- الآيات ١٥ إلى ٢٩
- من سورة التكوير
- تلاوة الآيات ١٥ إلى ٢٩
تفسير النفي للقسم
إن الآيات التي فيها نفي للقَسَم ﴿فَلا أُقْسِمُ﴾ فُسِّرت بعِدّة وجوه ، والأوجه بينها هو أن الله تعالى يريد أن يبيّن هذه الحقيقة وهي: أن الأمر بمثابة من الوضوح لا يحتاج إلى قَسَم في البين ، وإنه إن كان ولا بُد من القَسَم فإنه يُقسِم بهذه المذكورات .
وهذا جارٍ في العرف أيضا ، حيث يقول الأب : إني لا أريد القَسَم بولدي فإن الأمر كذا وكذا ؛ بمعنى أنه لو أردت قَسَما لأقسمت به ، وهذا خير من دعوى الزيادة في أداة القَسَم!
ملكوت السماوات
إن العديد من آيات القرآن الكريم تشير إلى الكواكب والنجوم بشكل ملفت للنظر ـ سواء بصيغة القَسَم أو بغيرها ـ ومنها ما في هذه السورة من ﴿الْجَوارِ الْكُنَّسِ﴾ والتي يلفّها شيء من الإبهام والغموض من جهة تبيين خنسها ﴿بِالْخُنَّسِ﴾ أي اختفاؤها وجريانها إلى موضع استقرارها ﴿الْجَوارِ﴾ كاستقرار الحيوان في (كناسه) وهو بيته الذي يأوي إليه ﴿الْكُنَّسِ﴾ ففي هذه الآية صور تشبيهية لما لا تناله أيدينا من الكواكب المتحركة المُفسَّرة بالأنجم الخمسة .
وبالجملة فإن مثل هذه الآيات تريد من العبد أن يلتفت إلى ملكوت السماوات وما فيها من الآيات ، وحيث إنها أكبر من خلق البشر ؛ فإن في الالتفات إليها صعودا إلى عالم أوسع في أفق التفكير ، بدلا من التثاقل إلى الأرض .
تنفس الصبح
إن قوله تعالى ﴿وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ﴾ يُشعر بأن النهار مرحلة جديدة من النشاط بعد سكون الليل ، فكأن النهار كان في ضيق أثناء الليل ، وبمجرد انبلاج عمود الصبح تنفّس الصعداء تخلصا ﴿مِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾[١]! . . ولكن هذا المعنى إنما هو لنهار كان له ليل ، أما الذين قلَبوا ليلهم نهارا ؛ فقد لا يعيشون حقيقة هذا الانفراج ببزوغ الفجر .
صفات جبرائيل
إن الأقسام المتكررة في هذه السورة ـ بناء على القسَميّة الصريحة أو المجازية ـ جاءت لتؤكد على حقيقة الأمانة عند جبرائيل (عليه السلام) ﴿مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ ويلازمه صدق القرآن الكريم ، بل صدق كل ما نزل به الملك الكريم من الوحي ، ولا ريب أن تأسيس هذا الأصل ـ أي أمانة حامل الوحي ـ هو أساس لتصحيح الشريعة برمّتها وإسنادها إلى الله تعالى . . وإن التشكيك بهذا الأصل ، يوجب عدم حجية ما أُلقي على النبي ‘ من الوحي لاحتمال تسرّب الخطأ إليه .
مزايا الرسول في الوصي
إذا كان الرسول المُتمثل بجبرائيل (عليه السلام) بهذه المزايا التي ذكرتها الآية من : الكرامة ، والقوة ، والمكانة ، والطاعة ، والأمانة ؛ فكيف بمَن أُرسلوا من الأنبياء والمرسلين؟! . . حيث كان أبوهم آدم كان مسجودا للملائکة .
ومن هنا نقول : إن الوصي إذا كان امتداد للرسول ، فلا بُد وأن يكون فيه الكثير من مزايا الرسول لتتحقق المسانخة بينهما ، فهذه المسانخة فيما بينهما أولى من المسانخة بين الرسول وسفير الوحي!
مطاعية النبي
لو جعلنا الصفات المذكورة متعلقة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما ذهب إليه البعض ـ ومنها صفة المطاعية ـ فإن هذا يدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكرّم عند الله تعالى إلى درجة تكون أوامره مطاعة ، ومقتضى إطلاق ذلك أنه يعمّ عالم التكوين والتشريع معا ، إذ بلغ الأوج في طاعة الله تعالى ، وقد نُقل في بعض الكتب[١] : أن عمه أبا طالب (عليه السلام) قال له : «ما أطوع ربُّك لك يا محمد»! . . فقال ‘ له : «وأنت يا عم لو أطعته أطاعك»![٣]
قصر نظر الكافرين
إن قوله تعالى ﴿وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ لتدل على سفاهة كثير من الخلق ، حيث وصفوا أعقل مَن في الوجود بالجنون! . . ومع ذلك فإن القرآن جاراهم في ذلك ونفى هذه الصفة عن رسوله ، وإن كان هؤلاء القوم دون مستوى أن يحدّثهم رب العالمين في مثل هذا الافتراء العظيم ، ويترقى الأمر في المجاراة إلى درجة يُعبر القرآن الكريم بوصف الصحبة في العلاقة بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين هؤلاء القوم الظالمين قائلاً ﴿وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ﴾ .
ولکن من الممكن أن يقال : إن وصف الصحبة ليس من باب تقريب القوم إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بل للتنبيه على أن هؤلاء عاشروا النبي معاشرة الصاحب لصاحبه ورأوا منه كمال العقل ؛ فكيف تجرأوا على هذه النسبة؟!
شرف اللقاء
إن آية ﴿وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ﴾ تدل على كرامة المتلاقيين :
فمن جهة شُرِّف جبرائيل (عليه السلام)
بأنه رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذه الرؤية لم تكن رؤية مجردة ولقاء عابر ، بل كان يغلب عليها الأنس والمحادثة .
ومن ناحية اُخرى فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى جبرائيل بالأفق المبين ، والمذكور في آية اُخرى في سورة (النجم) بأنه ﴿وهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى﴾[٤] .
فالفخر أن يصل بشر إلى ذلك الأفق الذي لا يصل إليه بشر بطبيعته البشرية ، بل هو مختص بمَن لا يخضع لتأثيرات عالم المادة كالملائكة المقربين .
الكرم الشامل
إن النبي ‘ كريم في عطائه المادي كما هو كريم في عطائه المعنوي ﴿وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾ . . وعليه لزم على المتأسين به ـ كما هو المأمور به شرعا ـ أن يكونوا كرماء في البُعدين معا ، فمَن فتح الله تعالى له بابا من العلم والحكمة ؛ عليه أن يشكر حق هذه النعمة ببثها في أهلها لئلا يظلم الحكمة . . وهذا بخلاف ما صار إليه أهل الرهبانية ، حيث حبسوا آثار الرهبانية على أنفسهم ، فتصومعوا بعيدين عن مواطن التأثير في الآخرين .
التيه والحيرة
إن التائهين في صحراء الحيرة والضلالة ينادَون بـ ﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ﴾؟! . . فمَثل الذين انحرفوا عن جادة الهدى كقوم تاهوا في ظلمات الحيرة ، ومن المعلوم أن سرعة السير لا تزيدهم إلا بعدا!
أضف إلى أن التائه لا يستقرّ على مسير بعينه ، بل يغيّر سبيله مرحلة بعد مرحلة ، وهذه هي حالة المنحرفين فكرياً كما هو مشاهد خارجاً .
التدبر للجميع
إن القرآن الكريم ـ رغم ما فيه من اللطائف والإشارات التي لا يفهمها إلا أهلها ـ هو ذكر للعالمين أيضا ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ﴾ فلا يعتذر أحد بأن كتاب الله تعالى فوق مستوى فهم عامة البشر .
ومن هنا وردت الآيات المختلفة الدالة على أنه : بيان للناس ، وأنه أُرسل للتدبر ، وأنه كتاب مبين ، وأنه آيات بينات .
موجبات الاستقامة
إن القرآن الكريم ذِكرٌ لمَن شاء الاستقامة ﴿لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ فليست آياته بمثابة الماء الذي يُطفئ النار بمجرد الصبّ عليه ، بل يحتاج الأمر إلى : عزم الإنسان لتلقّي معارفه ، والعمل بما تلقّاه ، والاستقامة على ذلك العمل ، ولكن ليُعلم أن هذه المشيئة أيضا مرتبطة بمشيئة الله تعالى ، فهو الذي إذا أراد الخير لأحدهم شرح الله تعالى صدره أولا ، فأراد العبد الاستقامة ثانياً ، فصار القرآن له مذكِّراً ثالثاً .
وهذه خلاصة الآيات الأخيرة ، إذ إن جوهرها تحقق الأمر بين الأمرين ؛ فمن ناحية :
جُعلت المشيئة للعبد لئلا يحتجّ بعدم الاختيار ، إذ تقبح معاقبة المكرَه .
ومن ناحية اُخرى لم يجعل لهذه المشيئة استقلالية تامة في قبال مشيئة الله تعالى ، لئلا ينقطع سلطانه عن الوجود ، وهو ما عبر عنه أمير المؤمنين × بقوله : «عرفت الله بنقض العزائم وفسخ الهِمم»[٥] .
الربط بين المشيئتين
إنه من الممكن القول في جميع موارد ربط مشيئة العبد بمشيئة المولى ﴿وَما تَشاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ الله رَبُّ الْعالَمِينَ﴾ أن المشيئة الإلهية هي المشيئة القاهرة في الوجود بمقتضى الخالقية ، ولكنها من جهة اُخرى تابعة لمشيئة العبد ؛ بمعنى أن العبد إذا أراد الهداية وأمثالها ، فإن الله تعالى بناؤه على إمضاء هذه المشيئة وتحقيق آثارها ، ومن هنا زاد الله تعالى ﴿الَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُم﴾[٦] وهو الذي يهدي ﴿لِنُورِهِ مَن يَشَاء﴾[٧] وهو الذي ﴿يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء﴾[٨] ﴿وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء﴾[٩] .