– إن هنالك ساعات كثيرة في حياة الإنسان، نسميها الساعات الضائعة، كتلك التي تمضي أثناء زحمة السير، أو حادث.. لذا يجب أن يكون للمؤمن برنامج، فالذي ليس له برنامج لهذه الأوقات؛ فإن وقته يضيع.. وإذا جمع هذه الفترات الضائعة، فإنه بعد فترة من الجمع، سيراها فترة طويلة من الحياة.. هذه الساعات تحتاج إلى برمجة، وهنالك عدة برامج لساعات الفراغ؛ فمثلا: هنالك أسلوب الذكر.. والذكر درجات؛ هنالك ذكر مع تركيز، وهنالك ذكر بلا تركيز.. طبعاً الذكر مع التركيز له قيمة كبرى، ولكن أيضا الذكر بلا تركيز خير من العدم.
– إن في هذه الساعات الضائعة، لابد أن نشغل أنفسنا بشيء: إما بالذكر، والأفضل منه مع الإمكان بالفكر.. والسيارة فيها جهاز كاسيت، مع الأسف البعض مدمن على صنف خاص من الأشرطة، وهو ما يغلب عليه الجانب العزائي وغيره.. هذا جيد!.. ولكن هناك أشياء ثانية، فمثلا: استماع القرآن الكريم، طبعاً استماع آيات القرآن الكريم في حد نفسه فضيلة، واستماع القرآن من المنعشات.. فمن لذائذ الحياة أن يستمع الإنسان إلى كلام الله عز وجل، وخاصة أن هنالك أصواتا وقراءات تحيي النفس؛ فالأنس بهذه الأمور أمر جيد.
– إنه من المستحسن للإنسان أن يفتتح نهاره بحكمة، ويجعلها في باله، وطوال النهار إذا أمكن يفكر فيها.. الحكمة سواءً من كتاب الله -عز وجل-، أو من أقوال النبي المصطفى (ص)، أو من أقوال الأئمة من أهل البيت (ع).. فمن حكم علي قوله (ع): (ولا يخافن إلا ذنبه).
روافد الخوف:
أولاً: الوهم.. إن هنالك خوفا موهوما لا مبرر له، كأن يصور الإنسان في فكره وفي نفسه شيئاً مخيفاً، والحال بأن هذا الشيء لا واقع له.. ومثال هذا الخوف: الاعتقاد بالمس، وتلبس الجن، وتلاعب الشياطين والأجنة به، وهذا تقريباً شائع في مجتمع النساء كثيراً.. فالمرأة خيالها خصب واسع، وسرعان ما تنتقل إلى الأمور التي لا واقع لها في الحياة.. والذي ينكر وجود الجن، هذا الإنسان غير مؤمن بالكتاب الكريم، حيث أن هناك سورة من القرآن حول الجن، هذا أمر لا خلاف فيه.. والقرآن الكريم يعامل الجن كمعاملته للأنس في كثير من الخطابات القرآنية، كقوله في سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} خطاب للأنس والجن.. البعض من العلماء عندما يصل لسورة الرحمن، يتعجب من هذا المعنى، فالحور وما ذكر في سورة الرحمن من المتاع، يبدو أنه مبذول للجن أيضاً، إذا كانوا من المؤمنين.. فأصل القضية لا تنكر، وكذلك الشيطان.. ولكن الكلام فيما يخترعه عامة الناس من القصص الخرافية، والإنسان بطبيعته يريد أن يرمي اللوم على خارج الذات دائماً؛ فيبحث عن هذه الأمور الوهمية.. مثلا: هناك زوجة غير ناجحة في حياتها، ولها مشاكل زوجية، ولا تريد أن تعترف بأنها هي المقصرة.. فتبحث عن أسباب وهمية خارج إطار الحياة المادية، كالسحر والشعوذة.. فتتهم الزوج بأنه مسحور، فيسيء علاقته معها.. والحال بأن سوء العلاقة من الزوج في بعض الحالات، هي ردة فعل لسوء أخلاقها.. هي سيئة الخلق، طبعاً الزوج المبتلى بزوجة سيئة الخلق، يعاملها بالمثل.. والزوجة لا تتحمل سوء الخلق، فينصرف ذهنها إلى هذه الأمور الوهمية.
ثانياً: المنامات.. إن المنام يأخذ من وقت الإنسان لعله ربع ساعة فقط، أما تقرير ما رآه في النوم فهي قصة طويلة.. فالمنام من أصله لا حجية له، ولا قيمة له.. وهذه المنامات هي من روافد الخوف في الحياة أيضا.
ثالثاً: النفس.. إن من مناشيء الوهم والخوف في الحياة، هذه النقطة المهمة.. هذه النقطة من الأبحاث الإستراتجية في علم النفس والتعامل مع النفس؛ لأن النفس محور بحث بين طائفتين: علماء الأخلاق في صفوف المسلمين، وعلماء النفس في صفوف الغربيين وغير المسلمين.. هذه الأيام الأبحاث اللغوية العصبية والبرمجة النفسية اللغوية، من الأبحاث التي لها سوق رائجة في أوساط الناس.. هي أبحاث طريفة وجميلة، ولكن فيها كثيرا من الوهم.. في هذه الأبحاث مسألة مهمة، وهي: أن تعامل أحدنا مع الناس ومع الوجود، ليس تعاملا مع ذوات الأشياء؛ أي أنت ولو في يوم من الأيام تعاملت مع زوجتك في الخارج.. زوجتك في الخارج لها عالم، هذا العالم هي لم تكتشفه، فكيف بك أنت؟.. (من عرف نفسه فقد عرف ربه).. هذه المرأة المؤمنة أو غير المؤمنة، لم تعرف نفسها، هل تعرفها أنت من خلال معاشرات بسيطة؟.. من المؤكد أن هذا لا يمكن!.. أنت تتعامل مع زوجة تصورتها، ورسمتها في فكرك رسماً.. فالتعامل يكون مع الخارج المرسوم في النفس، لا مع ذوات الأشياء، وهنا يأتي الخلل.. فهل هذه الرسمة مطابقة للواقع، أو مخالفة للواقع، ومن الذي ساعدك في رسم هذه الصورة؟..
– إن من أهم وظائف الشيطان في حياة الإنسان، أن يرسم للإنسان صورا غير مطابقة للواقع {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}.. هذه الوسوسة ليست وسوسة جزافية، فالشيطان يصور لك الزوجة على أنها زوجة سيئة.. قد يكون فيها نقاط سلبية، ولكن الشيطان يأتي ليضيف سوءاً إلى سوء.. وهكذا في جانب الرجل، يصوره في ذهنها على أنه إنسان لا أسوأ منه.. ومن هنا هذا الوجود الذهني، إذا تحول إلى وجود مسه الشيطان ورسمه الشيطان، بدأت الخلافات الزوجية.. الإسلام جاء بقاعدة واحدة، أراد أن ينفس هذه النقطة في وجودك، وهي قاعدة الحمل على الأحسن: إذا ظننت في زوجتك سوءا، فاحمل فعلها على سبعين محملا.. حتى أنه ورد في بعض كتب الأخلاق لعله إلى درجة المبالغة، يقول: لو مررت على إنسان، وشممت من فمه رائحة الخمر، يقول بعض الأخلاقيين: عندما تشم رائحة الخمر منه، قل: لعله تمضمض بالخمرة، ربما عنده مرض في اللثة أو في الأسنان، وعلاجه المضمضة بالخمر.. والمضمضة بالخمر ليس فيها إشكال، إنما الإشكال في شرب الخمر.. ولهذا في شهر رمضان، من يتمضمض بالماء من الصباح إلى وقت الإفطار، لا يبطل صومه.. قد يقال: هذا إفراط في الحمل على الأحسن.. ولكن في حياتنا اليومية، هنالك مجالات كثيرة للحمل على الأحسن.
فإذن، إن من مصاديق الخوف الذي لا مبرور له: الأوهام المتعلقة بالجن والمس، والأوهام المتعلقة بالمنامات، والأوهام التي يرسمها الشيطان بريشته الخبيرة، فأكبر الرسامين في العالم هو الشيطان، يرسم لك لوحة وما أقبحها من لوحة!.. ولهذا في الشريعة أنه إذا أحدنا أساء الظن بأحد، عليه أن يحمل عمله على الأحسن، وإن لم يجد له محملاً، وأراد أن يأخذ منه موقفاً.. فإن الإسلام يريد منه أن يكون في منتهى درجات الواقعية في التعامل مع الأمور.
– إن الثمرة من هذا الحديث، أن هنالك أمورا ينبغي أن يخاف منها.. فعلي (ع) في هذه الحكمة يقول: (لا يخافن إلا ذنبه): الذنب بتعبير بليغ: هو عبارة عن معاكسة حركة الوجود.. فالإنسان العاصي ولو كانت المعصية بسيطة، هذا إنسان يسبح ضد تيار الوجود؛ لأن الوجود كله في حال عبادة: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}.. هذا السيف أو الخنجر الذي كان بيد أعداء سيد الشهداء في يوم عاشوراء، وقتلوا به أصحاب الحسين، هذا السيف كان يسبح بحمد الله.. أجزاء السيف: هذه الحديدة، هذا جزء من أجزاء الوجود، يسبح بحمده ربه.. حتى أن البعض من الأولياء الذين كشف عنهم الغطاء، يقولون: بأنهم سمعوا تسبيح الموجودات بشكل مسموع، وكأنه دوي النحل.. إنه أمر محتمل، لأن القرآن الكريم يقول: {وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}، ينفي فقه التسبيح، ولا ينفي أصل التسبيح.. الإنسان عندما يعصي في تلك اللحظة، يتجه في حركة مخالفة لحركة الوجود.. الصادق (ع) رأى أحدهم يغني على دابته، فقال: (أما يستحي أحدكم أن يغني على دابته وهي تسبح)!.. أي الدابة تذكر الله، وأنت المغني على ظهر الدابة تعصي الله عز وجل.. والذي يعصي الله -عز وجل- على فراش النوم كذلك، هذا الفراش يسبح بحمد الله -عز وجل-، ولكن النائم عليه يخالف أمراً من أوامر الله عز وجل.
– إن الإنسان العاصي إنسان شاذ في حركة الوجود، وذلك لأنه:
أولاً: أول سلبية للعاصي أنه إنسان يخالف حركة الوجود -فيه شذوذ.. ومن هنا لو نطقت الحيوانات والطبيعة، لذمت هذا الإنسان الذي يخالف حركة الوجود.
ثانياً: وهو الأهم، أن هنالك جهازا مهيمناً.. فرب العالمين ما ترك ذنباً من دون تأثير على حركة الإنسان في حياته.. لا يتوقع الإنسان أن يرتكب سلبية من السلبيات، وهذه السلبية تمر من دون أن ينقص الله -عز وجل- منه شيئاً أو يضيف له سلبية؛ هذه سنته في الوجود: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}.. فالإنسان عندما يعصي، يخرج منه غاز سام.. هذا الغاز السام لا يفنى، يبقى في الوجود، ويوجب له قساوة القلب؛ لأنه غاز سام.. هذا الغاز يتراكم ويصبح كبسولا كبيرا، ويكون معه في القبر برائحة نتنة.. وهذا الغاز السام، يبقى معه في عرصات القيامة.. إن هنالك في الجمعة الأولى من شهر رجب ليلة تسمى بليلة الرغائب، قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (والذي نفسي بيده!.. ما من عبد ولا أمة صلى هذه الصلاة، إلا غفر الله تعالى له جميع ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر، وعدد ورق الأشجار، وشفع يوم القيامة في سبعمائة من أهل بيته.. فإذا كان في أول ليلة في قبره، جاء ثواب هذه الصلاة فيجيبه بوجه طلق، ولسان ذلق، فيقول له: حبيبي، أبشر فقد نجوت من كل شدة، فيقول: من أنت، فو الله ما رأيت وجهاً أحسن من وجهك، ولا سمعت كلاماً أحلى من كلامك، ولا شممت رائحة أطيب من رائحتك؟.. فيقول له: يا حبيبي، أنا ثواب الصلاة التي صليتها في ليلة كذا، في شهر كذا، جئت الليلة لأقضي حقك، وأونس وحدتك، وأرفع عنك وحشتك.. فإذا نفخ في الصور، أظللت في عرصة القيامة على رأسك، وأبشر فلن تعدم الخير من مولاك أبداً).. كما أن الأعمال الصالحة تتجسد في عرصات القيامة على شكل أمور إيجابية، كذلك المعاصي والذنوب.
فإذن، إن المعصية إذا وقعت من العبد، أوجبت له حركة نشاز مع حركة الوجود أولاً، وأوجبت له سقوطاً من عين الله -عز وجل- بدرجة من الدرجات.
– إن على الإنسان أن يتأمل في هذه الآية: {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى}.. مثلا في القضاء: بعض الأوقات القاضي له الحق أن يحكم على المجرم بالسجن مع وقف التنفيذ، لأنه تجاوز الحدود، وقام بمخالفة أخلاقية؛ ولكن لأنه طبيب، والمستشفى تحتاج إلى هذا الطبيب الماهر.. وإذا ارتكب مخالفة ثانية، أيضاً يحكم عليه ستة أشهر مع وقف التنفيذ.. ولكن في المرة الثالثة والرابعة، كل هذه المخالفات تجتمع مع المخالفات الجديدة، ويعاقب عليها معاقبة بليغة.
– إن رب العالمين له هذه السياسة، يحكم على المؤمن بشيء، ولكن مع وقف التنفيذ.. وذلك لأنه ربما كان في شهر محرم يقيم عزاء الحسين (ع)، أو كان رادوداً، أو ربما خدم المعزين؛ فكرامة لهذا العمل، رفع عنه الحكم.. أو ربما في ليلة ذهب إلى المنزل، وقبل أن تفطر والدته أعطاها قطعة حلوى، وقال لها: يا أماه، كلي هذه التمرة من يدي.. قال رسول الله (ص): (من أطعم أخاه حلاوةً، أذهب الله عنه مرارة الموت).. بعض العلماء يقول: ليس الإطعام أن تجعله في يده، ولا أن تقدم له في طبق، بل أن تطعمه؛ أي تجعل في فمه قطعة حلوى -على المتزوجين أن يقوموا بهذا العمل، ليس من باب المغازلات الشبابية، بل من باب العمل بالرواية.. فليجعل الحلوى في فم زوجته، وليقل: يا رب، أطعمتها حلاوة، لتذهب عني مرارة الموت.. فهذا العمل لا يذهب من قلبها أبداً، وفي الآخرة يذهب الله عنه مرارة الموت- لعل الإنسان هذا اليوم نظر إلى فتاة أجنبية، وهو صائم، وهو خارج من المسجد؛ فحكم عليه رب العالمين مع وقف التنفيذ.. وعندما يذهب إلى هذه الوالدة، ويدخل عليها السرور، من الممكن هذا الحكم أصلاً يلغى، ليس فقط مع وقف التنفيذ.. إلا أنه نحن لا نعلم ما الذي يجري في كمبيوترات رب العالمين، لكل واحد منا ملف، ويا له من ملف، ملف دقيق!.. {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا}، نعم {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}.. فالخوف هو من تراكم هذه المعاصي والذنوب، إلى درجة تسقط الإنسان من عين ربه.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.