س١/ جاء في الحديث عن الرسول الأكرم (ص): (صوموا تصحوا).. من المعلوم أن الإنسان يضعف جسدياً بسبب الصوم، فكيف يمكن أن يكون الصيام صحة للإنسان؟..
لا ينبغي أن نحصر معنى كلمة (تصحوا) في هذه الرواية بالصحة الجسدية فقط، وإنما يفهم من المعنى أيضاً مسألة الصحة النفسية من خلال الصوم.. فالقضية لا تحتاج إلى تخصص طبي، لنفهم أن حاجة البدن للطعام هو أقل بكثير مما نأكله نحن.. وحسب كلام الأطباء: أن قسما كبيرا من هذا الطعام الهنيء -وقد يكون من الطعام الذي ينفق بإزائه أموال كثيرة من الطعام الفاخر، كطعام الملوك والسلاطين- يمر من خلال الأمعاء كأي مجرى، ثم يؤخذ منه المقدار اللازم، ويعد قليلاً بالنسبة إلى ما هو موجود.. أي أن هذا الجدول الذي نصب فيه هذه الكمية من الطعام، فإن المطلوب منه أقل بكثير مما هو يمر من خلال هذا الجدول التي هي الأمعاء.. فيأتي الصوم لكي ينظم هذه العملية، ويثبت للإنسان أن بإمكانه أن يعيش على أقل من ذلك.
والدليل على ذلك: أن البعض في شهر رمضان، يفضل النوم على السحور -وهو بذلك يكون قد حرم نفسه من بركات الأسحار: دعاءً، ومناجاةً، وطعاماً- ويقتات على طعام واحد عند الإفطار، ومع ذلك يرى نفسه في ختام الشهر الكريم قد زاد وزنه.. فهو يرى في مقام العمل، أن الحاجة للطعام أقل بكثير مما كان يظن.
وقد ورد هذا الحديث المأثور عن النبي الأكرم (ص): (أن المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء).. وما نراه هذه الأيام من الأمراض المتفشية -وخاصة في دول الخليج- الأمراض المتعلقة بالجهاز الهضمي: كالكلسترول، وما شابه ذلك، وأمراض القلب.. فإن منشأها عبارة عن الإسراف في المطعم والشراب.
س٢/ هنالك رأي لأحد الأطباء يخالف فيه قول: بأن الصوم صحة للإنسان، ويقول: بأنه لا علاقة للصوم بالصحة الجسدية، بل على العكس، فهو يسبب له الضعف والتعب، ويقلل من العناصر الغذائية المهمة، التي ينبغي أن يستفيد منها الإنسان كالفيتامينات وغيره.. فما هو تعليقكم على ذلك؟.. وهل يمكن أن نقصر الحديث على مسألة الصحة النفسية لا البدنية؟..
من الواضح أن كلمة (تصحوا) تنقل الذهن مباشرة إلى الصحة البدنية!.. وهذا الذي نراه بأم أعيننا من الإرهاق والتعب في النهار، ليس معناه أن الإنسان في حالة غير صحية!.. لأن نفس عملية التجويع، هي عملية مطلوبة.. وذلك بمثابة إنسان يذهب إلى حمام البخار -مثلاً- لكي يتخلص من العرق الزائد في بدنه.. أي أنه -بلا شك- أن هنالك ارتباط بين عملية الصوم المادي البدني، وبين تخليص البدن من هذه السموم.
ولهذا نلاحظ أن الصائمين، لهم في الليل نشاط عجيب وغريب، إلى درجة أنهم يسهرون إلى الصباح -في بعض البلدان- وهم بكامل نشاطهم، وأكثر من نشاطهم في باقي أيام السنة.. وقول أمير المؤمنين (ع): (الصيام أحد الصحتين): أي أن هنالك صحة نفسية، وهنالك صحة بدنية.. -هذا على احتمال-.. وهنالك احتمال آخر في هذه الرواية: أنه هنالك صحة تأتي من الطعام، ومن الاهتمام بالصحة وما شابه ذلك.. وهنالك صحة، تأتي من خلال كف النفس عن بعض المأكولات.. فكما أن الطعام يوجب القوة في بعض الحالات، فإن الشارع يرى أن الطريقة الصحيحة التي توجب القوة، هي الكف عن الطعام.
س٣/ لكل شيء في الإسلام آداب.. هل يمكن أن نتحدث عن آداب للإفطار والسحور؟..
هنالك آداب عامة لتناول الطعام، سواءً كان في هذا الشهر أو في غيره من الشهور: كالتسمية، والتحميد، وغسل اليدين قبل وبعد الطعام.. وهذا ينبغي أن نراعيه في شهر رمضان بشكل آكد؛ لأنه من المتوقع أن عملية المراقبة تزداد عند الإنسان.. ومن هنا يحاول أن يحرص على المستحبات في هذا الشهر الكريم، أكثر من باقي الشهور.
ولكن هنالك بعض الأمور الزائدة: كالإفطار على التمر.. قال النبي (ص): (إذا كان أحدكم صائماً، فليفطر على التمر.. فإن لم يجد التمر فعلى الماء؛ فإن الماء طهور).. حتى أن بعض الروايات تقول: -ما مضمونه-: أن الذي يفطر على التمر تضاعف له الحسنات؛ أي أن أعماله العبادية تصبح مضاعفة.. وقد يكون السر في ذلك، هو: أن الصائم يحتاج إلى سعرات حرارية، وإلى شيء من السكريات، وبالتالي فإن أكل التمر يساعد في ذلك.
وينبغي عدم تفويت لحظة قبل الإفطار، واستغلالها في الدعاء.. وهنالك دعاء مطول في كتاب الإقبال له من الفضل الكثير.. فكم من الجميل أن يقف الإنسان قبل الإفطار ليدعو ربه دعاءً خفيفاً!.. ولماذا نجعل الدعاء عند الإفطار بشكل سريع، ونقرأه لقلقة؛ مقدمة للطعام؟!.. إذ بإمكان الإنسان أن يصلي صلاة خاشعة قبل الإفطار، ويدعو بشكل معقول، فيأخذ غذاءه الروحي أولاً، ويلتمس حاجته من ربه، ثم يفطر بالطعام.. إلا إذا كان مدعواً على مائدة، فإن هناك أمرا شرعيا بعدم تأخير الدعوة.
من الدعاء المختص بالإفطار في شهر الصيام: قال الصادق (ع): إنّ رسول الله (ص) قال لأمير المؤمنين (ع): يا أبا الحسن!.. هذا شهر رمضان قد أقبل، فاجعل دعاءك قبل فطورك، فإنّ جبرائيل (ع) جاءني فقال:
يا محمد!.. من دعا بهذا الدعاء في شهر رمضان قبل أن يفطر، استجاب الله -تعالى- دعاءه، وقبِل صومه وصلاته، واستجاب له عشر دعوات، وغفر له ذنبه، وفرّج همّه، ونفّس كربته، وقضى حوائجه، وأنجح طلبته، ورفع عمله مع أعمال النبيين والصدّيقين، وجاء يوم القيامة ووجهه أضوء من القمر ليلة البدر.. فقلت: ما هو يا جبرائيل؟!.. فقال: قل: اللهم!.. ربّ النور العظيم، وربّ الكرسي الرفيع، وربّ البحر المسجور، وربّ الشّفع الكبير، والنور العزيز، وربّ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم.
أنت إله من في السموات، وإله من في الأرض، لا إله فيهما غيرك، وأنت ملك من في السموات، وملك من في الأرض، لا ملك فيهما غيرك.
أسألك باسمك الكبير، ونور وجهك المنير، وبملكك القديم.. يا حيّ يا قيوم!.. يا حيّ يا قيوم!.. يا حيّ يا قيوم!.. أسألك باسمك الذي أشرق به كلّ شيءٍ، وباسمك الذي أشرقت به السموات والأرض، وباسمك الذي صلح به الأولون، وبه يصلح الآخرون.
يا حيّ قبل كلّ حيّ!.. ويا حيّ بعد كلّ حيّ!.. ويا حيّ لا إله إلا أنت!.. صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لي ذنوبي، واجعل لي من أمري يسراً وفرجاً قريباً، وثبّتني على دين محمد وآل محمد، وعلى سنّة محمد وآل محمد، عليه وعليهم السلام.
واجعل عملي في المرفوع المُتقبَّل، وهب لي كما وهبت لأوليائك وأهل طاعتك، فإني مؤمنٌ بك، ومتوكّلٌ عليك، منيبٌ إليك، مع مصيري إليك.
وتجمع لي ولأهلي وولدي الخير كلّه، وتصرف عني وعن ولدي وأهلي الشرّ كلّه.. أنت الحنّان المنّان، بديع السموات والأرض، تعطي الخير من تشاء، وتصرفه عمن تشاء، فامنن عليّ برحمتك يا أرحم الراحمين.
س٤/ ما هو تأثير الصوم على الصحة النفسية والروحية للإنسان؟..
لا يخفى على أحد أن هنالك ارتباطا وثيقا جداً بين الصحة النفسية والصحة البدنية.. وهذه الأيام قسم كبير من أمراض البدن، عندما يفسرها الأطباء يعزون السبب إلى الاضطراب والقلق: كأمراض القولون، والجهاز الهضمي والعصبي، وما شابه ذلك.. فإذن، إذا أمكننا أن نصل بالإنسان المؤمن إلى الصحة النفسية، فإن حياته المادية تستقيم أيضا، ويتخلص من كثير من الأعراض المرضية البدنية.
وأما الارتباط بين الصوم والصحة النفسية: فإن الصوم من موجبات هدوء الإنسان.. إذ أن الإنسان الصائم كونه في حال طاعة وعبادة، فعندما يعيش حالة العطش -وخاصة في أيام الصيف في البلاد الخليجية الحارة مثلاً، وخاصة إذا كان عمله في الشمس- وعندما يرى بأن هذه العملية في إطار الطاعة الإلهية؛ فإنه يتلذذ بهذه الحالة، ويرى نفسه قريباً من الله عز وجل.. وهذا الإحساس بالقرب وبالضيافة الإلهية، تمنعه من القيام بعملية الحدة والغضب وما شابه ذلك.. وهذا عكس ما يروج: بأن الإنسان الصائم، أقرب ما يكون إلى حالة الغضب وغيره.
ومن المعلوم أن من موجبات اطمئنان القلب: ذكر الله عز وجل ، لقوله تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.. وبما أن ذكر الله -عز وجل- في شهر رمضان متميز ومستوعب، والصائم في ليله ونهاره أقرب ما يكون إلى الذكر الإلهي؛ فإن معنى ذلك أن اطمئنان القلب في شهر رمضان، أكثر من باقي الشهور.
س٥/ ما هي الفلسفة من تجويز الإفطار للإنسان المسافر، مع أننا نلاحظ كون السفر هذه الأيام لا يلازم المشقة؟..
ورد عن النبي الأكرم (ص) قوله: (ليس من البر الصيام في السفر).. فالشريعة قائمة على التعبد في قسم كثير، ونحن إذا عملنا بالأحكام الشرعية بعد معرفة فلسفتها، فعندها لم يعد الأمر احتراماً للحكم الإلهي.. ولذا فإن الإنسان المؤمن إنسان متعبد، يسلم لكل ما جاءت به الشريعة، بغض النظر عن فلسفة الحكم.. ومن المعلوم أن الجندي المنضبط، هو الذي يمتثل أمر القائد في المعركة، رغم عدم قناعته أو عدم فهمه لفلسفة الأحكام، وهنا يعرف الجندي المطيع من غيره.. طبعاً نحن لا نسد باب البحث العلمي، والتفكير في فلسفة الأحكام، ولكن لا ينبغي أن يعلق الإنسان الطاعة على معرفة فلسفة الحكم.
وكما ذكرتم بأنه ليست الحكمة في تجويز الإفطار، مسألة رفع الحرج والتعب والمشقة في السفر.. فإن المسافر الذي سافر بشكل مريح، وتجاوز المسافة الشرعية -قرابة ٤٥ كم مثلاً– هي مسافة قصيرة بالسيارة هذه الأيام.
فربما الحكمة -والله العالم- ما جاء في كتاب ميزان الحكمة: أن هذه هدية إلهية، والذي يرفض هذه الهدية، يكون قد قام بعمل غير لائق.
لا بد من الإشارة إلى أن الشريعة تستغل كل فرصة، لإشباع بطون الفقراء والمساكين.. فكفارات الصيام: كالإفطار العمد، وإفطار غير العمد، وصوم الشيخ الكبير، والمرأة المرضع، وما شابه ذلك، تكون من خلال دفع المال، من أجل سد الفراغ في هذا المجال، مما يعكس جامعية الشريعة.
س٦/ البعض يرى بأنه إذا كان جائعاً لا يستطيع أن يفكر.. وكأنه يقول: أنا صائم فأنا لا أفكر!.. فما رأيكم في ذلك؟..
أعتقد أن هناك نوعا من أنواع التلقين!.. فالذي يلقن نفسه حالة الحدة والبلادة الذهنية في شهر رمضان؛ فإنه من الطبيعي أن يؤول أمره إلى ذلك، بينما الصحيح هو عكس ذلك.. إذ أن هناك من عندما يكون صائماً -طبعاً الجوع المعقول، ليس الجوع المرهق جداً الذي هو مقدمة للإغماء مثلاً- يلاحظ أنه في هذه الحالة يفكر تفكيراً جيداً.. وبمجرد أن يأكل الطعام -وخاصة وجبة الغذاء الثقيلة- يلاحظ وكأنه شمعة وانطفأت!.. ويشعر بحالة من حالات الكسل البدني، والفتور الذهني.
إن لأحد العباد الصالحين نظرة جميلة في هذا المجال، فيقول: بأن المؤمن له حالة من حالات الجوع الخفيف المتصل طوال السنة.. بمعنى أنه من وجبة الغذاء إلى العشاء، هنالك فاصل عند العصر، فيعيش فيه حالة من حالة الجوع الخفيف.. ولكن نحن جعلنا محطة عند العصر، من أجل إزالة الجوع.. ومحطة في منتصف الليل، لإزالة الجوع.. فالإنسان المترف -هذه الأيام- تقريباً لا يعيش الجوع إلا في شهر رمضان.. والمطلوب من المؤمن السالك إلى الله: أن يعيش حالات الجوع طوال السنة، ولو جوعاً خفيفاً بهذا المقدار.
س٧/ نجد أن بعض الفلاسفة كان يحذر من شيئين، وهما: الشبع، والجماع.. ومن الملاحظ أن هذين الأمرين هما من المفطرات في نهار شهر رمضان.. أي أن الإسلام بفرضه للصيام يتناغم مع الفطرة الإنسانية، فهو لا يريد أن يثقل كاهل الإنسان بهذا العبء -بأن يجعله يجوع- بلا فائدة وبلا جدوى، هنالك فوائد وثمرات -بلا شك- سواءً كانت بدنية أم روحية.. ما هو تعليقكم على ذلك؟..
إن من مزايا السيارة أن يكون لها فرامل قوية، ومن المعلوم أن السيارة التي لها فرامل قوية، تعتبر من السيارات المتقدمة في هذا المجال.. والمؤمن يحتاج إلى فرامل!.. وشهر رمضان -إن صح التعبير- شهر الفرملة.. فهو يزيد من قدرة الإنسان على التحكم في كبح جماح شهواته، حتى لو أنه صادف شهوة محرمة، فإنه يمكنه ردع نفسه عن ارتكاب الحرام.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.