- الآيات ١٦ إلى ٢٥
- من سورة الانشقاق
- تلاوة الآيات ١٦ إلى ٢٥
الاستنئناس بالطبيعة
إن القَسَم بالشيء وإن كان جمادا كالشفق ، والليل ، والقمر ؛ يعود إلى القَسَم بربها ، وذلك فيما لو تحققت النظرة إلى آيتيتها لعظمة الرب ؛ فلا داعي للجمود على مقولة أنه لا يصح القَسَم بغير الله تعالى ، فكل ما في الوجود منتسب إليه ، فالنظر إليه يعود في الحقيقة إلى النظر إلى مُوجده ، وهذا يفسّر أنس المؤمن أُنسا واعيا بالطبيعة ، كأنس المحب بهدايا محبوبه .
القسم بما هو مأنوس
إن طبيعة البشر قائمة على عدم الالتفات التفصيلي إلى ما حوله من آثار قدرة الله تعالى ورحمته ، ومن هنا جاءت الآيات الكثيرة التي تقسِم بما حولنا من الأمور التي ألفناها من دون التفات إلى حكمتها ، فمَن منا يلتفت إلى نعمة جامعية الليل للمتفرقات ولمّها للمنتشرات ، لعودة كل متحرك إلى سكنه ووكره ، مستعيدا أنفاسه لصباح جديد ، وهو ما يُستفاد من قوله تعالى ﴿وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ﴾ .
اتساق القمر
إن الآية لم تقسِم بأصل القمر وإنما باتساقه ﴿إِذَا اتَّسَقَ﴾ أي بلوغه تمام الإضاءة ليلة البدر ، فكأن القمر إنما يصبح قابلا لأن يُقسَم عليه إذا بلغ كماله وهو تمام نوريته ، ومن المعلوم أن كمال كل شيء بحسبه .
وعليه نقول : بأن تمامية القمر ظرفا زمانيا للقَسَم به ، يحاكي تمامية خلقة آدم × حيث لم يأمر الله تعالى الملائكة بالسجود له ، إلا عندما نفخ فيه من روحه .
تبدل الحالات الإنسانية
إن هذه الآيات جاءت لتؤكد على هذه الحقيقة التي أشارت إليها الآية اللاحقة وهي ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ﴾ والتي اختُلف في معناها بوجوه عديدة ؛ من الإشارة إلى : حالات الإنسان في مجموع الدنيا ، أو حالاته في مجموع الدنيا والبرزخ والقيامة ، أو حالاته في مجموع عرصات القيامة .
والجامع بين كل الأقوال : هي سرعة التبدّل وكثرته في حياة الإنسان ، بما يدّل على أن هناك يدا خفية وراء كل ذلك وهي التي تقلّب هذه الأحوال ، فلا بُد من الالتجاء إليها لتحويل الحال إلى أحسن الحال! . . أضف إلى أنها داعية للمرء لأن يكون حريصا على إيصال نفسه من خلال كل هذه التقلبات إلى كماله المنشود ، فلا يركن لما هو فيه فإن : «المغبون مَن تساوى يوماه»[١]!
الانتقال إلى اليسر
إن تبدّل الأحوال من العسر إلى اليسر ـ وهو من لوازم طبقية حياة الإنسان المستفادة من الآية ـ يبعث في قلب صاحبه الأمل ، فإن عدم ثبات المراحل هي في حد نفسها نعمة من هذه الجهة ، بل لو افترضنا أن العمر كله استغرق بالعسر ؛ لما كان ذلك مدعاة للتبرّم ، ما دام العبد ينتظر مرحلة البرزخ والقيامة ، والتي فيها كمال التعويض عن كل ضيق في هذه الدنيا .
السجود الانقيادي
إن للسجود مظهرا ماديا يتمثل في وضع المواضع السبعة على الأرض ، ومظهرا معنويا يتمثل في إظهار الانقياد له ، وقد يكون الأنسب لآية ﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ﴾ هو المظهر الثاني ، إذ ليس المطلوب هو السجود عند كل آية من آيات الكتاب الكريم ، فالآيات الموجبة للسجود في القرآن الكريم محدودة ، بل المراد هو الانقياد لمضامينها في كل ما فيه أمر ونهي .
ومن هنا نقول عن الذي يسجد ببدنه دون انقياد قلبي : إنه لم يصل إلى حقيقة السجود الذي أُمرنا به .
موقفان متضادان
إن هناك فرقا جوهريا بين موقف أهل الإيمان قبال آيات الله تعالى ، وبين أهل الكفر والنفاق ، وذلك أن المؤمنين :
﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾[٢] والحال أن من يقابلهم ﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ﴾ .
﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾[٣] ومن يواجههم ﴿وَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ﴾[٤] .
عناد أهل الكفر
إن القرآن الكريم يؤكد في آيات كثيرة على أن إصرار الكافرين على كفرهم ـ ولو في بعض حالاتهم ـ ليس ليقينهم بما هم فيه أو لقصور في بيان الوحي ؛ وإنما هو : لعنادهم ، أو اتباعهم لنهج آبائهم ، أو تغليبا لمصالحهم ؛ ومن هنا ورد التعبير بـ ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ﴾ فالتكذيب جهد العاجز ، لا دليل المستبصر بيقينه .
وقد انتقلت الآيات من لحن الخطاب إلى لحن الغيبة ﴿فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ اعراضا عنهم ، وکأنّهم لا يستحقون الخطاب والمواجهة .
الاطلاع على البواطن
إن الله تعالى يُشير كثيرا في كتابه إلى حقيقة اطلاع الله تعالى على بواطن العباد ، فهو الذي يعلم ﴿مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾[٥] وهو الذي ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾[٦] وهو الذي يعلم ﴿وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾[٧] ويذكر في هذه الآية أنه ﴿أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾ وفي كل ذلك دعوة لمراجعة الإنسان لخلجانات نفسه ، وعدم الاكتفاء بالنظر إلى جوارحه ، فالقلب هو الوعاء الذي يصدر منه ما يفيض منه ، مصداقا لما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة : «إنّ هذه القلوب أوعية ؛ فخيرها أوعاها»[٨]!
ومن المعلوم أن الوعاء المطلوب في عالم القلوب ، هو ما كان جامعا لكثرة الاستيعاب أولا ، وحسن ما يستوعبه ثانيا .
خصوصيات البشارة
إن الله تعالى كما يُبشّر الكفار بالعذاب ـ وفيه ما لا يخفى من التهكم والتوبيخ ؛ إذ البشارة إنما هي في مورد الأخبار السارة ـ كذلك فإنه يبشر المؤمنين : بالأجر الكريم ﴿وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾[٩] والأجر العظيم ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[١٠] والأجر الكبير ﴿أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾[١١] وأنه أجر ﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾[١٢] فهو غير منقطع ، وليس فيه شائبة المنّة وهو ذكر ما يثقل على المأجور ، وهاتان الآفتان ـ في أجور أهل الدنيا ـ ممّا يكثر وقوعه ، أي الانقطاع والمنّ .
الفلاح الكامل
إن القرآن الكريم كثيرا ما يستعمل ثنائي الإيمان والعمل الصالح ، حال كونه جمعا محلى بألف ولام التعريف ، وهو الذي يفيد العموم بأعلى صوره ، إذ إن من المعلوم أن الفلاح الكامل يتحقق بإتباع جميع الأوامر ، والإتيان بجميع الصالحات مقترنا بالإيمان ، إلى درجة يجعل القرآن الكريم الخشوع في الصلاة ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُون﴾[١٣] وهو نفل غير فرض من مقومات هذا الفلاح ، ومن الواضح أن درجة هذا الفلاح تتناسب طردا مع درجة الإيمان والعمل الصالح .