- ThePlus Audio
هل نستطيع أن نرى الجحيم في الن
بسم الله الرحمن الرحيم
عماذا تتحدث سورة التكاثر؟
لو تدبرنا سورة التكاثرو جدناها تتضمن الذم والتقريع والتخويف، وورد فيها الجحيم من دون تفصيل، وذلك قوله عز وجل: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ)[١]. لم يرد في هذه السورة نوع الجحيم المعد لهؤلاء المتفاخرون بالتكاثر. وسياسة القرآن الكريم أن يُفصل في عذاب النار تارة، كقوله سبحانه: (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ)[٢] أو قوله عز وجل: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ)[٣] أو كقوله عز من قائل: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ)[٤]. وطورا يُبهم عذاب والغرض من ذلك التخويف المضاعف. ونحن نستعمل هذه الطريقة في عرفنا، فيقال للمجرم: سنعذبك عذاباً، ما يجعل المجرم في عذاب نفسي لجهله بما ينتظره.
وقول الله عز وجل في هذه السورة: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) يأتي في سياق التخويف ونجد له نظيرا في القرآن الكريم كقوله سبحانه: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ)[٥]. فهنا يذكر وقوفهم على ربهم ولا يُفصل وكأنه يقول: يكفي أن تقف ذلك الموقف العظيم بما فيه من خجل ووجل، وهو الأمر الذي سيتضح في عرصات القيامة لا في دار الدنيا؛ فهي معاني لا يمكن استعيابها.
الكل يتبرأ منك وتتبرأ من الجميع في ذلك اليوم
إن ما يجري على الإنسان يوم القيامة، لا يمكن تصوره، ولا يفي الأدب العربي وغير العربي ببيان أهوال القيامة، ولا يفتح لنا القرآن الكريم إلا نافذة صغيرة من ذلك العالم. إن أشد أنواع العلاقة والعاطفة ما يكون بين الأم وولدها الرضيع الذي يتغذى من صدرها وهي تلصقه بها كل يوم من أجل ذلك لمدة سنتين، ولكن تذهل هذه الأم عن رضيعها إذا رأت أهوال يوم القيامة وتُفكر في خلاص نفسها في يوم ينادي الجميع فيه: وانفساه…! ولذا قال عز من قائل: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[٦]؛ فتود يود القيامة أن تقتل هذا الذي كان يحثك على ارتكاب المحرمات في الدنيا لو أمكنك ذلك. ولذا يقول والحسرة آخذة بمجامع قلبه: (يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا)[٧].
نعم، يتبرأ منه في ذلك اليوم وكان في الدنيا جليسه وأنيسه وأعز أصدقائه وكان يصفه بأخي. بل يصل الأمر بالإنسان أن يفر من أمه وأبيه وصاحبته وأخيه وفصيلته، لكي لا يطالبونه بحقوقهم، ويأخذوا من حسناتهم. انظر كيف تتقطع العلاقات بينهم يوم القيامة كما قال عز من قائل: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)[٨].
هل تتفاخر بمن تتبرأ منهم يوم القيامة؟
عندما يذكر سبحانه الجحيم في هذه السورة، فهو يوجه الخطاب إلى المتفاخرين بالتكاثر ويحثهم على التفكر في ذلك اليوم العصيب الذي يفر فيه المرء من أبيه؛ فكيف بعشيرته؟ ترى الرجل في هذه الدنيا يستقبله ابن عمه في العشيرة بالأحضان ولكن هل ستنفعه هذه العلاقة في يوم تذهل المرضعة عما أرضعت؟ إننا لا ننكر ما للعلاقات العشائرية من إيجابيات ولكن لا ينبغي أن يتباهى المؤمن بكثرة أفراد عشيرته؛ بل ليستغل الانتماء العشائري للإصلاح بينهم مثلا. فإذا رأيت فيهم منكرا، فقل لفاعله: يا فلان، أنت من عشيرتنا وأفعالك هذه تجلب العار لنا جميعا. وبإمكان شيخ العشيرة أن يستغل مكانته وشيبته للإصلاح ولإرضاء ذوي المقتول مثلا لكي يتنازلوا عن القصاص ويقبلوا بالدية بدل ذلك. إننا لا نتحدث عن التكاثر الذي يوجب قربا من الله عز وجل؛ بل التكاثر الملهي الذي يوجب التفاخر بغير حق.
هل يحق لي التفاخر بما أنعم الله علي؟
قد يسأل سائل فيقول: لقد أمرنا الله عز وجل بذكر النعم فقال: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)[٩]. فإذا رزقني الله ولدا بارا وأصبح في الحوزة العلمية طالبا ورزقني الله مالا وفيرا وبنيت مسجدا أو مضيفا في طريق الزوار أو ما شابه ذلك من النعم الإلهية، وافتخرت بذلك، هل أكون مصداقا لهذه السورة؟ كيف نجمع بين الحديث عن النعمة وبين الالتهاء بالتكاثر؟ وأقول: لو كان ذكر المال والولد لهدف راجح لا يعد مذموماً.
فإذا أطعمت ولدك حلالا، لا بأس أن تقول: إن ولدي هذا أصبح بارا بفضل لقمة الحلال الذي وفرتها له وبفضل الخمس الذي نخرجه من أموالنا كل عام. ليكون في ذلك حث للآخرين على كسب الحلال واجتناب الحرام الذي يعطي نتائج عكسية لما يرجوه والد من ولده. إن الذي يُطعم ولده كل ما هب ودب ولا يبالي بكسبه ولا بحلية مأكله ومشربه، فسيرحق هو والأم زهرة شبابهما على هذا الولد الذي سيسوء خلقه بالتأكيد لتناول المحرمات ولن يشكر لهم ما أنفقاه عليه دهرا ولن يسلم عليه ويتبرأ منهما في نهاية المطاف.
ومن آيات سورة التكاثر قوله عز وجل: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ)[١٠]. و(ثم) في العربية للتراخي، فتقول: جاء زيد ثم عمر إذا كان بين مجيئهما فاصل زمني، وتقول: جاء زيد، فعمر للترتيب.
ما الفرق بين علم اليقين وعين اليقين؟
وهنا أشار البعض إلى رؤية تكون في مرحلتين متباعدتين؛ إحداهما في الدنيا وإحداهما في الآخرة. ففي الدنيا لو علمت علم اليقين لرأيت الجحيم في الدنيا بقلبك؛ الذي ستراه عين اليقين في الأخرى بعينيك. والمسافة بين اليقين القلبي واليقين الذي يحصل بالمشاهدة قريبة. فإذا رأيت دخانا تيقنت بوجود نار وهذا هو علم اليقين، فإذا رأيت النار بأم عينك فذلك عين اليقين. إن اليقين هو ذاته ولم يتغير ولكن كان استحال علم اليقين وتحول إلى عين اليقين. ولذا ترتب الأثر على علم اليقين، فتقول لولدك قبل أن تشاهد النار: يا ولدي: ثمة نار قريبة، فاحذر من الاقتراب منها.
من يرى نار الجحيم في الدنيا؟
وهذه النار هي موجودة يراها صاحب علم اليقين في هذه الدنيا ولذلك لا يتجرأ على ارتكاب المعاصي. وهو ما أشار إليه القرآن الكريم: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى)[١١]. فإذا كنت ممن ترى هذه الجحيم أمامك وتقترب منك عند كل معصية، هل تستجيب لمن يأمرك باغتياك فلان وفلان؟ هل تتجرأ عندها أن تنظر إلى ملكة جمال العالم لو ظهرت أمامك بريبة؟ هل تفعل ذلك يوم القيامة؟ أليس يخرج الناس عراة من قبورهم رجالا ونساء، ولكن هل ينظر أحد إلى أحد أم أنهم مذهلون لشدة أهول القيامة؟ هل هناك رجل ينظر إلى امرأة في عرصات القيامة؟ هل يتجرأ وهو يرى النار أمامه؟ بالتأكيد لا يفعل، ذلك وكذلك لا ينظر في الدنيا إذا وصل إلى الحقيقة هنا.
فهل عند ذلك يحتاج الشاب إلى أن يستعمل العقاقير التي تقلل الشهوة كالكافور مثلا؟ هل يترك الجامعة عندها خوفا من الوقوع في الحرام كما يفعل البعض؟ هل يُقدم استقالته من الدائرة إذا كان دينه في معرض الخطر؟ كلا، ليس الحل في مثل هذه الأمور وإنما الحل ما ورد في سورة التكاثر من الوصول إلى علم اليقين الذي به يتوقى الإنسان كل المعاصي والموبقات، بعد أن يرى الجحيم في هذه الدنيا.
خلاصة المحاضرة
- إن ما يجري على الإنسان يوم القيامة، لا يمكن تصوره، ولا يفي الأدب العربي ببيان أهواله، ولا يفتح لنا القرآن إلا نافذة صغيرة من ذلك العالم. إن أشد أنواع العلاقة والعاطفة ما يكون بين الأم وولدها الرضيع ولكن تذهل هذه الأم عن رضيعها إذا رأت أهوال يوم القيامة.
- ورد في الفرق بين علم اليقين وعين اليقين؛ أن علم اليقين هو كالدخان الذي يتيقن الإنسان من خلاله بوجود نار. فإذا وصل إلى النار ورآها بأم عينيه فقد وصل إلى عين اليقين.