Search
Close this search box.
  • هل فکرت فی هذا السفر وأعددت له العدة؟
Layer-5-1.png
عناوين المحاضرة
عناوين المحاضرة
Layer-5.png
Layer-5-1.png

هل فکرت فی هذا السفر وأعددت له العدة؟

بسم الله الرحمن الرحيم

ضرورة الحصول على برنامج للسير والسلوك

إننا في حال سفر شئنا أم أبينا؛ والمبدأ هو السير من منزلة الذات والأنا وعبادة الهوى والمقصد هو الوصول إلى (وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ)[١]. ولابد في سفرنا هذا أن نجتنب موجبات الغفلة والمعاصي جميعها. لقد جمعتني بأحد العلماء الكبار الحسينيين جلسة في بيت صديق لنا تناولنا فيها أطراف الحديث فذكرت له قوله تعالى: (مَّا لَكُمۡ لَا تَرۡجُونَ لِلَّهِ وَقَارٗا)[٢]، فانصدم الرجل، وقال: هل هذه آية من القرآن؟ ثم قال: أين نحن وحفظ الوقار الإلهي؟ هل عندما تعصي؛ ترجوا لله وقارا؟ إن الإنسان يستحي من نفسه عندما ينظر إلى باطنه. ولذلك عندما يدخل بيت الخلاء يستحي البعض من ربه، ويغطي رأسه. ولعل موسى (ع) أشار إلى هذا الموضع عندما قال: (يَا رَبِّ إِنِّي أَكُونُ فِي حَالٍ أُجِلُّكَ أَنْ أَذْكُرَكَ فِيهَا فَقَالَ يَا مُوسَى اُذْكُرْنِي عَلَى كُلِّ حَالٍ)[٣]. ولقد نظرت في آداب دخول المسجد وآداب بيت الخلاء؛ فرأيت الأخير أوراده أكثر من المسجد؛ لأنه مكان غفلة.

إن البعض منا يدخل في ناد أو في معهد معين؛ ليربي عضلاته. وبعد سنة أو سنتين يرى بأن العضلات أصبحت مفتولة. فإذا كنت تريد أن تنمي جسمك، وتنمي هذه العضلات الفانية؛ تكون بحاجة إلى برمجة، وإلى مرب، وإلى أن تدفع الأموال، وترفع الأثقال، وتتبع حمية غذائية معينة حتى تصل إلى منشودك؛ فكيف الأمر في تربية الذات؟ إننا نرى أن بعض الرياضيين العالميين الذين يحققون الأهداف الكبرى في هذا المجال؛ يُمضون عشرين سنة في هذا الطريق.

ما هي قواعد تربية الذات؟

القاعدة الأولى: عدم الاستعجال؛ لأن المستعجل يعفي نفسه من المقامات. فهو إن رأى نفسه في عشرة محرم نزيهاً حسينياً، وكان له بكاءً جيد في شهري محرم وصفر؛ يتوقع أن يطير في الأجواء العليا بعدها. اصبر قليلا…! هب أنك في شهر رمضان تميزت في صومك؛ فصمت نهاراً، وقمت ليلاً، وذهبت إلى الحج والعمرة، وشاركت في زيارة الأربعين سيرا على الأقدام؛ فهل تتوقع المقامات بهذه العجالة؟ إن الأمر أعظم من ذلك، والقضية بحاجة إلى متابعة، ومواصلة.

لمن يريد السير؛ اطلع على سيرة النبي (صلى الله عليه وآله)

لقد أيد الله النبي (ص) بالأنصار. ولكن من هم هؤلاء الأنصار؟ هؤلاء هم الذين تربوا عند النبي (ع) في مكة ثلاثة عشر سنة حتى حدث ما حدث. إن هؤلاء هم البدريون، وهم الحنينيون، وهم الأحديون. يأتينا شاب مراهق أو فتاة بلغت لتوها تقول لنا: لقد التزمت صلاة الليل أربعين ليلة؛ فما رأيت شيئاً. أولا: أطل بالك. إن النبي (ص) لم يبعثه الله إلا في سن الأربعين. إن سيرة وحياة النبي (ص) ملفتة. فقد قضى ثلثي عمره في مكة وفي الغار، وفي تربية الذات. لم يكن للنبي (ص) ذلك النشاط المميز، ولهذا عاش محترماً معروفا بالصدق والأمانة بين أهله. ولم تبدأ المشاكل إلا حينما قال هم: (قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ تُفْلِحُوا)[٤] ثلث حياة النبي جهاد ودعوة وثلثاه تهيئة إذا وطن نفسك على الصبر على هذا الطريق الذي قل سالكوه هذا أولا.

وثانيا: الأمر لا يتم إلا في مراحل، ولابد من وجود استراتيجية. إن أحدنا لا ينبغي أن يكلف نفسه شططاً؛ فبعض المؤمنين يريد أن يتهذب ويتكامل؛ فأول ما يعمله محاربة معدته. فهو لا يأكل الطعام الهنيء، ويترك الحيوانيات فترة مثلا، ويُقاوم نفسه، ولا يأكل إلا طعاما زهيداً، وغير صحي. فتراه بعد فترة يُبتلى بالوهن والمرض. من قال لك أن هذا هو الطريق؟ كل حلالاً طيباً كما قال سبحانه: (وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ)[٥]. هذا ولم نجد في روايات أهل البيت (ع) ما يدعو إلى مقاطعة الطعام كما هو دارج اليوم ترك اللحوم وما شابه ذلك. نعم، لقد ورد: (لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان)[٦]؛ وإنما هي رواية تدعو إلى الاقتصاد في تناول اللحم.

عليك بهذا المثلث الذي يُدخلك الجنان

فإذا ما أردت التكامل؛ فاعلم أن الأمر أعظم من ذلك، وليس بهذه الحمية الغذائية. امتلك حمية من نوع آخر؛ فأول شيء تقوم به ترك المعاصي والذنوب، ولكن بقيود. إننا عندما نقول: ترك المعاصي والذنوب؛ فنعني بنحو الاستغراق. يأتينا من يقول: إنني بحمد الله منضبط، ومخمس، ومصل، وإلى آخره؛ ولكن عيني تزيغ. ما الفائدة من هذه القربة المثقوبة؟ إن هذا الثقب وإن كان صغيراً يستنفذ ماء القربة، ولو بعد فترة. فأنت بالمعاصي – شئت أم أبيت – تفقد ما كسبته.

والمعاصي نحفظها جميعا؛ فلا يُمكن أن يتذرع أحد بالجهل. أما الرأس ففيه الأذنان والعينان والفم. وإذا رسمت خطاً مستقيماً على مستوى العينين والأذن؛ اجعل رأس المثلث الفم. إنك إن استطعت أن تتحكم في هذا المثلث؛ تحكمت في جنة عرضها السماوات والأرض. إن معاصي النظر ومعاصي الأذن معروفة. فلا تستمع إلى الغيبة، والغناء مثلا. ومعاصي الفم هي أن لا تغتب، ولا تهتك، ولا تشتم، ولا تأكل الحرام، وتحت ذلك الفرج، وانتهى الأمر. كن عادلا باجتنابك عن هذه المحرمات.

لماذا لا تأم أهلك وعيالك؟

لماذا نصلي خلف أئمة المساجد؟ لأننا أحرزنا عدالتهم بالظاهر. وبعض أئمة المساجد كان زميلاً لك في العمل أو في الدراسة؛ فلماذا هو صار عادلاً يُصلى خلفه وأنت تشمئز من نفسك؟ الأمر بيدك. طوبى لإنسان يستيقظ صباحاً ليصلي في البيت؛ فيسمع خلفه تكبيراً لزوجته التي تصلي خلفه. ومن باب المزاح والجد يقال: إذا أردت أن تعلم عدالة أحد سل عنه زوجته؛ فتوثيق الزوجة فوق كل توثيق، لأنها مطلعة على أسراره.

ما المانع من أن تقيم جماعة في المنزل وأنت ترى في نفسك العدالة؟ هناك الكثير من المؤمنين في الحقيقة لم يرتكبوا المعاصي لفترة طويلة من حياتهم؛ فلا تراه قد نظر إلى حرام أو استمع إلى حرام؛ فلماذا يحرم نفسه وأهله بركة الجماعة في البيت؟ أو يذهب في سفر في مخيم أو في منتزه؛ فما المانع من أن يكون إماماً لأهل بيته؟

قد ترى المرأة حشرة قبيحة في المنزل المرأة؛ فتصرخ صرخة تظن أن نفسها فيها، فتقول لها: ما بالك يا فلانة؟ فتقول لك: رأيت صُرصورا؛ فكيف إذا رأت فأراً؛ فقد يُغمى عليها. إن هذا المنظر الذي يشمئز منه الإنسان؛ يجعله يشمئز من ذلك المكان. لو كشف لك الغطاء ونظرت إلى باطنك؛ لشعرت بالاشمئزاز من نفسك. وكل واحد منا يرى في نفسه ما لا يراه الآخرون، وكما قال عز وجل: (بَلِ ٱلۡإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ بَصِيرَة)[٧].

اعمل لنفسك مسحا ضوئيا

رأيت ذات يوم أحدهم على باب العباس (ع) بين الحرمين؛ فآلمني كلامه. قال لي: يا فلان، إنني معروف بين الناس بالتقوى، ولي صيت ذائع؛ إلا أنني فعلت من الذنوب كيت وكيت. لقد اعترف أمامي ببعض الهنات والهفوات، فرققت لحاله. كيف يصل الإنسان إلى درجة؛ تكون سمعته الخارجية هذه، ولكنه إذا خلى في جوف الليل عمل ما عمل، وعندما يُصبح الصباح؛ لو جاز له طعن قلبه بخنجر لما تردد. إن للذنوب روائح كريهة وهذا ما نفهمه من قول أمير المؤمنين (ع): (تَعَطَّرُوا بِالاِسْتِغْفَارِ لاَ تَفْضَحْكُمْ رَوَائِحُ اَلذُّنُوبِ)[٨]. إنها رائحة يشمئز منها ملك اليمين وملك الشمال. يقولون: ما أنتن هذه الرائحة. فحاول أن تقوم بمسح ضوئي لنفسك؛ كما تقوم المطارات بمسح متاع المسافرين بأجهزة خاصة ليكتشفوا الممنوع من غيره. فإذا عملت مسحا ورأيت في باطنك هفوة سل الله عز وجل أن يعينك على نفسك؛ وإلا فاشكر الله على حسن التوفيق.

العدالة العالية أو العصمة النازلة

من الجيد أن تترك الحرام؛ ولكن الأجود أن تصل إلى مرحلة لا تفكر فيها بالحرام، ولا يتحمل عندها مزاجك الحرام ولا يستسيغه؟ في بداية الطريق ترى منظراً لامرأة فاتنة في السوق؛ فيزيغ قلبك نحوها، ويميل إليها؛ إلا أنك بعد فترة من التكامل ترى أمامك منظراً موحشاً. وتذهب في بداية الطريق إلى بلاد الغرب، وتمر على مطعم تفوح منه رائحة الطعام الشهي فتغريك، فتقدم رجلاً وتؤخر أخرى، ثم تقول: يا رب، هذا حرام أتجاوزه. ولكنك بعد فترة من المجاهدة تتحول تلك الراحة الشهية إلى جيفة منتنة. فهل رأيتم أحداً يميل إلى الجيفة؟ إن هذه المتبرجة قبيحة في نظره، وهذا الحرام جيفة في نفسه. إذا وصلت إلى هذه الدرجة من انقلاب الموازين؛ فقد وصلت إلى العدالة العالية أو العصمة النازلة ما شئت فعبر.

[١] سورة التغابن: ٣.
[٢] سورة نوح: ١٣.
[٣] كشف الغمة  ج٢ ص٢٨٥.
[٤] بحار الأنوار  ج١٨ ص٢٠٢.
[٥] سورة الأعراف: ٣١.
[٦] شرح نهج البلاغة ج١ ص ٢٦.
[٧] سورة القيامة: ١٤.
[٨] بحار الأنوار  ج٩٠ ص٢٧٨.
Layer-5.png
Layer-5-1.png

خلاصة المحاضرة

  • من الجيد أن تترك الحرام؛ ولكن الأجود أن تصل إلى مرحلة لا تفكر فيها بالحرام، ولا يتحمل عندها مزاجك الحرام ولا يستسيغه؟ في بداية الطريق ترى منظراً لامرأة فاتنة في السوق؛ فيزيغ قلبك نحوها، ويميل إليها؛ إلا أنك بعد فترة من التكامل ترى أمامك منظراً موحشاً.
  • ما المانع من أن تقيم جماعة في المنزل وأنت ترى في نفسك العدالة؟ هناك الكثير من المؤمنين في الحقيقة لم يرتكبوا المعاصي لفترة طويلة من حياتهم؛ فلا تراه قد نظر إلى حرام أو استمع إلى حرام؛ فلماذا يحرم نفسه وأهله بركة الجماعة في البيت؟
Layer-5.png