إن هنالك عتابا على المؤمنين في زمان الغيبة: منذُ أن غاب -صلوات الله وسلامهُ عليه- إلى يومنا هذا وهذا العتاب قائم؛ ألا وهو أن تعاملنا مع هذا الإمام ليس على المستوى المطلوب.. فهو: إمامٌ حيٌ حاضرٌ، نترقب ظهوره.. ويعيش آلامنا، ولا يستبعد أن الإمام -عليه السلام- في صلاة ليلهِ يدعو للمنتخبين من المؤمنين، وهو في كل عصر يشهد الموسم.. ومع ذلك كله، نلاحظ بأن هنالك جفوة من المؤمنين تجاهه.. فالاعتقاد النظري بالإمام -عليه السلام- لا يغني عن هذا الارتباط الشعوري.. كلهم نورٌ واحد، ولكن البعض في زمان الغيبة علاقتهُ بإمام زمانهِ كعلاقتهِ مع الإمام الهادي والإمام العسكري -عليهما السلام-.. صحيح هما أبوان له، ولكنّ هناك فرقاً بين إمامٍ قائمٍ يدعو الناس إلى طاعة الله -عز وجل- وبين إمام توفاهُ الله شهيداً!.. وهذا الجفاء يعود لعدة أسباب، منها:
أولاً: إن طبيعة الإنسان طبيعة تعتقد الشهود؛ يتفاعل مع المرئي والمحسوس، ولهذا ورد في القرآن الكريم، في سورة البقرة، أن أول صفة من صفات المؤمنين، الإيمان بالغيب، {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}؛ الغيب سواءً كان غيباً ما لا تلمسهُ الحواس: كرب العالمين، والملائكة.. أو الغيب ما كان غائباً عنا، وإن كانَ مادياً: كهذا الوجود الشريف.. ومع ذلك في نفس هذهِ الآيات يقول: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}.. إذا بلغ الإنسان مستوى من النضج الفكري والنفسي، يتعامل مع عالم الغيب كتعامله مع عالم المادة، بل أكثر من ذلك!.. هنالك غيب لهُ تغلغل في عالم المادة أكثر من وجود المادة نفسها، صلوات الله على سيد الشهداء الذي كان يناجي ربه في يوم عرفة بتلك المناجاة المعروفة: (أيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ لَكَ، حَتّى يَكُونَ هُوَ الْمُظْهِرَ لَكَ؟.. مَتى غِبْتَ حَتّى تَحْتاجَ اِلى دَليل يَدُلُّ عَليْكَ؟.. وَمَتى بَعُدْتَ حَتّى تَكُونَ الاْثارُ هِىَ الَّتى تُوصِلُ اِلَيْكَ)؟.. ثم يتفاعل الإمام -عليه السلام- ويقول: (عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْها رَقيباً، وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْد لَمْ تَجْعَلْ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصيباً).. أبوه أمير المؤمنين -صلوات اللهِ وسلامهُ عليه- عندما يصل إلى الذات الإلهية يقول: (ما رأيت شيئاً، إلا ورأيت الله: قبله، وبعده، ومعه).. وضوح هذا الوجود الربوبي، هذا الشهود الربوبي؛ لا يقاس.. وجود العلةِ أين، ووجود المعلول أين؟.. واجب الوجود أين، وممكن الوجود أين؟..
وعليه، فإن المشكلة تكمن في النضج والبلوغ.. ولهذا لو قدمت شهادة دكتوراه لصبي ما بلغ سن الحلم، وخيرتهُ بين هذهِ الشهادة الراقية، وبين لعبةٍ يلعب بها؟.. فإنه سيقول: ما لي وهذهِ الورقة، أنا أريد ما ألعب به!.. لأنهُ لم يفهم ما معنى هذهِ الورقة، هذهِ الورقة شهادةٌ على أنهُ عالم، ولكن ما لهُ وهذهِ الشهادة؟!..
إن نعيم الجنة لا يخطر على بال بشر، ولكن الذي هو أرقى من النعيم: الرضوان الإلهي، الرضوان الإلهي حالة معنوية، علاقة بين العبد وربه، يقول القرآن الكريم: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}!.. رحيق الجنة؛ غاية النعيم في الجنة هذهِ العلاقة بين العبد وربه.. هذهِ الحالة المعنوية بإمكان الإنسان أن يجريها في الحياة الدنيا.. فالذي يعيش في الدنيا، ويشعر بأن الله -عز وجل- قد رضي عنه؛ هذا الإنسان حاز على رحيق الجنة وهو في الحياة الدنيا.. ولهذا ما لهُ والحور، وما لهُ والقصور؟!.. عليٌ -عليه السلام- يعيش هذا الرضوان في المسجد، ولهذا يجعل الجلوس في المسجد أحب إليه من الجلوس في الجنة، وهذا ليس بمجاملةٍ أبداً، عليٌ لا يجامل.. كان يقول: (جلوسي في المسجد، أحبّ إليّ من جلوسي في الجنّة.. لأنّ الجلوس في المسجد رضا ربّي، والجلوس في الجنّة رضا نفسي.. ورضا ربّي أولى من رضا نفسي).
فإذن، إن التفاعل مع القضية المهدوية، والتفاعل مع القضية الإلهية، والتفاعل مع الحقيقة المحمدية؛ كل ذلك يتوقف على هذا البلوغ.
ثانياً: مشكلتنا أيضاً في الجانب النظري.. إن الذي يعرف حقيقة الإمامة، ويعرف موقع الإمام من الأمة؛ هذا الإنسان لا يملك نفسهُ إلا أن يكون متفاعلاً.. إن كل حديث عن أئمة أهل البيت -عليهم السلام- لابد أن يترجم في ساحة الحياة.. إنهم ليسوا لوحات نعلقها على الجدران.. علي على رأسِ هرم بعد النبي الأكرم (ص)، والذين يتبعونهُ يسمون بشيعته، وبأتباعهِ {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ}.. إبراهيم كان مشايعاً لخط الأنبياء من قبله، أي كان يمشي على دربهم.. حديث الفضيلة، وحديث المنزلة؛ لابد وأن يترجم إلى سلوكٍ في الحياة.. ليس الغرض من هذهِ السلسلة أن نلهج بذكر أئمتنا -عليهم السلام- وكأنهم في أبراج عاجية لا يمكن الوصول إليها.
إن على المؤمن أن يجتاز دورة أربعين صباحاً، يذكر فيها إمامهُ -صلوات اللهِ وسلامهُ عليه- من خلال دعاء العهد، الذي يعد من أروع أدعية زمان الغيبة.. فكلمة “العهد”؛ تعني الميثاق والمعاهدة.. منذ أن غاب -صلوات الله وسلامهُ عليه- أصبحت الحجة أكمل علينا؛ قياساً إلى من كان في زمان إمامنا الصادق (عليه السلام).. لأن من كان في زمان الإمام الصادق -عليه السلام- بلغتهُ حجج ستة من أئمة أهل البيت (ع)؛ أما نحنُ في زمان الغيبة، فقد بلغتنا الأقوال من اثني عشر إماما.. وفي زمان هذهِ الثورة المعلوماتية الذي يدعي أنهُ قاصر، ولا يمكنهُ الوصول لأبواب المعرفة؛ فهذا حجتهُ داحضة.. الحمد لله هذهِ الأيام الفضائيات، والمواقع، والكتب، وأدوات المعرفة الحديثة؛ كلها حجة علينا.
إن الإمام الصادق -صلوات اللهِ عليه- يقول: (من دعا إلى الله أربعين صباحا بهذا العهد)؛ لماذا اختيار الصباح لهذا الدعاء؟.. إن الكثيرين يشتكون من جفاف الدمع، والكثيرين يشتكون من عدم الخشوع في الصلاة: يأتي موسم محرم لا تذرف لهُ دمعة على سيد الشهداء، ويذهب للحج عشرين شهرا لا يخشع في موقف من مواقف الحج.. هذا مرض وفقر ما دونهُ فقر!.. وكما روي عن الإمام الباقر (ع): (إنّ لله عقوبات في القلوب والأبدان: ضنك في المعيشة، ووهن في العبادة، وما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب)!.. هذا مرض، وهذهِ بلية من البلايا، أو تعلم أن من أسباب رفع هذهِ البلية العمل في الصباح؟!.. الكثير منا يغط في نوم عميق بين الطلوعين، بينما الأرزاق تقسم في هذا الوقت، وقد قال الرضا (ع) في قول الله عزّ وجلّ: {فالمقسّمات أمراً}: (الملائكة تقسّم أرزاق بني آدم ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس، فمن ينام فيما بينهما ينام عن رزقه).. أين نحنُ من هذهِ العطايا؟..
أو تعلم أن مثل الصلوات مثل المضاد الحيوي، الذي لا يأخذ المضاد في ساعاته من الممكن أن لا يؤثر أثرهُ.. البعضُ منا يصلي صلاة الظهرين والعشاءين في وقتٍ متقارب.. هذا الإنسان صحيح هو ليس بتارك للصلاة، ولكن هذا الإنسان لا ينطبق عليهِ قول النبي الأكرم (ص): (أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟.. قَالُوا: لا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ.. قَالَ: فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا).
إن الذين يشعرون بهذا الفقر العلمي والعملي والشعوري، أول خطوة لهم أن يحيوا هذا الوقت الميت.. الوقت الذي يمر على الإنسان بينَ الطلوعين لا يُقاس بهِ وقت من الأوقات، إنه وقت عجيب!.. لا هو ليل ولا هو نهار، هدوءٌ عجيب!.. لو عملت إحصائية لوجدت أن أدنى درجات المعصية على وجه الأرض، هو بين الطلوعين.. حتى أصحاب الفسق والمعاصي إذا دخل الفجر تقريباً الكل يرقد وينام.. فالناس في هذا الوقت يكونون في أفضل درجات ممكنة: إما إنسان يصلي، وإما إنسان نائم، والمعاصي في أدنى درجاتها؛ وهذا لهُ تأثير في عالم الطبيعة، وفي عالم الوجود.. إذن، دعاء العهدِ لمدة أربعين يوما يكون صباحاً، ومن علامات الارتضاء الإلهي للعبد أن يوفق لهذهِ الأربعينية؛ فالبعض يلتزم وقبل انتهاء الأربعينية بأيام، يغلب عليهِ النوم والنعاس.
إنه لمن الغريب أن هذا الحديث روي عن الإمام الصادق -عليه السلام-، وهو تقريباً في وسط سلسلة أئمة أهل البيت، ولكن يذكر ولدهِ المهدي صلوات الله وسلامهُ عليه.. الإمام الصادق -صلوات اللهِ عليه- قال: (من دعا إلى الله أربعين صباحا بهذا العهد)، من دعا لا من قرأ!.. ومشكلتنا أننا لا ندعو بهذا الدعاء، وإنما نقرأ الدعاء.. وفرقٌ بين الدعاء وبين قراءة الدعاء، كالفرق بين الماء الذي يروي الغليل، وبين كلمة الماء التي لو تلفظت بها ملايين المرات لا تروي لك ظمأ، إنما قطرات من الماء هي التي تروي الغليل.. فإذن، من دعا بهذا العهد لا من قرأ هذا العهد، يرجى أن يكون من أنصاره.
أن يكون الإنسان من أنصارهِ، لا يُلازم أن يدرك دولتهِ الكريمة، ولكن الإنسان في زمان الغيبة قد يكون من أقوى وأشد أنصاره.. أو تعلم أن النبي (ص) عندما كان يقيس بين أصحابه الذين كانوا معه، وبين الذين سيأتون في زمان الغيبة، من أصل أعوانهِ ومقوية هذا الدين، كان يُرجح كفتنا نحنُ في زمان الغيبة.. (بينما رسول الله (ص) بين أصحابه إذ قال لهم: اشتقت إلى إخواني.. قالوا: أو لسنا إخوانك؟.. قال: أنتم أصحابي، إخواني قومٌ يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني)؛ وذلك لأننا آمنا بسوادٍ على بياض.. الذي كان مع النبي ويرى شق القمر، ويرى الملائكة المسومة في معركة بدر؛ هذا الإنسان رأى الحُجج.. أما نحن ما رأينا النبي، وما رأينا معجزات النبي، وآمنا به، كما نقول في الدعاء: (اللهم!.. كما آمنت بمحمد ولم أره، فعرفني في الجنان وجهه).
فإذن، إن المقصود من هذهِ العبارة، أن ينظر الإنسان إلى تكليفهِ في زمان الغيبة!.. كيف ينصره صلوات اللهِ وسلامهُ عليه؟.. نصرتهُ بأن يتقن تربية أبنائه، وأسرته؛ عندما يتقن الإنسان تربية هذهِ الذرية، ألا يحتمل أن يكون حفيده العاشر من أنصارهُ صلوات اللهِ وسلامهُ عليه؟.. هو أسس اللبنة!.. وبالتالي، فإن الذي يربي ذرية طيبة صالحة لنصرته (عج)، ويموت على هذهِ النية؛ سيؤجر على نيتهِ، وما ذلك على الله بعزيز.
الخلاصة:
١- إن الملاحظ أن تعاملنا مع إمام زماننا عليه السلام ليس على المستوى المطلوب، وهناك جفوة تجاهه من المؤمنين إذ أن الاعتقاد النظري به عليه السلام لا يغني عن الارتباط الشعوري.
٢- إذا بلغ الإنسان مستوى من النضج الفكري والنفسي ، يتعامل مع عالم الغيب كتعامله مع عالم المادة بل أكثر من ذلك،وتفاعلنا مع القضية المهدوية متوقف على هذا البلوغ.
٣- أن الكثيرين يشتكون من مرض جفاف الدمع ، وقلة الخشوع في الصلاة، ومن أسباب رفع هذه البلية تجنب النوم بين الطلوعين فالأرزاق تقسم في هذا الوقت.
٤- أن مثل الصلوات كمثل المضاد الحيوي، فالذي لا يأخذ المضاد في ساعته من الممكن ألاّ يؤثر أثره.
٥- أن الفرق بين الدعاء وقراءته كالفرق بين حقيقة الماء وكلمة الماء فالذي يروي الظمأ الماء لا ترديد اسمه، وكذلك دعاء العهد فمن دعا به لا من فقط قرأه يرجى أن يكون من أنصار إمام الزمان عليه السلام.
٦- أن من نصرته صلوات الله وسلامه عليه في زمن الغيبة ، أن يتقن الإنسان تربية أبنائه، وأسرته، والذي يربي ذرية صالحة لنصرته عجل الله تعالى فرجه ويموت على هذه النية، سيؤجر على هذه النية وما ذلك على الله بعزيز.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.