- الآيات ١١ إلى ٢٣
- من سورة عبس
- تلاوة الآيات ١١ إلى ٢٣
جهات العظمة
إن الآيات المتعلقة بالقرآن الكريم في هذا المقطع ، تدل على عظمة القرآن من جهة أنها :
مجموعة في ﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ﴾ وذلك في عالم الغيب ، سوى هذه الصحف التي بين أيدينا .
أنها مرتفعة القدر ﴿مَّرْفُوعَةٍ﴾ بارتفاع قدر منزلها .
هي ﴿مُّطَهَّرَةٍ﴾ من كل دنس ، ومن أن تنالها يد التحريف .
هي ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾ كرام ؛ وهم أعوان الملك الأعظم جبرائيل (عليه السلام) منزّل الوحي ، ومن هنا كان مطاعا ﴿مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾[١] فقد جرت العادة على استحفاظ نفائس الأشياء بأيدٍ عديدة ، مبالغة في إكرامها أو حفظها .
حملة القرآن
إن القرآن كما تحمله أيدي الكرام البررة في عالم (الإرسال) ، فكذلك يتحمّله كرام الأمة الخاتمة في عالم (التلقّي) ، وهم المعصومون (عليهم السلام) الذين يحملون حقائق القرآن في كل عصر ، ويليهم الأمثل فالأمثل في الطهارة والكرامة ؛ لأن الصحف المكرمة المطهرة تحتاج إلى أوعية متناسبة مع ذي الوعاء في الطهارة والقدس ، ومن هنا فانه لا يستوعب حقائق القران الكريم ـ حتى من العلماء ـ إلا مَن كان طاهرا مطهرا ﴿لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُون﴾[٢] .
التحبب إلى العصاة
إن الرب الذي يدعو المسرفين إلى رحمته متحببا إلى العصاة من خلقه[٣] فإنه يدعو على فئة من خلقه وهم الذين كفروا بأنعمه بأشد التعبير ؛ ألا وهو الموت قتلا ﴿ قُتِلَ الْإِنْسانُ﴾! . . فالتفاوت شاسع بين قوسي الرحمة والغضب ، وذلك لأن في الكفر نوع تحدٍّ لمقام الربوبية .
ومن الممكن بعد التأمل أن نقول : إن الغضب أيضا شعبة من شعب رحمته ، إذ إن قوام العدل وتربية العباد بنفاذ (الغضب) في موضعها ، لتتبين (الرحمة) في موضعها أيضا .
الكفر الأكبر والأصغر
إن الكفر الأعظم يتمثل في تغطية المنعِم بحجاب الإنكار ﴿ما أَكْفَرَهُ﴾ والكفر الأصغر يتمثل في تغطية نِعمه ، ويطلق على مرتكبِهما عنوان (الكافر) ولكن العتاب الشديد في الآيات يتناسب مع الكفر بالربوبية .
ومع ذلك فإن هذا العتاب قد يشمل الكفر بالنعمة بدرجة من الدرجات ، وهذا العتاب لو خففّناه لكان الباقي منه ثقيلا على العبد أيضا ، ومن هنا أُلحق المبذر بالنعمة بـ ﴿إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾[٤] لأنه نوع كفران بها .
تعجب الخالق
إن استعمال صيغة التعجب من خالق الوجود لأمر من الأمور ملفت حقا! . . فالذي لا يرى في الوجود شيئا يُعتد به لعظم سلطانه وترامي ملكه ، فإن إظهار التعجب منه تعالى في كتابه ﴿ما أَكْفَرَهُ ﴾ يدل على فداحة الأمر ، وأي خطب أعظم من إنكار مَن يصف نفسه في موضع آخر قائلا ﴿أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾[٥] .
موت الأرواح
إن الله تعالى عندما دعا بالقتل على الكافر ـ وهو أبلغ من اللعن في بيان الطرد من ساحة الرحمة ـ فإنه لا يُحقق دعائه في الدنيا دائما ، إذ قد يعيش مَن دعا ربه عليه بالقتل منعّما مترفا في الدنيا ، ولكن الأشد من قتل الأبدان هو موت الأرواح الذي هو بحكم القتل لها ﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ﴾[٦] حيث أن جوارحهم الباطنية من سمعٍ ، وبصرٍ ، وفؤادٍ معطلة لا تعمل ، وأي حياة بعد هذا كله؟!
التذكير بالمنشأ
إن القرآن الكريم كثيرا ما يذكّر الإنسان بأصله بتعابير مختلفة ﴿مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى﴾[٧] و﴿مِّن مَّاء مَّهِينٍ﴾[٨] كما أن في هذه الآيات أيضا تذكير للكافر بأصله ، ليذكّره أولاً (بحقارة) منشئه ﴿مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ﴾ فهو من ماء دنسٍ ذي رائحة كريهة ، ولبيان (عظمة) خلقه ثانيا ، إذ إنه تعالى يخرج من ظلمات الأرحام في شهور ثلاثة ما يبهر الألباب بجماله ودقة صنعه ، ومن هنا استحق الدعاء عليه بالقتل عند إنكاره لمبدئه .
وملخص القول : إن مَن كان هذا أصله ، فإنه لا يليق به أن يتفوّه بما يوجب الكفر .
الكمال التكويني والتشريعي
إن التعبير بـ ﴿فَقَدَّرَهُ﴾ يُشعر بأن هناك يدا مُقدّرة ، أرادت التدخل في هذه الفترة القصيرة لتصنع الأعاجيب ، وبعدها يترك الخالق أمر العبد إلى نفسه ، ليصنع ما يشاء! . . فلو أن العبد طلب من مولاه أن يرعاه بلسان المقال ـ بعد خروجه من عالم الأرحام ـ ما كان يطلبه في ذلك العالم بلسان الحال ، أفلا يصل إلى كماله (التشريعي) كما وصل إلى كماله (التكويني) ، حيث اليد المقدّرة في الحالتين واحدة؟!
استحواذ الشيطان
إن الله تعالى خلق الخلق ، وكلٌّ مُيسّر لما خُلق له ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾ وهذا المعنى يراه العبد متجليا في أول الطريق ـ وإن كان عاصيا ـ إلا أنه ومع تكرار المعاصي وخاصة الكبائر منها ، يصل إلى مرحلة لا يرى السبيل مُيسّرا بل ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾[٩] فيرى في نفسه ميلا قهريا إلى الباطل ، والشياطين المستولية عليه تسوقه إلى موجبات العسر سوقا ، وهذا معنى ولاية الشيطان على بعض من اتبع غير سبيل الهدى .
كسر الغرور الباطني
إن الالتفات إلى أول مراحل الدنيا ﴿مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾ وإلى آخر مراحلها ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾ لمن موجبات كسر الغرور الباطني ، وخاصة عند مَن يرى في نفسه مقتضيا لذلك ، كمَن ذكرته الآية في أول السورة ، أي الذي يتصدى لمَن استغنى ويتلهى عمّن يخشى .
فذكر الإماتة والإقبار في سياق العتاب على مَن دعا عليه القرآن بالقتل ، يُشعر بنوع من أنواع التحقير أيضا لمَن يعيش غرور الكفر ، فقد ذكّرته تارة بأنه من نطفة قذرة ﴿أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِين﴾[١٠] ، ففي هذه السورة تذكره بأنه سيؤول أخيرا إلى جيفة نتنة[١١] لا بُد أن تُقبر دفعا للأذى ، فلِمَ الغرور قِبال كبرياء رب العالمين؟!
سير النزول والصعود
إن الإماتة التي مآلها الإقبار ، هي هذه الإماتة الظاهرية للأبدان التي تتحلل في التراب ، ولولا خاصية الأرض في تحليل الموتى ، لكانت الجثث ممّا يوجب التقذر والتنفر من أصحابها! . . ولكن هذا السير النزولي للأبدان ـ عموما ـ يقابله سير صعودي لبعض الأرواح ، فإن من الأرواح ما هو مآلها إلى ﴿مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر﴾[١٢] .
الحكمة من البعث
إن الحكمة الإلهية تقتضي إحياء الموتى لينال المستحق جزاءه من الثواب والعقاب ، ولكن كل ذلك في دائرة المشيئة الإلهية ، ولهذا عبّرت الآية بأنه ﴿إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ﴾ فهو المالك للرقاب : بدء وختما ، تكليفا وجزاء .
الطبيعة الإنسانية
إن الآيات العديدة تصف طبيعة الإنسان بأنها : ميالة للهلع والجزع[١٣] ، وأنه ظلوم وجهول[١٤] ، وأنه في خسر[١٥] ، وهذه الآية تُبين أن الإنسان الذي هو في قبضة مولاه وفي كل تقلباته ، لا يلتفت إلى كل ما ذكرته الآية من الخلق والإقبار ، فهل قضى ما أمره به ربّه؟ . . والجواب ﴿كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ﴾ .