- الآيات ١٥ إلى ٢٦
- من سورة النازعات
- تلاوة الآيات ١٥ إلى ٢٦
الإمداد الغيبي
إن من كان موردا للعناية الإلهية ـ التي بها صار منادىً لمولاه ـ هو الأقدر على مواجهة طغاة الفراعنة ، فالأمر يحتاج إلى قوة في التأثير على باطن المقبلين تارة ، وعلى ظاهر المعرضين أي قوة عددهم وعدتهم تارة اُخرى ؛ وكلاهما لا يتسنى إلا بمدد من عالم الغيب . . وقد أمدّ الله تعالى موسى (عليه السلام) بالقوّتين على ما بينه من قصصه في القرآن الكريم .
طهارة المصلى
إن الحديث مع جانب القدس الإلهي لا يكون إلا في أجواء القدس والطهارة ، ولهذا اختار الله تعالى الوادي المقدس للحديث مع كليمه المقدس (عليه السلام) وأمر خليله (عليه السلام) أن يطهّر بيته للطائفين ﴿طَهِّرَا﴾[١] ومنع المشركين أن يعمروا مساجد الله تعالى ﴿ما كانَ لِلْمُشْرِكينَ أَنْ يَعْمُرُوا﴾[٢] وأمرنا بأخذ الزينة عند كل مسجد ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾[٣] .
ومن هنا أمكن أن يقال : إن مَن يريد أن يكون بيته محلا لمناجاة المولى ، فلا بُد أن يكون طاهرا (ظاهراً) من الخبث ، وطاهرا (باطناً) من حدث المعاصي والذنوب .
رأس المشاكل
إن مَن يريد القضاء على الفساد الاجتماعي ، لا بُد وأن يعالجه بالقضاء على مناشئه ، وعلى رأس تلك المناشيء هو سلوك حكام الجور ؛ فالناس على دين ملوكهم[٤] ﴿إِنَّ الْمُلُوك إِذَا دَخَلُوا قَرْيَة أَفْسَدُوهَا﴾[٥] .
ومن هنا ، فإن الله تعالى أمر موسى (عليه السلام) بمقارعة شخص فرعون في أول خطوة من خطواته الإصلاحية ﴿اذْهَبْ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى﴾ .
القيام بالواجب
إن طغيان المخاطب لا يمنع أبدا من القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذلك :
لإمكان تحقق التأثير عليه ولو بعد حين ، كانقلاب كبار العصاة عما كانوا عليه كسحرة فرعون .
أو من أجل إتمام الحجة عليه ، فتكون العقوبة أشد ، والانتقام أوجه!
المكر والقدرة
إن في الآيات الدالة على هلاك فرعون ، إشعارا بالقدرة الإلهية القابضة على مُلك الجبابرة ، وهذا بدوره يُعد سلوة للمؤمنين عندما يُبتلون بطواغيت عصورهم ، ممّن هم أقل سطوة من الفراعنة! . . وفيها أيضا إثارة للرعب في قلوب الظالمين عندما يعلمون دقة مكر الله تعالى ،فيما لو أراد المكر بقوم كافرين .
لين القول في الدعوة
إن القرآن يعلّمنا الرفق والموعظة الحسنة في دعوة العباد إلى الله تعالى :
فهذا فرعون وهو من أقسى خلَق الله تعالى ، مدعو إلى التزكية بنحو التلطف في السؤال ﴿فَقُلْ هَل ْلَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى﴾ .
وبالقول اللين ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا﴾[٦] مع مَن كان يدّعي الربوبية العليا ، ومَن كان يذبح الرضع من الأبناء .
وهذا موسى (عليه السلام) نسب الرب إلى فرعون قائلا ﴿إِلى رَبِّكَ﴾ إثارة لفطرته رغم أنه لم يعترف بإله موسى (عليه السلام) .
التغيير الداخلي
إن المطلوب من العبد إحداث تغيير في نفسه بمجاهدة من عنده ، وإلا فإن الله تعالى قادر على إحداث هذا التغيير من دون مجاهدة من عبده إختياراً ، كما يحدث كل تغيير في عالم الوجود تکويناً . . ولهذا نرى موسى (عليه السلام) يطلب من فرعون أن يتزكى بنفسه ﴿هَل لَّكَ إلى أَن تَزَكَّى﴾ ولم يقل : لأزكيك مثلا!
الكلمة المحورية
إن عبارة التزكية متكررة في دعوات الأنبياء (عليهم السلام) فهي إن كانت :
بمعنى النمو ؛ دلت على التكامل الإنساني ونموّه المتصل الذي يكون من خلال اتّباع رسالة الأنبياء .
بمعنى الطهارة والتنزه ؛ دلت على أن التخلص من شوائب النفس البشرية أيضا يكون من خلال ذلك .
طلب التزكية
لا بُد في مواجهة البعيدين عن طريق الهدى ، من ذِكر ما يحببهم إلى الطريق وينسجم مع فطرتهم ؛ بدلا من طلب التعبد بما يثقل عليهم! . . ومن هنا لم يدعُ موسى (عليه السلام) فرعون للتعبد بأحكام شريعته ، وإنما طلب منه التزكية التي لا يختلف عليها أحد ممن له فطرة غير ممسوخة ، وهي مطلوبة حتى لمن لم يتديّن بدين أصلاً .
الشدة واللين
إن رسالة الأنبياء متمثلة في هداية مَن يمكن هدايته تارة ، وبمواجهة مَن يستنكف عن قبول الهداية تارة اُخرى ، وهذا ما كان متجليا في حياة إبراهيم وموسى (عليهما السلام) وهو معنى عدم انفكاك الدين عن سياسة العباد .
وآيات القرآن الكريم مليئة بالشواهد الدالة على هذين الأمرين ، أعني إرسال الرسل لهداية الخلق كافة ﴿وما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشيراً ونَذير﴾[٧] ومقاتلة مَن يقف بوجه الهدى الإلهي كافة أيضا ﴿قاتِلُوا الْمُشْرِكينَ كَافَّة كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّة﴾[٨] .
خشية الداعي
إن هناك ارتباطاً ـ في منطق القرآن الكريم ـ بين الهداية ﴿أَهْدِيَك﴾ والتزكية ﴿تَزَكَّى﴾ والخشية ﴿فَتَخْشى﴾ إذ ليس الإيمان منحصرا بالعبادات الجوارحية التي قد لا تلازم هذه الأمور .
ومن هنا أيضا يُعلم أن مَن يريد هداية الخلق ، لا بُد وأن يكون واصلا إلى هذه المقامات و واجدا لها ، وإلا فإن فاقد الخشية والتزكية لا يؤثر في غيره!
علو الهمة للجميع
إن الله تعالى طلب من موسى (عليه السلام) أن يرفع من سقف الطلب لفرعون الذي ادّعى الربوبية ، فجعل المطلوب منه بعض الأمور التي قد لا يرى البعض أنه مكلف بها ، من قبيل التزكية والخشية . . فلِمَ نرى البعض يُعفي نفسه من هذه المقامات ، وهو على درجة مقبولة من الإيمان؟! . .
حصيلة العلم والخشية
إنه من الممكن القول بأن مراحل التأثر بمواعظ الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) تتمثل بالتعلم أولا ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾[٩] ثم الخشية ثانيا ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾[١٠] وثمرتهما الخوف من الله تعالى والانزجار عن نواهيه ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم﴾[١١] إذ إن التفاعل الباطني مترتّب على وجود أرضية الخشية ، ولهذا جعلت الآية العِبرة مترتبة على الخشية ﴿لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى﴾[١٢] .
مراحل التهذيب
إن التزكية تتم على مرحلتين :
فمنها (التزكية الإجمالية) المتمثلة في التخلص من الذنوب ، ثم تلقي الهداية الإجمالية .
ثم (التزكية التفصيلية) الملازمة للخشية ، ومن بعدها يصبح العبد مؤهلا للهداية الخاصة التفصيلية .
وقد ذكرت الآية التزكية أولا ، ثم الهداية ، ثم الخشية ﴿تَزَكَّى﴾ و﴿أَهْدِيَكَ﴾ و﴿فَتَخْشَى﴾ .
تقدم الباطن على الظاهر
إن العمل على البعد الأنفسي مقدم على العمل الآفاقي الخارجي ، فموسى (عليه السلام) :
عمل على الفتح العاطفي والفكري في عالم الأنفس ، مستعينا بلين القول ، والدعوة إلى التزكية والخشية على نحو العرض والاقتراح ، لا على نحو الزجر والأمر .
أراه الآيات الكبرى في عالم الآفاق من العصا واليد البيضاء وغيرها ، إتماما للحجة أو تأكيدا لها .
ومن المعلوم أن باب المعجزة لا ينفتح إلا نادرا ، بخلاف باب التأثير الباطني ؛ فهو مفتوح دائما لمَن أراد أن يعمل عليه ، مستعينا بسنن الأنبياء .
مسؤولية الخواص
إن وظيفة مَن أقبل الله تعالى عليه ـ وخصّه بالألطاف الخاصة ـ تتمثل في استثمار ذلك لهداية الخلق ومقارعة الطواغيت ؛ بدلا من الاستئناس بالحظوظ الأنفسية كما ذهب إليه أهل الرهبانية . . فأول عمل للأنبياء (عليهم السلام) بعد البعثة ، هو إرشاد الضالين ومواجهة المغضوب عليهم ، وهو ما نراه جليا أيضا في حياة النبي الخاتم ‘ .
القوة المناسبة للخصم
إن الله تعالى يمدّ أنبياءه بما يوجب قوة جانبهم متناسبا مع قوة خصومهم ، ومن هنا أمدّ موسى (عليه السلام) بآيات عديدة ، منها ما في هذه السورة ﴿فَأَرَاهُ الآية الْكُبْرَى﴾ وذلك لقوة خصمه الذي ادّعى الربوبية ، بل الربوبية العليا بقوله ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى﴾ إضافة إلى بلوغ حضارته الأوج في العمران وغيره بشهادة أهرامات مصر ، وفي هذا قوة لقلوب كل الدعاة إلى الله تعالى وفي كل العصور! . . إذ إن قوة ما يأتيهم من المدد متناسبة مع قوة الأعداء ، فلا خوف عليهم من هذه الناحية ولا هم يحزنون .
سعي الكافرين
إن أهل الباطل جادون في باطلهم بل هم مجتهدون فيه ، فهذا فرعون ﴿أَدْبَرَ يَسْعَى﴾ إذ لا يخلو السعي من جِد واجتهاد ، فالمؤمنون أولى بالسعي في طلب حقهم . . ومن هنا حق لأمير المؤمنين (عليه السلام) أن يشكو قومه قائلا : «فيا عجبا! . . والله يميت القلب ، ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم ، وتفرقكم عن حقكم ؛ فقبحا لكم وترحا»[١٤]!
والقران الكريم يشير في آية اُخرى إلى أن ما يصيب المؤمنين من الأذى في سبيله يصيب الكفار أيضا ، بفارق البون الشاسع بما لا يقاس في عاقبة الفريقين ﴿إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ﴾[١٥] .
استجماع أدوات الكفر
إن الطغاة يستغلّون في كل العصور أدوات الإعلام الجماعي ، وقد كانت لفرعون القدرة على جمع الناس وإعلامهم بما يريد ، كما يفيده قوله تعالى ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى﴾ وقوله ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾[١٦] ومن هنا يُعرف أيضا أن مقارعة مَن هكذا صفته ، إنما تكون بأدوات مشابهة ؛ أي قوة الإعلام لجمع الأنصار والأعوان في طريق الهدى .
تنوع العقوبات الإلهية
إن لله تعالى نوعين من العقوبة : فهناك عقوبة مؤخرة ليوم تشخص فيه الأبصار[١٧] ، وهناك عقوبة اُخرى معجّلة! . . فالبعض يريه الله تعالى الخزي في الدنيا قبل الآخرة وهذا ما جرى لآل فرعون ؛ فأما عذاب الدنيا ﴿فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾[١٨] وفي الآخرة ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾[١٩] ويجمعهما قوله تعالى ﴿فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى﴾ .
ومن الممكن القول : إن مَن ينازع الله تعالى في سلطانه يُعجّل في عقوبته ، خلافا للعاصي الذي لا يرى في نفسه حالة تحدّ لربه ، بل يرى في باطنه ذلة لما اقترفه .
العقل المنقاد
إن القران الكريم لم يسرد قصص الأنبياء (عليهم السلام) من أجل التسلية على نحو استماع الحكايات ، أوصبّها في قوالب فنية مجردة ، وإنما هي للاعتبار واستلهام الدروس ، وذلك لا يكون إلا لمَن له أرضية الخشية من ربه ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمـَن يَخْشَى﴾ فالعقل المستفيد إنما هو مقترن مع القلب المستلهِم الخاشع ، لما يراه من الأحداث والأشخاص والأشياء .