس ؛ لا بُد له من قابلية تلّقي الفيوضات الإلهية ، كما هي حال الأرض في استعدادها لتلقّي مطر الرحمة لتخرج ﴿حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾[٤] وقد عبّر القران الكريم عن نفسه بأنه ﴿لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ بين الحق والباطل ، فمَن لم يلتزم به وقع في الباطل قهرا إذ ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ﴾[٥] .
الانتقام من المنكرين
إن الذين تعاملوا مع القرآن الكريم ـ والذي لا جِدّ فوقه ـ معاملة ما هو من مصاديق ﴿الْهَزْلِ﴾ جعلوا أنفسهم في مقام التحدّي لجبار السماوات والأرض ؛ ولهذا جعل الله تعالى نفسه في مقام الكيد لهم ، وهو الانتقام مع ما يشوبه شيء من المباغتة والاستدراج ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ وكم هو منتهى الحمق أن يواجه العبد بكيده كيدَ رب العالمين!
ومن هذا المنطلق أيضا لا ينبغي الخوف من كيد الظالمين ، ما دمنا نعتقد أن الله تعالى لهم بالمرصاد .
الكيد الممدوح
إن الكيد وإن كان مذموما في أصله ، إلا أنه لما كان في مقابل كيد الكائدين صار من باب المقابلة بالمثل ، وهو راجح من باب ﴿جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها﴾[٦] .
أضف إلى أن الله تعالى ـ وهو المالك على الإطلاق ـ له الحق في مجازاة الظالمين بشكل خفي وهو ما يفيده التعبير بالكيد ؛ لأن الله تعالى يختم على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم ؛ ليجرّهم أخيرا إلى عذاب أليم .
الإمهال الإلهي
إن الله تعالى يطلب من نبيه عدم الاستعجال في رؤية انتقام الله تعالى من الكافرين وعدم الانشغال بهم ؛ بل طلب منه الإمهال كما في قوله ﴿أَمْهِلْهُمْ﴾ امهالا ﴿رُوَيْدًا﴾ أي قليلا ليريه الله تعالى جزاء كيدهم!
وهو ما تحقق للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته المباركة من رؤية الانتصارات الباهرة بدءاً من معركة بدر ، وانتهاء بدحر أعدائه الذين أخرجوه من بلده وذلك بفتح مكة ، وما خفي من العذاب يوم القيامة أعظم ، وهو أيضا قريب لمَن تيقن بحلوله!