- الآيات ١ إلى ١٤
- من سورة النازعات
- تلاوة الآيات ١ إلى ١٤
اختلاف مراتب الملائكة
إن هذه السورة مفتتحة بالعديد من الأقسام بالملائكة ، فمنها :
﴿النَّازِعاتِ﴾ وهي التي تنزع أرواح الكفار ؛ شديدة في نزعها من أبدانها .
﴿النَّاشِطاتِ﴾ التي تنزع أرواح المؤمنين ؛ رفيقة بهم عند استلالها من أجسادهم .
﴿السَّابِحاتِ﴾ المسرعة في تنفيذ الأوامر الإلهية ؛ كقبض أرواح المؤمنين ، وإيصالها إلى مقرها في مقعد الصدق عند المليك المقتدر بسرعة .
﴿فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً﴾ المتقدمة في سيرها ، سواء لقبض الأرواح ، أو لتبليغ خطاب الوحي للأنبياء .
﴿الْمُدَبِّراتِ﴾ التي تدبّر شؤون الوجود ، فهي الواسطة بين الأوامر الإلهية الصادرة ومقدرات الكائنات المنجزة .
وهذه الأقسام بدورها تدل على تنوع عمل الملائكة تبعا لتعدد مراتب عبوديتها ، ولا يخفى أن ما تدبّره الملائكة هو من الأمور المهمة ، حيث جاء الأمر بصيغة النكرة ﴿فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً﴾ لإفهام هذه الأهمية .
الوجوه المختلفة للنزع
إن ساعة النزع والموت لمن الساعات المهمة في حياة البشر ، ومن هنا استحق أن ينوّع الله تعالى من عمل الملائكة ، بحسب حالات نزع الكافر وغيره ، وطريقة إيصال الأرواح إلى مكانها اللائق بها ، هذا كله إذا كانت الآية ناظرة إلى تصرفات الملائكة . . وهناك ما يشير إلى أن الآيات ناظرة إلى حالات النجوم بحسب حركتها في السماء[١] . . وهناك ما يشير إلى أنها ناظرة إلى حالات المجاهدين في ميادين القتال ؛ وهذا يؤيد ما قيل عن القرآن الكريم بأنه حمّال ذو وجوه .
السر في التعبير بالنزع
إن نزع الأرواح من الأجساد متناسب مع شدة ترسخها في عالم الشهوات ، فكما يصعب نزع السهم من الجسد لحيلولة نصالها الصغيرة من الخروج ، فكذلك الأمر في أرواح الكافرين ، فإن الملائكة تبالغ في نزع تلك الأرواح كالقسي تنزع بالسهم ؛ أي تُمد بجذب وترها إغراقا في المد .
وسائط الفيض
إن عظمة الملائكة تتجلى في أنها مدبرة للأمر ﴿فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً﴾ أضف إلى القَسَم بهم في سور عديدة ، مثل : سورة الصافات وسورة المرسلات ؛ فهم وسائط التبليغ ، والحال بأن الله تعالى ينسب هذا الأمر الخطير إلى نفسه قائلا ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ﴾[٢] بفارق أن الملائكة وكيلة في التدبير ، والله تعالى هو الأصيل في كل شؤونه .
فهل من الغريب بعدها أن ننسب ذلك إلى كبار أوليائه الذين هم وسائطٌ في الفيض ، وفي رتبة مخدومي الملائكة؟!
الجمع بين المتنافيات
إن انشغال الملائكة بتدبير أمور الوجود الكبرى بأمر من الله تعالى ، لا ينافي استغراقها في تسبيح الله عز وجل بمقتضى قوله تعالى ﴿وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ﴾[٣] فالمطلوب من الإنسان كخليفة لله تعالى في الأرض ـ الذي يضاهي الملائكة في رتبتهم ـ أن يصل إلى هذه الدرجة من الجمع بين الانشغال بالخلق ، والاستغراق بالخالق!
والطريق إلى ذلك قد تشير إليه الآية ؛ وهو إحساس الإنسان بمقام العندية المستفاد من كلمة ﴿وَمَنْ عِندَهُ﴾[٤] وكأن هذا هو مفتاح الوصول إلى الذكر المستغرق .
طولية التدخل الغيبي
إن انتساب حوادث الوجود كالإماتة والرازقية وغيرها ، إلى أسباب متعددة ـ بعد انتسابها إلى الله تعالى ـ إنما هي كانتساب الكتابة إلى القلم واليد في طول الانتساب إلى الإنسان لا في عرضه ، وحينئذٍ لا غرابة في انتساب أمور الوجود إلى أسباب متعددة ، كانتساب الموت إلى ملك الموت[٥] أيضا بعد الانتساب إلى الله تعالى . . وبذلك تبقى عظمة الربوبية بحالها ، بملاحظة هذه الطولية في كل مواردها .
الصيحتان العظيمتان
إن من خصوصيات القيامة أن فيها صيحتين عظيمتين توجبان الاضطراب ، فعُبّر عنهما بـ ﴿الرَّاجِفَةُ﴾ التي توجب الاضطراب العظيم و﴿الرَّادِفَةُ﴾ التالية لها . . وقد استعمل القرآن نفس مادة الاشتقاق بالنسبة للمنافقين في المدينة قائلا ﴿وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ﴾[٦] فكانّ حديث هؤلاء في نشر الأراجيف ، بمثابة الزلزال المُدمر لاطمئنان المجتمع .
حال الكافرين في القيامة
إن حالات الكفار المنكرين للبعث يوم القيامة ، تشبه حالات قلوب المؤمنين في الدنيا في أنها :
﴿واجِفَةٌ﴾ أي مضطربة من خوف الله تعالى ، كوجل قلوب المؤمنين .
﴿أَبْصارُها خاشِعَةٌ﴾ لخشوع قلوبهم ، وهي من أجلِّ صفات المؤمنين في الدنيا! .
والحال أنه بجانب هذه الصفات المشتركة في الآخرة ، هناك صفة تخص المؤمنين في الدنيا وهي أنهم ﴿لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[٧] فالكمال كل الكمال أن تكون صفات القلوب في الآخرة ، متحققة في الحياة الدنيا وهي دار التكامل والقرب .
ما بعد الصيحة الثانية
إن أرض القيامة بعد النفخة الثانية تتحول إلى ما يصفه القرآن الكريم ﴿فَإِذا هُم ْبِالسَّاهِرَةِ﴾ أي مستوية خالية من النبات ، لذا ينبغي للإنسان ـ عندما ينظر إلى مباهج الحياة الدنيا ـ أن يتذكر ذلك اليوم الذي تزول فيه جميع معالم الأرض ، ويبقى معلم واحد يتمثل في كل ما كان منتسبا إلى الله تعالى ، إذ إن الباقي هو وجهه الكريم ، ويلحق به كل ما انتسب إليه .