- الآيات ٦ إلى ١٢
- من سورة الإنفطار
- تلاوة الآيات ٦ إلى ١٢
التوبيخ للتذكير
إن هذه الآية ﴿يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ من الآيات التوبيخية الجامعة بين التخويف والمنّة على العباد ، والتذكير بصفات الرأفة والكرم ، فكأن الآية تريد أن تقول : إن مَن كانت هكذا آياته يوم القيامة ، ومَن كان متصفا بالربوبية والكرم ، ومَن خلق الإنسان في أحسن صورة[١] ، لا ينبغي لأحدٍ أن يكفر به أو بنعمه ، أو يَغترّ بكرمه وإمهاله! . . والآية لم تذكر منشأ لهذا الغرور بالرب الكريم ، بل أُوكل تقديره إلى العبد نفسه ، فقد يجعله البعض :
كرم رب العالمين الذي أوجب للبعض أن يأمن عذابه .
تسويل الشيطان والنفس الأمارة بالسوء .
جهله بمقام ربه ، فقد ورد عن النبي ‘ عند تلاوته للآية المباركة أنه قال : «غرّه جهله»[٢] .
ولا يخفى ما في تغيير لحن الحديث من الغَيبة إلى الخطاب في ﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ من التأكيد على توجّه العتاب للإنسان ، بعد أن كان الحديث حول النفس بنحو الحديث عن الغائب .
ومن الملفت أن الله تعالى وجّه الخطاب للإنسان ، ست مرات في الآيات الثلاث[٣] ، ممّا يدل على اهتمام المولى في إيصال العتاب إلى الوجدان .
أعجب الخلقة
إن من أقرب أعاجيب الوجود إلى الإنسان هي خلقته الظاهرة له ، والمتمثلة بعجائب بدنه ، فذكّره المولى بأصل خلقته وإخراجه من ظلمة العدم ﴿خَلَقَكَ﴾ ثم بالتسوية بجعل كل عضو في وضعه اللائق ﴿فَسَوَّاكَ﴾ به ، ثم بالتعديل وتحقيق التعادل بين الأعضاء ﴿فَعَدَلَكَ﴾ ثم التركيب النهائي الذي به تتم الصورة النهائية للخلق ﴿رَكَّبَكَ﴾ ويجمع ذلك كله قوله تعالى ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم﴾[٤] .
ومن المعلوم أن ذِكر مجموع ذلك ـ بعد عتاب الاغترار بالرب الكريم ـ أكثر إيجابا للخجل والاستحياء منه!
ردع الغرور
قيل في آية ﴿يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ إن وصف الرب بالكرم ـ أثناء العتاب البليغ ـ كأن فيه تلقين للحجة ليقول العبد بعدها : غرني ربي كرمُك!ولكن هذا الوجه غير سائغ ، فإنه منتقم جبار أيضا ، أضف إلى أن هذه الآيات أعقبتها جملة رادعة حيث يقول تعالى ﴿كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ﴾ فكأنه يقول : بل أنت ومن حاله حالك ، تكذبون بيوم الدين والجزاء ، وعليه فإن ربوبيته القاهرة وكرمه الظاهر ، موجبان للردع عن الاغترار به .
منازل الحفظ
إن الأعمال محفوظة : أولا عند رب العالمين الذي هو محيط من وراء جميع خلقه ، ومن بعد ذلك الملائكة الحافظة وهم من الكرام الكاتبين ، ومن بعدها العبد الذي يرى عمله رأي العين . . فالعاصي عليه أن يستحي أولا من ربه ، ومن الملائكة المقربين ثانيا ؛ لأنها موجودات لطيفة تتقذّر من القبائح ، وثالثا من نفسه عندما يرى تنزله من عالم الاستخلاف إلى عالم عبودية الهوى .
فقد سئل الكاظم (عليه السلام) عن الملكين : هل يعلمان بالذنب إذا أراد العبد أن يفعله ، أو الحسنة؟! . . فقال (عليه السلام) : «ريح الكنيف ، وريح الطيب سواء»؟! . . قال : لا ، فقال (عليه السلام) : «إنّ العبد إذا همّ بالحسنة ؛ خرج نفسه طيّب الريح ، فيقول صاحب اليمين لصاحب الشمال : قم فإنّه قد همّ بالحسنة ، فإذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده ، فأثبتها له . . وإذا همّ بالسيئة ؛ خرج نفسه منتن الريح ، فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين : قف فإنّه قد همّ بالسيئة ، فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده ، وأثبتها عليه»[٥] .
الحفظة من الملائكة
إن الظاهر من الحفظ في ﴿لَحافِظِينَ﴾ هو حفظ الأعمال بقرينة ﴿كاتِبِينَ﴾ ولكن يحتمل أيضا الإشارة إلى ذلك اللطف الإلهي الشامل لجميع الخلق ، حيث جعل ملائكة حافظة لبني آدم من المهالك ، وذلك كما في قوله تعالى ﴿لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله﴾[٦] ويؤيد ذلك ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال في تفسير الآية : «هما ملكان يحفظانه بالليل ، وملكان بالنهار» [٧] . . وروي عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : «أنهم ملائكة يحفظونه من المهالك ، حتى ينتهوا به إلى المقادير ، فيخلون بينه وبين المقادير»[٨] .
التأسي بالملائكة
إنه لمن اللائق بنا ـ نحن البشر ـ أن نتأسى بالملائكة الكاتبة ، فهي لا تكتب إلا ما علمت من أفعالنا ، لئلا تكون شاهدة على غير اليقين ﴿يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ﴾ فالعبد المطيع لمولاه لا يتفوّه ولا يشهد إلا ما كان معلوما لديه ، فإن الظن لا يغني عن الحق شيئا .
أفعال القلوب
من الممكن أن يقال أن ظاهر ﴿تَفْعَلُونَ﴾ يفيد أن الملائكة لا تكتب إلا أفعال الجوارح ؛ لأن أفعال القلوب غيب لا يعلمه إلا الله تعالى ، ولكن من الممكن القول : إن المكتوب بيد الملائكة الكرام يشمل أفعال الجوانح أيضا ، بإعلام الله تعالى للملكين الكاتبين .
ومهما يكن من أمرٍ فإن اطلاع الله تعالى على الجوانح ـ سواء كان مع إطلاع الملائكة أم عدمه ـ كافٍ لأن يراقب الإنسان هواجسه الباطنية أيضا ، مصداقا لقوله تعالى ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور﴾[٩] .