- الآيات ٧ إلى ١٧
- من سورة المطففين
- تلاوة الآيات ٧ إلى ١٧
الإحصاء الإلهي
إن جهاز الإحصاء عند الله تعالى في غاية الدقة والجامعية ، فسجلّ السيئات متصف :
بالكتابة ﴿كِتَابٌ مَرْقُومٌ﴾ وما كتبه الكرام الحافظون لا يعقل في حقهم التفريط .
بأنه في ﴿سِجِّينٍ﴾ وهو الموضع الجامع لما حكم فيه على الفجار ، سواء كان المراد بذلك الموضع أطباق جهنم أو غيره ، وهو بدوره مأخوذ من السجن بوصف المبالغة ، عكس محل كتاب الأبرار المتمثل بـ ﴿عليين﴾ . . هذا إن لم يكن قوله تعالى ﴿كِتابٌ مَرْقُومٌ﴾ وصفا لسجين ، وأما إذا كان وصفا له فالسجين هو الكتاب الجامع .
آثار تكرار الذنوب
إن الآية ربطت بين التكذيب بالمعاد وبين التوغّل في الإثم ، إذ إن تراكم المعاصي يوجب الرين على القلب ، فيحجبه عن الحقائق الواضحة ومنها المعاد ، فيُكذّب بها تارة ، ويصف آيات الله تعالى بأنها ﴿أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ تارة اُخرى . . وقد ورد ما يؤيّد ذلك أيضا في قوله تعالى ﴿ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُن﴾[١] فلا يتبجّح أهل المعاصي بسلامة عقائدهم ، لأن هذه السلامة قد تزول فيتحوّل ﴿ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ إلى مرحلة يعبّر عنها القرآن الكريم ﴿بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ .
ومن المعلوم أن القلب ـ وهو مركز القرار في الوجود ـ لو أصيب بالرين ، فإن العبد سيتمادى فيما يمارسه من الحرام إلى درجة مفزعة .
الإصرار على المعاصي
إن الرين مرحلة لاحقة لإصرار العبد على كسب ما لا يُرضي مولاه ، فليحذر أهل الإصرار على المعاصي ـ وإن كانت المعصية صغيرة ـ من مرحلة الرين ، فقد تتحقق هذه المرحلة فجأة كانفلاق الحجر بعد الطرقة الأخيرة . . وقد ورد في الخبر : «إنّ العبد إذا أذنب ذنبا ؛ نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب ونزع واستغفر ؛ صقل قلبه ، وإن عاد ؛ زادت حتى تعلو قلبه ، فذلك الرين الذي ذكر الله في القرآن»[٢] .
وهناك أمور اُخرى متعلقة بالقلوب وهي في سياق الرين أيضا ، فقد قيل : أن الرين هو اسوداد القلب من الذنوب ، والطبع أشد من الرين ؛ ومعناه أن يُطبع على القلب ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى﴾[٣] ومنها الختم على القلوب ﴿خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ﴾[٤] .
معاني كلمة “كَلّا”
إن استعمال كلمة ﴿كَلاَّ﴾ في القرآن لها دلالات ملفتة : فهي كلمة واحدة ؛ ولكنها تفيد الردع تارة ، والنفي تارة اُخرى ، وقد تفيد غيرهما ، فلها معناها الخاص في كل مورد . . فمن الممكن أن يقال أن المراد بها في :
﴿كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ هو الردع عن التفوّه بالمقال الباطل ، وهو تهمة الأساطير وكأنه في حكم (صه) لمَن يُراد إسكاته بتحقير ، وما صدر منهم إنما هو لوجود الرين على قلوبهم .
﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُون﴾ هو الردع عمّا يوجب رين القلب ، والذي بدوره يوجب مثل هذا التكذيب في الدنيا ، والحجب عن الرب في العقبى .
﴿كلا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّين﴾[٥] هو الردع عن التطفيف والتغافل عن يوم الجزاء .
حجاب الحرمان
إن أهل القيامة رغم انكشاف الحجب عنهم ، ورؤيتهم العينية لمظاهر جلال الله تعالى وكماله ـ إلى درجة رغبتهم الشديدة في محادثة المولى ـ إلا أن القرآن الكريم يصفهم بـ ﴿إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ فهذه هي محجوبية القرب من الرحمة الإلهية ، ويبيّنه قوله تعالى في موضع آخر ﴿وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِم﴾[٦] فهذا السنخ من المحجوبية مستمر معهم في القيامة ، كما كان معهم في دار الدنيا ، وإن ارتفعت عنهم باقي الحجب في عالم البرزخ والقيامة .