- الآيات ١ إلى ٦
- من سورة الانشقاق
- تلاوة الآيات ١ إلى ٦
احتقار مسرات الدنيا
إن هذه السورة تعرض صورا تفصيلية لحالات العباد يوم القيامة ـ سواء المنعّم منهم والمعذّب ـ ممّا يجعل الإنسان يحتقر كثيرا من صور النعيم والسرور في الدنيا عندما يقارنها بما سيؤول إليه كل ذلك يوم القيامة ؛ حيث قال تعالى ﴿إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ﴾[١] .
وهن السماء
تكرّر في القرآن الكريم ذِكر ما يعتري السماء من الوهن يوم القيامة ، فيعبّر عنه تارة بالانفطار ﴿إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ﴾[٢] وتارة بالانشقاق ﴿إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ﴾ ولعلّ ذلك لبيان التبدّل العميق في عالم الوجود .
فالأرض قد يعتريها التبدّل بالعوامل الطبيعية والبشرية ، ولكن السماء بطبيعتها ـ قبل قيام الساعة ـ لا يعتريها ذلك فكانت مظهرا للقوة والاستحكام ، ومن هنا كان ما ذكر ممّا يجري على السماء ، أبلغ في بيان تصدّع الكون وتبدّله!
الالتئام المؤقت
إن البعض[٣] فسَّر الانشقاق بما كان افتراقا بعد التئام ، وعليه فإن الالتئام كان أمرا مؤقتا في الدنيا لإبقاء حركة الكون بما يخدم المعاش البشري ، فإذا قامت القيامة لم يعد لهذا الالتئام حكمة توجب سلامة الوجود .
ومن الممكن ـ على هذا التفسير ـ أن تكون هذه الآية مشيرة إلى مرحلة الالتئام ما في أول الخلق والمستلزم للتفرّق قبله ، وهو ما يشير إليه بعض الفرضيات الدالة على الانفجار الكوني الهائل في المادة الأولى ؛ والذي تشكلت منه النجوم والكواكب .
الانتقال الى المعقول
إن القرآن الكريم يُقسِم تارة بالظواهر الكونية المستقرّة في الدنيا مثل ﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾[٤] وتارة يذكّر بالظاهرة الكونية غير المستقرة في الآخرة مثل ﴿إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ﴾ ليتأمّل العبد في النتيجة المتمثلة بالمُقْسَم عليه في الأول ، وجواب الشرط في الثاني .
والنتيجة في التعبيرين هي واحدة أي ضرورة الانتقال من المحسوس إلى المعقول ، أي من العلم بالحال إلى العلم بالمآل ، لتكون النتيجة هو العلم بان كل ما في الوجود ـ مستقرا كان أو متبدلا ـ إنما هو تحت السيطرة الإلهية القاهرة .
انقياد الوجود الصامت
إن الوجود كله خاضع لله تعالى خضوع العبد الملتفت إلى مولاه ، ولهذا عبّرت الآية عن السماء وكأن لها أذنا سامعة كسمع بني آدم حيث قال تعالى ﴿وَأَذِنَتْ﴾ كما تشير إلى أنها جديرة بذلك قائلة ﴿وَحُقَّتْ﴾ وهذه الطاعة والانقياد ليست في ذلك اليوم العصيب فحسب ، بل كان الأمر متحققا كذلك منذ بدء الخليقة حيث قالت السماوات والأرض بلسان الحال أو المقال الذي يناسبهما ﴿أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾[٥] .
وليُعلم أن الانقياد يوم القيامة أبلغ ، لأن الأمر فيه متعلق بمقام التخريب والتفريق ، لا البناء والتجميع الذي تحقّق في أول يوم . . فكم من القبيح أن يكون ابن آدم هو المتخلّف عن هذا الركب المطيع؟!
التكرار التأكيدي
إن مدّ الأرض يوم القيامة قد يكون بمعنى : التوسيع في سطحها ليستوعب الخلائق جميعا ، أو بمعنى : تسطيحها وهو يستلزم إزالة الجبال الرواسي ، التي وضعت على الأرض بعد المدّ الأول في أول الخلقة حيث يقول تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ﴾[٦] والأرض في جميع ذلك شأنها شأن السماء في أنها مطيعة لربها ، وحق لها أن تطيع .
ومن هنا تكرر هذا التعبير ﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ﴾ لإفهام أن الوجود كله بسمائه وأرضه ، إنما هو بلون واحد من جهة الانقياد والطاعة .
إخراج الأثقال
لقد تكرر في القرآن الكريم الحديث عن بعث الموتى يوم الجزاء ، بما يُفهم منه : أن الموتى في جوف الأرض وكأنهم أمانات مودعة في باطنها ، كما جاء في قوله تعالى ﴿وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾[٧] وكما جاء في هذه السورة ﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ﴾ وعليها أن تُخرج هذه الأمانات لساحة المحشر عند الحساب ، فلا يظن ظانّ أن من دُفن في الأرض انتهى أمره وترك ذكره ، بعد أن صار رميما! . . بل إن الأرض المطيعة لربها ، ستقدّمهم لله تعالى ساعة الحشر كما أخذتهم ساعة الدفن ، فالتعبير يُشعر بالمبالغة في تخلية ما في جوفها بما لا يبقى معه جزء ـ ولو صغير ـ من هذه الأبدان حيث قال تعالى ﴿وَتَخَلَّتْ﴾ .
الالتفات والمراقبة
إن تعدّد الجمل الشرطية ووحدة الجزاء في مثل قوله تعالى ﴿إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾[٨] وكذا في قوله تعالى ﴿إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾ يدل على عظمة المضامين التي تريد الآيات الكريمة إلفات النظر إليها ، وهو متمثل في المجموعة الأولى : بضرورة (الالتفات) إلى النتائج المستقبلية ، وفي المجموعة الثانية : بضرورة (المراقبة) الفعلية وهو ما غفل عنهما معظم الخلق .
التذكير بالعاقبة
إن هذه السورة ـ كقريناتها من السور المكية ـ تذكّر الإنسان بالنهايات وهو مشغول في البدايات ، وهذا هو مقتضى التعقل ، فإن على العاقل ـ مع قطع النظر عن التعبّد الشرعي ـ أن يجعل جهده في مسير يحقق الغاية من أصل مسيره ، ألا وهي مواجهة الحق يوم القيامة من دون تبعة وعتاب ، ويلخص هذا كله قوله تعالى ﴿إِنَّكَ كادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ﴾ .
قسَم بدون متعلق
إن القَسَم من دون ذِكر المُقْسَم عليه تارة ، والشرط من دون ذِكر الجزاء تارة اُخرى ـ كما وقع في القران الكريم ـ لمن موجبات تحريك الفكر البشري لتقدير المحذوف المناسب ، وهذا أدعى للتأمّل والتدبّر .
ومن موارد هذه القاعدة ما ورد في هذه الآية التي لم تذكر الجزاء صريحا ، وإن كان ذلك مرتبطا بقوله تعالى ﴿إِنَّكَ كادِحٌ إلى رَبِّكَ﴾ ليكون الأمر أوقع في مقام التأثير والتأثر أي الالتفات إلى اللقاء الحتمي ، والذي تشير إليه أيضا آيات اُخر مثل ﴿وَأَنَّ إلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى﴾[٩] و﴿وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾[١٠] .
الكدح للآخرة
إن لأهل الدنيا كدحاً ومعاناة في تحصيل العاجل من المتاع قد يستغرق كل العمر أو جلّه ، وحينئذٍ نقول : أليس من الأولى أن يكون الكدح فيما خُلق الإنسان لأجله؟! . . أضف إلى أن كل ﴿كادح﴾ للآخرة سيرى قطعا أثر كدحه فيها ، بمقتضى قوله تعالى ﴿فَمُلاقِيهِ﴾ بخلاف الكدح للدنيا ، فلطالما خابت أعمال الكادحين لها وفيها!
السير إلى المبدأ
إن الآيات الكريمة تشير إلى ضرورة الحركة في هذه الدنيا نحو المبدأ الأعلى ، فتارة يرد التعبير :
بالفرار ﴿فَفِرُّوا إلى اللهِ﴾[١١] .
بالمسارعة ﴿وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ﴾[١٢] .
بالسعي ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾[١٣] .
بالكدح وفيه معنى السير والحركة مع المعاناة والمجاهدة ، وهو المُستفاد من الحرف المستعمل في انتهاء الغاية وذلك في قوله تعالى ﴿إِلَى رَبِّكَ﴾ .
والملفت أن المُخاطب في ذلك هو الإنسان بما هو إنسان ، والحال أن البعض يرى بأن الجهاد الأكبر تكليف خاص بخواص المؤمنين .
نهاية المسار
إن التعبير بـ ﴿إِلَى رَبِّكَ﴾ قد يُستفاد منه ـ بلحاظ أن هذا الحرف يُستعمل لانتهاء الغاية ـ أن انتهاء الكدح يكون بلقاء الله تعالى ، فلا معاناة بعد ذلك أبدا ، بل إن الذي يتحقق إنما هو ما يقابل الكدح والمتمثل بالسعادة والارتياح ، وذلك كما لو قيل للزارع مثلا : إنك كادح إلى يوم الحصاد ، فانه يفهم منه أنه لا كدح بعد الحصاد .
وفي المقابل فإننا نرى أن معاناة أهل الدنيا لا تنتهي بالموت ؛ بل قد تشتدّ بعد الموت ، ومن هنا كانت الدنيا جنة الكافر وسجن المؤمن .
معاني اللقاء
إن الكدح إلى الله تعالى لا بُد أن يكون متناسبا مع الغاية الإلهية للخلق ؛ فهو إلى الله تعالى كغاية للغايات . . وعليه ، فإن الكدح إذا لم يكن إلهيا ما عاد موصلا إليه ، وبالنتيجة فإن ما يترتب عليه وهو ﴿فَمُلاقِيهِ﴾ لن يتحقق أبدا ، سواء فسّرنا اللقاء هنا :
بلقاء الله تعالى أي لقاء جزائه .
بلقائه هو تعالى بالشهود الباطني .
بلقاء حضوره وحاكميته في عرصات القيامة .
بمعنى لقاء العمل بمقتضى قوله تعالى ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾[١٤] .
وشتان بين كدحٍ للآخرة تكون نتيجته اللقاء مع مَن كان الكدح إليه ، وبين كدح للدنيا تكون نتيجته الخيبة والخذلان ، وحمل أوزار الآخرين كما يقول تعالى ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ﴾[١٥] .
اللقاء الاختياري
إن اللقاء في هذه الآية ﴿فَمُلاقِيهِ﴾ لقاء لازم لكل مَن يرد المحشر ، والكمال كل الكمال أن يسبق هذا اللقاء القهري لقاءٌ اختياري بشوق وإرادة ، وهي الغاية القصوى من الخلقة ، وهو لقاء مترتب على الكدح لا يتحقق إلا في هذه الحياة الدنيا ، فيكون مَثَل هذا اللقاء الاختياري كمَثَل الماء الجاري في قناة محددة للشجرة التي يُراد سقيها منه .
وعندئذ نقول : كم يكون اللقاء القهري جميلا إذا سبقه لقاء اختياري ، وهذا يفسّر شوق أولياء الله تعالى للموت ؛ لأنه تسريع لهذا اللقاء الذي طالما انتظروه ، وكل هذه المضامين من الممكن أن نجدها في وصف أمير المؤمنين × للمتقين .
الفعل المقدر
إنه من الممكن أيضا أن تكون هذه الجمل المتعلقة بأهوال القيامة في مقام النصب لكلمة (اذكر) المقدّرة ، وعلى هذا التقدير أيضا فإن الأمر فيه ما فيه من التأكيد على عظمة ما تريده الآية من التذكير ، وخاصة إذا قدّرنا أن المخاطب هو النبي الأعظم ‘ الذي هو في أعلى درجات الذِكر!
ومن المعلوم أن الذي يتلو القرآن الكريم لا بُد أن يكون في درجة عالية من الالتفات ، عملا بالأمر الإلهي بالتذكر ، وإلا فما فائدة التلاوة المجردة من التأمّل؟