قال رجل من بني حنيفة من أهل بست وسجستان: رافقت الجواد (عليه السلام) في السنة التي حجّ فيها في أوّل خلافة المعتصم، فقلت له وأنا معه على المائدة، وهناك جماعة من أولياء السلطان: إنّ والينا _ جعلت فداك _ رجل يتولاّكم أهل البيت ويحبّكم، وعليّ في ديوانه خراج، فإن رأيت _ جعلني الله فداك _ أن تكتب إليه بالإحسان إليّ، فقال: لا أعرفه، فقلت: جعلت فداك، إنّه على ما قلت من محبّيكم أهل البيت وكتابك ينفعني عنده.
فأخذ (عليه السلام) القرطاس فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد: فإنّ موصل كتابي هذا ذكر عنك مذهباً جميلاً، وإنّ ما لك من عملك ما أحسنت فيه، فأحسن إلى إخوانك واعلم أنّ الله عزّ وجلّ سائلك عن مثاقيل الذرّ والخردل.
فلمّا وردت سجستان سبق الخبر إلى الحسين بن عبد الله النيسابوري _ وهو الوالي _ فاستقبلني على فرسخين من المدينة، فدفعت إليه الكتاب فقبّله ووضعه على عينيه، وقال لي: حاجتك؟ فقلت: خراج عليّ في ديوانك، فأمر بطرحه عنّي، وقال: لا تؤدّ خراجاً مادام لي عمل، ثمّ سألني عن عيالي، فأخبرته بمبلغهم، فأمر لي ولهم بما يقوتنا وفضلاً، فما أدّيت في عمله خراجاً مادام حيّاً، ولا قطع عنّي صلته حتّى مات.
قال محمّد بن الوليد الكرماني: أتيت الجواد (عليه السلام) فوجدت بالباب الذي في الفناء قوماً كثيراً، فعدلت إلى سافر فجلست إليه حتّى زالت الشمس، فقمنا للصلاة فلمّا صلّينا الظهر وجدت حسّاً من ورائي، فالتفتّ فإذا الجواد (عليه السلام) فسرت إليه حتّى قبّلت كفّه، ثمّ جلس وسأل عن مقدمي ثمّ قال (عليه السلام): سلّم، فقلت: جعلت فداك، قد سلّمت، فأعاد القول ثلاث مرّات: سلّم.
فتداركتها وقلت: سلّمت ورضيت يا بن رسول الله، فأجلی الله عمّا كان في قلبي، حتّى لو جهدت ورمت لنفسي أن أعود إلى الشكّ ما وصلت إليه، فعدت من الغد باكراً، فارتفعت عن الباب الأوّل وصرت قبل الخيل وما ورائي أحد أعلمه، وأنا أتوقّع أن آخذ السبيل إلى الإرشاد إليه، فلم أجد أحداً أخذ حتّى اشتدّ الحرّ والجوع جدّاً، حتّى جعلت أشرب الماء أطفئ به حرّ ما أجد من الجوع والجوى، فبينما أنا كذلك إذ أقبل نحوي غلام قد حمل خواناً عليه طعام وألوان، وغلام آخر عليه طست وإبريق، حتّى وضع بين يديّ، وقالا: أمرك أن تأكل فأكلت.
فلمّا فرغت أقبل فقمت إليه، فأمرني بالجلوس وبالأكل فأكلت، فنظر إلى الغلام فقال (عليه السلام): كل معه ينشط، حتّى إذا فرغت ورفع الخوان، وذهب الغلام ليرفع ما وقع من الخوان من فتات الطعام، فقال (عليه السلام): مه ومه، ما كان في الصحراء فدعه ولو فخذ شاة، وما كان في البيت فالقطه.
ثمّ قال (عليه السلام): سل، قلت: جعلني الله فداك، ما تقول في المسك؟ فقال (عليه السلام): إنّ أبي أمر أن يعمل له مسك في فارة ١ ، فكتب إليه الفضل يخبره أنّ الناس يعيبون ذلك عليه، فكتب (عليه السلام): «يا فضل، أ ما علمت أنّ يوسف كان يلبس ديباجاً مزروراً بالذهب، ويجلس على كراسيّ الذهب، فلم ينتقص من حكمته شيئاً، وكذلك سليمان؟» ثمّ أمر أن يعمل له غالية بأربعة آلاف درهم.
ثمّ قلت: ما لمواليكم في موالاتكم؟ فقال (عليه السلام): إنّ الصادق (عليه السلام) كان عنده غلام يمسك بغلته إذا هو دخل المسجد، فبينما هو جالس ومعه بغلة إذ أقبلت رفقة من خراسان، فقال له رجل من الرفقة: هل لك يا غلام، أن تسأله أن يجعلني مكانك وأكون له مملوكاً، وأجعل لك مالي كلّه؟ فإنّي كثير المال من جميع الصنوف، اذهب فاقبضه، وأنا أقيم معه مكانك، فقال: أسأله ذلك. فدخل على الصادق (عليه السلام) فقال: جعلت فداك، تعرف خدمتي وطول صحبتي، فإن ساق الله إليّ خيراً تمنعنيه؟ قال (عليه السلام): أعطيك من عندي وأمنعك من غيري، فحكى له قول الرجل، فقال (عليه السلام): إن زهدت في خدمتنا ورغب الرجل فينا قبلناه وأرسلناك.
فلمّا ولّى عنه دعاه، فقال له: أنصحك لطول الصحبة ولك الخيار، فإذا كان يوم القيامة كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متعلّقاً بنور الله، وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) متعلّقاً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان الأئمّة (عليهم السلام) متعلّقين بأمير المؤمنين (عليه السلام) وكان شيعتنا متعلّقين بنا يدخلون مدخلنا، ويردون موردنا. فقال الغلام: بل أقيم في خدمتك، وأؤثر الآخرة على الدنيا، وخرج الغلام إلى الرجل، فقال له الرجل: خرجت إليّ بغير الوجه الذي دخلت به، فحكى له قوله، وأدخله على الصادق (عليه السلام) فقبل ولاءه وأمر للغلام بألف دينار، ثمّ قام إليه فودّعه وسأله أن يدعو له، ففعل.
فقلت: يا سيّدي، لولا عيال بمكّة وولدي، سرّني أن أطيل المقام بهذا الباب، فأذن لي وقال (عليه السلام) لي: توافق غمّاً، ثمّ وضعت بين يديه حقّاً كان له، فأمرني أن أحملها فتأبّيت وظننت أنّ ذلك موجدة، فضحك إليّ وقال (عليه السلام): خذها إليك، فإنّك توافق حاجةً، فجئت وقد ذهبت نفقتنا شطر منها، فاحتجت إليه ساعة قدمت مكّة.
استأذن على الجواد (عليه السلام) قوم من أهل النواحي، فأذن لهم فدخلوا، فسألوه في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة، فأجاب وله عشر سنين.
قوله: «عن ثلاثين ألف مسألة»، أقول: يشكل هذا بأنّه لو كان السؤال والجواب عن كلّ مسألة بيتاً واحداً أعني خمسين حرفاً، لكان أكثر من ثلاث ختمات للقرآن، فكيف يمكن ذلك في مجلس واحد؟ ولو قيل: جوابه (عليه السلام) كان في الأكثر بلا ونعم، أو بالإعجاز في أسرع زمان، ففي السؤال لا يمكن ذلك، ويمكن الجواب بوجوه:
الأوّل: أنّ الكلام محمول على المبالغة في كثرة الأسئلة والأجوبة، فإنّ عدّ مثل ذلك مستبعد جدّاً.
الثاني: يمكن أن يكون في خواطر القوم أسئلة كثيرة متّفقة، فلمّا أجاب (عليه السلام) عن واحد فقد أجاب عن الجميع.
الثالث: أن يكون إشارة إلى كثرة ما يستنبط من كلماته الموجزة المشتملة على الأحكام الكثيرة، وهذا وجه قريب.
الرابع: أن يكون المراد بوحدة المجلس الوحدة النوعية، أو مكان واحد كمنى، وإن كان في أيّام متعدّدة.
الخامس: أن يكون مبنيّاً على بسط الزمان الذي تقول به الصوفية، لكنّه ظاهراً من قبيل الخرافات.
السادس: أن يكون إعجازه (عليه السلام) أثّر في سرعة كلام القوم أيضاً، أو كان يجيبهم بما يعلم من ضمائرهم قبل سؤالهم.
السابع: ما قيل: أنّ المراد، السؤال بعرض المكتوبات والطومارات، فوقع الجواب بخرق العادة. (ص٩٣-٩٤)
قالت حكيمة _ عمّة الإمام العسكري (عليه السلام) _: لمّا مات الجواد (عليه السلام) أتيت زوجته أمّ عيسى بنت المأمون فعزّيتها ووجدتها شديدة الحزن والجزع عليه، تقتل نفسها بالبكاء والعويل، فخفت عليها أن تتصدّع مرارتها فبينما نحن في حديثه وكرمه، ووصف خلقه، وما أعطاه الله تعالی من الشرف والإخلاص، ومنحه من العزّ والكرامة، إذ قالت أمّ عيسى: أ لا أخبرك عنه بشيء عجيب وأمر جليل فوق الوصف والمقدار؟ قلت: وما ذاك؟ قالت: كنت أغار عليه كثيراً وأراقبه أبداً وربما يسمعني الكلام، فأشكو ذلك إلى أبي، فيقول: يا بنيّة، احتمليه، فإنّه بضعة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فبينما أنا جالسة ذات يوم إذ دخلت عليّ جارية فسلّمت عليّ، فقلت: من أنت؟ فقالت: أنا جارية من ولد عمّار بن ياسر، وأنا زوجة الجواد (عليه السلام) زوجك، فدخلني من الغيرة ما لا أقدر على احتمال ذلك، وهممت أن أخرج وأسيح في البلاد، وكاد الشيطان يحملني على الإساءة إليها، فكظمت غيظي وأحسنت رفدها وكسوتها
فلمّا خرجت من عندي المرأة، نهضت ودخلت على أبي، وأخبرته بالخبر وكان سكران لا يعقل، فقال: يا غلام، عليّ بالسيف فأتي به، فركب وقال: والله لأقتلنّه، فلمّا رأيت ذلك، قلت: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَاجِعُونَ﴾، ما صنعت بنفسي وبزوجي؟ وجعلت ألطم حرّ وجهي، فدخل عليه والدي ومازال يضربه بالسيف، حتّى قطعه ثمّ خرج من عنده، وخرجت هاربة من خلفه، فلم أرقد ليلتي.
فلمّا ارتفع النهار أتيت أبي فقلت: أ تدري ما صنعت البارحة؟ قال: وما صنعت؟ قلت: قتلت ابن الرضا (عليه السلام) فبرق عينه وغشي عليه، ثمّ أفاق بعد حين وقال: ويلك ما تقولين؟ قلت: نعم _ والله _ يا أبت، دخلت عليه ولم تزل تضربه بالسيف حتّى قتلته، فاضطرب من ذلك اضطراباً شديداً وقال: عليّ بياسر الخادم.
فجاء ياسر، فنظر إليه المأمون وقال: ويلك، ما هذا الذي تقول هذه ابنتي؟ قال: صدقت يا أمير المؤمنين، فضرب بيده على صدره وخدّه، وقال: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَاجِعُونَ﴾ هلكنا بالله وعطبنا، وافتضحنا إلى آخر الأبد، ويلك يا ياسر، فانظر ما الخبر والقصّة عنه؟ وعجّل عليّ بالخبر، فإنّ نفسي تكاد أن تخرج الساعة.
فخرج ياسر وأنا ألطم حرّ وجهي، فما كان بأسرع من أن رجع ياسر، فقال: البشرى يا أمير المؤمنين، قال: لك البشرى، فما عندك؟ قال ياسر: دخلت عليه فإذا هو جالس وعليه قميص ودوّاج ١ وهو يستاك، فسلّمت عليه وقلت: يا بن رسول الله، أحبّ أن تهب لي قميصك هذا أصلّي فيه وأتبرّك به، وإنّما أردت أن أنظر إليه وإلى جسده هل به أثر السيف، فوالله، كأنّه العاج الذي مسّه صفرة، ما به أثر.
فبكى المأمون طويلاً وقال: ما بقى مع هذا شيء، إنّ هذا لعبرة للأوّلين والآخرين، وقال: يا ياسر، أمّا ركوبي إليه وأخذي السيف ودخولي عليه فإنّي ذاكر له، وخروجي عنه فلا أذكر شيئاً غيره، ولا أذكر أيضاً انصرافي إلى مجلسي، فكيف كان أمري وذهابي إليه؟ لعنة الله على هذه الابنة لعناً وبيلاً، تقدّم إليها وقل لها: يقول لك أبوك: والله، لئن جئتني بعد هذا اليوم وشكوت منه، أو خرجت بغير إذنه لأنتقمنّ له منك، ثمّ سر إلى ابن الرضا (عليه السلام) وأبلغه عنّي السلام، واحمل إليه عشرين ألف دينار، وقدّم إليه الشهري ٢ الذي ركبته البارحة. ثمّ أمر بعد ذلك الهاشميين أن يدخلوا عليه بالسلام ويسلّموا عليه.
قال ياسر: فأمرت لهم بذلك، ودخلت أنا أيضاً معهم، وسلّمت عليه وأبلغت التسليم، ووضعت المال بين يديه، وعرضت الشّهري عليه، فنظر إليه ساعة ثمّ تبسّم فقال (عليه السلام): يا ياسر، هكذا كان العهد بينه وبين أبي وبيني وبينه، حتّى يهجم عليّ بالسيف؟ أ ما علم أنّ لي ناصراً وحاجزاً يحجز بيني وبينه؟ فقلت: يا سيّدي، يا بن رسول الله، دع عنك هذا العتاب، فوالله، وحقّ جدّك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان يعقل شيئاً من أمره، وما علم أين هو من أرض الله، وقد نذر لله نذراً صادقاً، وحلف أن لا يسكر بعد ذلك أبداً، فإنّ ذلك من حبائل الشيطان، فإذا أنت يا بن رسول الله، أتيته فلا تذكر له شيئاً ولا تعاتبه على ما كان منه، فقال (عليه السلام): هكذا كان عزمي ورأيي والله، ثمّ دعا بثيابه ولبس ونهض، وقام معه الناس أجمعون حتّى دخل على المأمون.
فلمّا رآه قام إليه وضمّه إلى صدره، ورحّب به ولم يأذن لأحد في الدخول عليه، ولم يزل يحدّثه ويسامره، فلمّا انقضى ذلك قال له الجواد (عليه السلام): يا أمير المؤمنين، قال: لبّيك وسعديك، قال: لك عندي نصيحة، فاقبلها، قال المأمون: بالحمد والشكر ثمّ قال: فما ذاك يا بن رسول الله؟ قال: أحبّ أن لا تخرج بالليل، فإنّي لا آمن عليك هذا الخلق المنكوس، وعندي عقد تحصّن به نفسك وتحترز به عن الشرور والبلايا والمكاره والآفات والعاهات، كما أنقذني الله منك البارحة، ولو لقيت به جيوش الروم والترك، واجتمع عليك وعلى غلبتك أهل الأرض جميعاً ما تهيّأ لهم منك شيء بإذن الله الجبّار، وإن أحببت بعثت به إليك لتحترز به من جميع ما ذكرت لك، قال: نعم، فاكتب ذلك بخطّك وابعثه إليّ، قال (عليه السلام): نعم.
قال ياسر: فلمّا أصبح الجواد (عليه السلام) بعث إليّ فدعاني، فلمّا سرت إليه وجلست بين يديه، دعا برقّ ظبي تهامة ثمّ كتب بخطّه هذا العقد، ثمّ قال: يا ياسر، احمل هذا إلى أمير المؤمنين، وقل حتّى يصاغ له قصبة من فضّة منقوش عليه ما أذكره بعد، فإذا أراد شدّه على عضده فليشدّه على عضد الأيمن، وليتوضّأ وضوءاً حسناً سابغاً، وليصلّ أربع ركعات يقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب، وسبع مرّات آية الكرسي، وسبع مرّات ﴿شَهِدَ ٱللَّهُ﴾، وسبع مرّات ﴿وَٱلشَّمۡسِ وَضُحَىٰهَا﴾، وسبع مرّات ﴿وَاللَّيلِ إِذا يَغشىٰ﴾، وسبع مرّات ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾، فإذا فرغ منها فليشدّه على عضده الأيمن عند الشدائد والنوائب بحول الله وقوّته، وكلّ شيء يخافه ويحذره، وينبغي أن لا يكون طلوع القمر في برج العقرب، ولو أنّه غزا أهل الروم وملكهم، لغلبهم بإذن الله وبركة هذا الحرز… .
(٢) «الشهري»: السمند، وهو اسم فرس. مجمع البحرين، ج٣، ص٣٥٧.
قال عليّ بن مهزيار: كتبت إلى الجواد (عليه السلام) وشكوت إليه كثرة الزلازل في الأهواز وقلت: ترى لي التحوّل عنها؟ فكتب (عليه السلام): لا تتحوّلوا عنها وصوموا الأربعاء والخميس والجمعة واغتسلوا وطهّروا ثيابكم وأبرزوا يوم الجمعة وادعوا الله، فإنّه يدفع عنكم، قال: ففعلنا، فسكنت الزلازل.
قال موسى بن القاسم: قلت للجواد (عليه السلام): قد أردت أن أطوف عنك وعن أبيك، فقيل لي: إنّ الأوصياء لا يطاف عنهم، فقال (عليه السلام) لي: بل طف ما أمكنك، فإنّ ذلك جائز، ثمّ قلت له بعد ذلك بثلاث سنين: إنّي كنت استأذنتك في الطواف عنك وعن أبيك، فأذنت لي في ذلك، فطفت عنكما ما شاء الله، ثمّ وقع في قلبي شيء فعملت به، قال (عليه السلام): وما هو؟
قلت: طفت يوماً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال _ ثلاث مرّات _: صلّى الله على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمّ اليوم الثاني عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ثمّ طفت اليوم الثالث عن الحسن (عليه السلام) والرابع عن الحسين (عليه السلام) والخامس عن عليّ بن الحسين (عليه السلام) والسادس عن محمّد بن علي الباقر (عليه السلام) واليوم السابع عن جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) واليوم الثامن عن أبيك موسى الكاظم (عليه السلام) واليوم التاسع عن أبيك عليّ الرضا (عليه السلام) واليوم العاشر عنك يا سيّدي، وهؤلاء الذين أدين الله بولايتهم. فقال (عليه السلام): إذاً والله، تدين الله بالدين الذي لا يقبل من العباد غيره. قلت: وربما طفت عن أمّك فاطمة (عليها السلام)، وربما لم أطف، فقال (عليه السلام): استكثر من هذا، فإنّه أفضل ما أنت عامله إن شاء الله.
قال البزنطي: قرأت كتاب الرضا (عليه السلام) إلى الجواد (عليه السلام): يا أبا جعفر، بلغني أنّ الموالي إذا ركبت أخرجوك من الباب الصغير، وإنّما ذلك من بخل بهم لئلّا ينال منك أحد خيراً، فأسألك بحقّي عليك لا يكن مدخلك ومخرجك إلّا من الباب الكبير، وإذا ركبت فليكن معك ذهب وفضة، ثمّ لا يسألك أحد إلّا أعطيته، ومن سألك من عمومتك أن تبرّه فلا تعطه أقلّ من خمسين ديناراً والكثير إليك، ومن سألك من عمّاتك فلا تعطها أقلّ من خمسة وعشرين ديناراً والكثير إليك، إنّي أريد أن يرفعك الله، فأنفق ولا تخش من ذي العرش إقتاراً.
روي أنّه حمل للجواد (عليه السلام) حمل بزّ ١ له قيمة كثيرة، فسلّ في الطريق، فكتب إليه الذي حمله يعرّفه الخبر، فوقّع (عليه السلام) بخطّه: إنّ أنفسنا وأموالنا من مواهب الله الهنيئة وعواريه المستودعة، يمتّع بما متّع منها في سرور وغبطة، ويأخذ ما أخذ منها في أجر وحسبة، فمن غلب جزعه على صبره حبط أجره، نعوذ بالله من ذلك.
قال محمّد بن عیسی بن زیاد: كنت في ديوان أبي عبّاد ١ ، فرأيت كتاباً ينسخ، فسألت عنه، فقالوا: كتاب الرضا (عليه السلام) إلى ابنه من خراسان، فسألتهم أن يدفعوه إليّ فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، أبقاك الله طويلاً وأعاذ من عدوّك يا ولد، فداك أبوك، قد فسّرت لك مالي وأنا حيّ سويّ، رجاءَ أن ينميك الله بالصّلة لقرابتك ولموالي موسى وجعفر (عليهما السلام) فأمّا سعيدة، فإنّها امرأة قويّة الحزم في النحل، وليس ذلك كذلك، قال الله: ﴿مَن ذَا الَّذي يُقرِضُ اللَّهَ قَرضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضعافاً كَثيرَةً﴾، وقال: ﴿لِيُنفِق ذو سَعَةٍ مِن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيهِ رِزقُهُ فَليُنفِق مِمّا آتاهُ اللَّه﴾. وقد أوسع الله عليك كثيراً يا بنيّ، فداك أبوك، لا تستر دوني الأمور لحبّها فتخطئ حظّك، والسلام».
قال الحسين بن موسى بن جعفر: كنت عند الجواد (عليه السلام) بالمدينة وعنده عليّ بن جعفر، فدنا الطبيب ليقطع له العرق، فقام عليّ بن جعفر، فقال: يا سيّدي، يبدأ بي لتكون حدّة الحديد فيّ قبلك؟ قال: قلت: يهنّئك هذا عمّ أبيه، فقطع له العرق، ثمّ أراد الجواد (عليه السلام) النهوض، فقام عليّ بن جعفر فسوّى له نعليه حتّى يلبسهما.
قال الحسن بن شمّون: قرأت هذه الرسالة علی عليّ بن مهزيار ١ ، عن الجواد (عليه السلام) بخطّه:
بسم الله الرحمن الرحيم، يا عليّ، أحسنَ الله جزاك، وأسكنك جنّته، ومنعك من الخزي في الدنيا والآخرة، وحشرك الله معنا. يا عليّ، قد بلوتك وخيّرتك في النصيحة والطاعة والخدمة والتوقير والقيام بما يجب عليك، فلو قلت: إنّي لم أرَ مثلك، لرجوت أن أكون صادقاً، فجزاك الله ﴿جَنَّـٰاتُ ٱلۡفِرۡدَوۡسِ نُزُلاً﴾، فما خفي عليّ مقامك، ولا خدمتك في الحرّ والبرد، في الليل والنهار، فأسأل الله إذا جمع الخلائق للقيامة، أن يحبوك برحمة تغتبط بها، إنّه سميع الدعاء.
روي أنّه جيء بالجواد (عليه السلام) إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد موت أبيه _ وهو طفل _ وجاء إلى المنبر ورقا منه درجة، ثمّ نطق فقال: أنا محمّد بن عليّ الرضا، أنا الجواد، أنا العالم بأنساب الناس في الأصلاب، أنا أعلم بسرائركم وظواهركم، وما أنتم صائرون إليه، علم منحنا به من قبل خلق الخلق أجمعين، وبعد فناء السماوات والأرضين، ولولا تظاهر أهل الباطل ودولة أهل الضلال، ووثوب أهل الشكّ، لقلت قولاً تعجّب منه الأوّلون والآخرون، ثمّ وضع يده الشريفة على فيه وقال: يا محمّد، اصمت كما صمت آباؤك من قبل.