– إن عليا -صلوات الله وسلامه عليه- يريد أن يربينا على فكرة ما، ألا وهي محورية النفس والذات.. فالبركات كلها حتى السياسية، والثقافية، والاجتماعية، وفتح البلدان، وفتح النفوس، وإرشاد العباد؛ تبدأ من هذه النقطة.. فالإنسان لا بد أن يتحول إلى مكبر صوت، ولكن هذا المكبر لا بد أن يبث حديثاً، وهذا الحديث لا بد أن يكون مسجلاً، والمسجل يحتاج إلى متحدث.. المتحدث يسجل في شريط، هذا الشريط يتحول إلى بوق إعلامي.. فالبركة كل البركة للمتحدث الأول، لا لمن يسجل، ولا لمن يبث.. فالنبي الأكرم -صلى الله عليه وآله وسلم- أمضى أربعين سنة من عمره الشريف -تقريباً ثلثا عمره- وهو في حالة تربية لنفسه في غار حراء تارةً، وفي خلوات مكة، وفي شعابها، وحول البيت تارة.. راجعوا حياة النبي المصطفى (ص)، كم قام بأعمال اجتماعية ملفتة في هذه السنوات الأربعين من حياته!.. قسم من حياته المباركة كانت في تجارة أموال خديجة.. نعم هذا المال الذي نماه رسول الله (ص) في تجارته إلى الشام وغيرها، عاد ليكون في خدمة الإسلام؛ لأنه مال نماه نبي الرحمة.. إن رب العالمين جعل البركة في هذا المال، فقام الإسلام على الثلاثي: مال خديجة، وجاه أبي طالب، وسيف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
– إن أمير المؤمنين -عليه السلام- في هذه الكلمة، يريد أن يجعل هذه النفس محور اهتمام الفرد أولاً، والقرآن الكريم يؤكد على هذه الحقيقة فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}.. هذه التشريعات الإسلامية الثلاث: الصوم، والحج، والاعتكاف.. وكلها بأوامر الشريعة فرص ذهبية، لأن يُعمِل الإنسان قدراته في نفسه، ويخرج من هذه البرامج الثلاثة: حجاً، واعتكافا، وصوماً؛ بعملية تغيير لذاته.. وكما هو معلوم: فإن الحجر يبقى على مكانه، إلا أن يأتيه محرك، فالأجساد الساكنة تميل إلى سكونها، إلا إذا وجد محرك.. والنفوس لا تخرج من هذه القاعدة، فالذي لا يعمل في حقل نفسه، سوف يبقى على ما هو عليه.. إن البعض يموت في سن الستين والسبعين والثمانين، وهو لا زال في سن المراهقة، لم يتجاوز الخامسة عشر من عمره.. فالسن سن الكبار، والبلوغ النفسي بلوغ الصغار، لم يتقدم إلى ربه خطوة واحدة.
– إن عليا (ع) يقول: (وهانت عليه نفسه، من أمر عليها لسانه).. هذا اللسان من أعجب آيات الله، والنطق حقيقة من آيات الله -عز وجل- {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}.. هنالك حركة دائمة في حاسوب الذهن البشري، ويا له من حاسوب!.. كتلة شحمية، لو تباع في سوق الشحوم، لا قيمة له، منظر عادي جداً، كتلة بيضاء بوزن الكيلو؛ أو أقل أو أكثر من ذلك، وإذا به ينافس أضخم أجهزة الحاسوب، كعمالقة الحاسوب في الدول الكبرى.. وهذا الحاسوب على عظمته، وعلى إعجازه -إن صح التعبير- من بركات المخ البشري.. هنالك حركة دائبة في عالم الفكر صغرى، وكبرى، ومقدمات، ومؤخرات.. وإذا هنالك أوامر تخرج من المخ كلمة مرتبة ممنهجة، ويصل عبر إشارات عصبية إلى جهاز الحديث في الإنسان، ويا له من جهاز معقد!.. هنالك صدر ينفخ الصوت، هذا الصدر –الرئتان– وظيفته إخراج الهواء الفاسد، وسحب الهواء الصالح.. ولكن في نفس الوقت يحرك أجهزة الحديث في الإنسان، يمر على الأوتار الصوتية، هذه الأوتار التي أطربت العالم، بعض المطربين عندما يغنون يسلبون عقول أصحابها، ولهذا يترنحون يميناً شمالاً، وقد يغمى على بعضهم من كثرة السكر السماعي -إن صح التعبير- معروف في الموسيقى القديمة، في الأزمنة السابقة، جاء أحدهم وبيده أدوات موسيقية بدائية بسيطة، وإذا به يعزف به، ما أوجب نوم الحاضرين جميعاً.. ما هذه القدرة؟.. أوتار في الحنجرة ثم الفك، ثم اللسان، ثم الشفتان يخرج هذا الصوت، بحسب الظاهر حركة ميكانيكية، حركة لحمية شحمية عظمية، ولكن بهذا الكلام كم تُهدم بها شخصيات!.. وكم يُبنى بها أفراد!.. رب العالمين في سورة العلق اختار صفة البيان {خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} خلقة الإنسان في عالم، والبيان في عالم آخر.
– إن الإنسان لا بد أن يوجد حلا لهذا الجهاز العجيب الغريب، هذا الجهاز الذي في متناول اليد دائماً، ومن المعروف أن المعاصي القولية من أرخص المعاصي.. فمن يريد أن يسرق لا بد أن يشكل عصابة للسرقة، ومن يريد أن يرتكب الفواحش -لا قدر الله- لا بد من إعداد مسبق، وتحين الفرص لاصطياد الفريسة.. أما الحديث، فإنه يحتاج إلى إرادة فقط!.. هنا يأتي دور الشارع المقدس، ليقول: بأن هذا الكلام له حسابه بين يدي الله، وأي حساب!.. ومن مصاديق الكلام المنحرف الغيبة التي يعبر عنها القرآن الكريم بأكل لحم الميتة، البعض من علمائنا بعد المجاهدة وجهاد النفس، وصل إلى استيعاب ملكوت الغيبة.. فلو كُشف الغطاء عن أحدنا، لرأى حقيقة أو أحس بنتن رائحة الميتة وهو يتكلم عن مؤمن بغيبة (تعطروا بالاستغفار، لا تفضحكم روائح الذنوب).
– إن عليا -عليه السلام- يقول في هذه الفقرة: لا تجعل اللسان أميراً على وجودك، لا تجعله أميراً على نفسك؛ بمعنى أن يجعل الإنسان لسانه أداة حديث بلا رصيد، فيتكلم بلا رصيد في وجوده.. هل هناك إنسان لا يحب أن يكون من الدعاة إلى الله عز وجل؟.. ألا يحب أن يكون من دعاة الخير في أسرته، وفي مجتمعه، وفي قريته، وفي أمته؟.. إن من روافد العطاء الإلهي في هذا المجال، أن لا يتكلم الإنسان إلا بمقدار الحاجة، أو الضرورة.. إن الذين يسيطرون على هذا الجهاز في وجودهم، فأول الجوائز المعطاة لهم في هذا المجال هي الحكمة.. هنيئاً للقمان الحكيم!.. هذا الرجل مغبوط!.. فهو ليس من الأوصياء، وليس من الأنبياء، ولكن القرآن الكريم يُخلد ذكره في سورة لقمان.. وأئمة أهل البيت (ع) الذين هم معادن الحكمة، وزُقوا العلم زقاً، يستشهدون بكلمات لقمان.. فمن أين وصل لقمان لهذه الحكمة؟.. هذا الإنسان الذي كان إنساناً عادياً جداً، من خلال صمته، وطول فكره، نال الحكمة.. (قيل أنه دخل على داود (ع) وهو يسرد الدرع، وقد لين الله له الحديد كالطين.. فأراد أن يسأله، فأدركته الحكمة فسكت.. فلما أتمها لبسها، وقال: نعم لبوس الحرب أنت!.. فقال: الصمت حكمة، وقليل فاعله!.. فقال له داود عليه السلام: بحق ما سميت حكيما).
– إن هذا العطاء الإلهي البالغ الأهمية، لا يحتاج إلى تجشم العناء، ولا يحتاج إلى هجرة، ولا إلى حوزات العلم.. فالقضية قضية إيتاء {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}.. فلقمان ما كان نبيا، ولا وصيا، إنما هو عبدٌ صالح وأُتي الحكمة.. فالمعطي هو الرب، والقانون هو القانون، الله -تعالى- أعطاه الحكمة على وفق ضوابط، وهذه الضوابط هي القاعدة العامة في طوال حياة البشر.
– إن الإنسان عندما يرجع إلى ما مضى من حياته السابقة، فإنه يستوحش، ويكاد يئن للساعات التي أمضاها في غير طاعة الله -عز وجل- عندما ينظر خلفه؛ فيرى صحراء قاحلة، فيها بعض الواحات الجميلة: واحة صغيرة في شهر رمضان، وواحة في شهر محرم، وواحة في حجة، وأخرى في عمرة، وما بينهما صحاري قاحلة.. هذه الصحاري التي لم نستثمرها، هي من موجبات الحسرة يوم القيامة.
– إن البعض من عامة الخلق هؤلاء، لم يتخصصوا في علم، ولا بذلوا عمرهم في قراءات مطولة؛ ولكنهم ينطقون من معدن الحكمة، (قلب المؤمن يزهر كالمصباح، ويضيء كالشمس، ويلمع كالفجر.. يزاد قلب المؤمن من سماع الآيات إيمانا، ومن التفكر يقينا، ومن الاعتبار هداية).. وترى الرجل لا يخطئ بلام ولا ميم، وقلبه كالليل المظلم.. فإذن، إن من روافد الوصول إلى الحكمة، السيطرة هذا اللسان الذي عبر عنه علي -عليه السلام- بقوله: (وهانت عليه نفسه، من أمر عليها لسانه).
– إن الذي يكثر من الصمت الهادف، لا الصمت الذي لا معنى له.. إذ أن هناك صمتا ذهوليا، يكون الإنسان صامتا، فتظنه يعيش الحكمة، وهو يفكر يميناً وشمالاً، ويعيش أحلام اليقظة، وقد يفكر في بعض الصور المحرمة.. هذا الصمت صمت أبله، لا قيمة له.. بينما الصمت الممدوح، هو الذي وراءه فكر، لا خير في صمت لا فكر فيه.. بعد فترة من مزاولة هذه المجاهدة، يصل الإنسان إلى درجة يصبح الكلام ثقيلاً عليه.. إذا أراد أن يتكلم مع أحد يمنّ عليه بالكلام، لأنه يريد أن يعطيه شطراً من حياته، وعندما يزور أحدا في المنزل يمن عليه؛ لأنه يعطيه قطعة من وجوده.
– إن الله -تعالى- يقول في كتابه الكريم: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}.. فموسى (ع) له ميقات مع الله أربعين ليلة، ما المانع أن يأخذ الإنسان عشرة من شعبان، ويضيفها إلى ثلاثين من شهر رمضان، ليجعل لنفسه ميقاتاً مع الله عز وجل؟!.. هنيئاً لمن يعمل بهذه الأربعينية المباركة!.. أحد الصالحين من عوام الخلق، عاش جو مجاهدة معينة، وتوجه إلى الله -عز وجل- بتركيز من خلال أربعينيتين.. يقول: أرى نفسي في حالة اتصال مع عالم المبدأ، وأخذت أفهم ما لا يفهمه الآخرون.. وصلت إلى درجة الإحساس بالمعية الإلهية: أرى الله -تعالى- معي في كل حركة وسكنة.. فهو ينتظر الليل، ليذهب لحرم الرضا (ع) ويعيش ساعات لا توصف.. لم يكن يدخل عند الضريح، وإنما يمشي من رواق إلى رواق ويتأمل ويفكر.. كان يقول: أرى الله –عز وجل- قد أحاط بي من كل مكان، أينما أذهب أراه أمامي.. فأنا كالإنسان الذي وضعته في النار، أينما يذهب يرى النار تحيطه.. -بينما هناك من يذهب للحرم: يبكي، ويخشع، ويصلي.. وعندما يخرج من باب الحرم، يبدأ مزاحه مع القوم، ونظراته اللاهية أو المحرمة، أو همه للطعام والشراب، وكأن حد الإمام الرضا عند بوابات الحرم، وخارج الحرم ليس هنالك من موجبات الرقابة أبداً-!.. يقول هذا الإنسان: إن مشكلتي هي الحديث مع الناس.. إن الذي يعيش جو الحديث مع رب العالمين، ووصل إلى هذه الدرجة من الرشد الباطني، والبلوغ النفسي؛ إذا تكلم بذّا القائلين.. فصاحب تفسير الميزان، هذا الرجل الذي جاء بأفضل تفسير لكتاب الله في تاريخ المسلمين عند المحققين، صفته التي كانت تلفت النظر، أنه كان لا يتكلم بشيء، وإذا به يرمي ما يرمي من الحكم.. نعم، هذه هي ثمرة الصمت والتحكم في اللسان!..
– إن الإنسان إذا ترقى عن عالم المادة، وعالم التثاقل إلى الأرض؛ فإنه يصل إلى درجة أنه إذا أغمض عينيه، يذهب في سياحة في نفسه، لتكون مصداقاً لقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ}.. فعلي -عليه السلام- يقول: (إن الله -تعالى- جعل الذكر جلاءً للقلوب، وتسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به المعاندة.. وما برح لله -عزت آلاؤه- في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات: رجال ناجاهم في فكرهم، وكلمهم في ذات عقولهم).. البعض يقول: المراد بهذا هم الأنبياء!.. ولكن الأنبياء لا يعيشون عالم الظلام.. وعليه، فإن كلام علي -عليه السلام- كلام عام يعمنا جميعاً.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.