• ThePlus Audio
Layer-5-1.png

هل تعلم الفرق بين المناجاة والمناداة؟

بسم الله الرحمن الرحيم

الدعاء من دون صوت…!

لقد ورد في القرآن الكريم حول زكريا (ع): (إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ نِدَآءً خَفِيࣰّا)[١] والنداء غير المناجاة؛ فهو عادة ما يكون في خفاء وهمسا. فتارة يجأر الإنسان في الدعاء ويصيح خاصة إذا كان ملهوفا يستغيث ربه كالغريق الذي يصرخ بأعلى صوته ليسمعه أحد فيُنقذه؛ فلن تنفعه المناجاة في تلك الحالة. وتارة يكون الإنسان في خلوة من الليل وفي حالة هدوء وهو يستشعر الندامة الباطنية؛ فهنا يناسبه النداء الخفي. إن من كبار المؤمنين العارفين بالله عز وجل من يتأمل في عالم الغيب ويقرأ المناجاة بعينه لا بلسانه فتمر المعاني في قلبه فتجري عبرته. وهذه مناجاة وإن لم يتلفظ بها. بل قد يصل الأمر بالمؤمن أن يناجي ربه بقلبه ويخشى من أن تشغله الألفاظ عما هو فيه من التوجه والإقبال. بالطبع إن الجمع بين اللفظ والمعنى أكمل وأفضل. فيُمكن القول: إن المناجاة هي حديث القلب مع الله عز وجل سواء كان بلفظ أو دونه.

العيون أبلغ من الكلمات…!

ولهذا معروف في عالم العشاق المجازيين أنهم يتحدثون بعيونهم من دون كلام…! ولذا يُقال: الكناية أبلغ من التصريح. ولنا شاهد من مناجاة التائبين حيث يقول الإمام زين العابدين (ع): (إِلَهِي إِنْ كَانَ اَلنَّدَمُ عَلَى اَلذَّنْبِ تَوْبَةٌ فَإِنِّي وَعِزَّتِكَ مِنَ اَلنَّادِمِينَ)[٢]؛ فالندم حالة باطنية لا تحتاج إلى ألفاظ وكلمات. ولهذا يُناقش الفقهاء في عودة العدالة لإمام الجماعة بهذا الندم من دون أن يقول: استغفر الله، وأجاز البعض ذلك وقالوا: إن الاستغفار هو حالة باطنية يترتب عليها الآثار الكبيرة وإن كان الأفضل الجمع بين الحالة واللفظ. وبإمكان المؤمن أن يعيش عالم التوحيد في جموع الغافلين بالتهليل الذي هو الذكر الخفي؛ فهو لا يحتاج منك تحريك الشفتين، فلا يخاف معه المؤمن من أن يُتهم بالرياء أو التظاهر.

كيف يمكن للعبد أن يصل إلى الله؟

لقد فتح لنا الإمام زين العابدين (ع) باباً للترقي إلى عوالم عالية جداً وشريفة جداً فهو القائل يُخاطب ربه: (يَا نَعِيمِي وَجَنَّتِي)[٣]. إن هذا أقصى ما يمكن أن يصل إليه العبد. لا ينبغي أن يكون هم المؤمن ومنتهى رغبته الدخول في الجنة؛ بل لابد وأن يصل إلى أن يكون الله سبحانه أعلى غاية عنده. إنه سبحانه هو النعيم الذي يتفضل على عبده بالحور والقصور. ولذا عندما يأتي الخطاب في ساحة المحشر إلى الصديقة فاطمة (س): (يَا فَاطِمَةُ سَلِينِي أُعْطِكِ وَتَمَنَّيْ عَلَيَّ أُرْضِكِ)[٤]، تقول (س): (إِلَهِي أَنْتَ اَلْمُنَى وَفَوْقَ اَلْمُنَى)[٥] وهو يشبه تعبير ولدها الإمام زين العابدين (ع).

وقد قال عز من قائل: (فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلࣰا صَٰلِحࣰا)[٦]. إن لقاء الله عز وجل عنوان قرآني لا ينبغي أن يستوحش البعض منه كما يستوحش من سائر التعابير الأخلاقية والعرفانية. وهو القائل: (فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِيلࣰا)[٧]. وهذه الآيات وأمثالها وما ورد في هذه الأدعية ونظائرها هي خير دليل على أن الإنسان لابد وأن تكون رغبته ومبتغاه هو الله سبحانه وحده.

وهذا المعنى لا يصل إليه إلا من كان نزيها متعاليا عن سفاسف الأمور. إننا تعد عيوننا المتع الحسية المادية، ومن الصعب لنا تجاوزها إلى هذه المعاني والوصول إلى التجرد الروحي. إن من أعظم المقامات التجرد عن الأمور الحسية وطلب المقامات المعنوية.

ما الفرق بين التوبة والاستغفار؟

ثمة فرق بين التوبة والاستغفار أبينه في المثال التالي: تارة يكون الولد عاقا لوالديه ويكون كالعبد الآبق فارا منهما قد التحق بركب سوء وصحبة فاسدة؛ فهي يرتكب معهم القبائح ولكنه يعود ويطرق على أبويه الباب ويستقيلهما ويستغفرهما وهما يغفران له، ولكنه يعود إلى جماعته وإلى سابق عهده معهم. وتارة يأتي هذا الولد وقد أيس من جماعته فيدخل على أبويه ويرتمي في أحضانهما ويقول لهما: عهد علي ألا أعود إلى تلك الجماعة. وهنا يكون الولدا بارا بأبويه تائبا أي آب إليهما ورجع.

إن مثلنا مع الله عز وجل مثل هذا العبد العاق مع والديه. فنحن نخطئ تارة ونستغفر بمناجاة التائبين ونزور المشاهد طلبا للمغفرة وهذا أمر لا بأس به ولكنه ليس كافيا. وتارة يرجع العبد إلى ربه ويدخل حصن لا إله إلا الله ويشعر بعطف الرب عليه كما شعر العاق بعطف والديه وحسن استقبالهما ودفئ مكانهما؛ فلا يعود إلى ما كان عليه بعد ذلك.

فمن استمتع بلوازم الذكر الذي هو الاطمئنان الباطني وشعر بالراحة النفسية؛ لا ينقدح في قلبه الميل إلى الحرام. ولهذا كثيرا ما يُقال في الروايات الشريفة: (خَرَجَ مِنَ اَلذُّنُوبِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)[٨] وهذا جزاء من صام شهر رمضان المبارك حق الصيام مثلا.

إن غاية المنى أن نصل إلى هذه الدرجة وأن نعود إلى الله عز وجل عودة نهائية. ولهذا نشتكي إلى الله عز وجل في المناجاة من العودة إلى المعاصي ومن تكرارها. وقد ورد عن الرضا (ع) أنه قال: (مَنِ اِسْتَغْفَرَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَنْدَمْ بِقَلْبِهِ فَقَدِ اِسْتَهَزَأَ بِنَفْسِهِ)[٩]؛ فقد يستغفر الرجل وهو ينوي تكرارها فيكون كالمستهزئ بنفسه. وقد يكون ذنب هذا الاستهزاء أعظم من الجريمة نفسها، ففيه نوع من الاستخفاف بمقام الربوبية. قد يغلب عليك الشيطان فتغتاب أو تنظر نظرة محرمة أو ترتكب ذنبا، فاعزم على عدم العود وكن جادا في ذلك.

كيف يجتمع الأبْق والعبودية؟

العبد هو المستسلم لأمر مولاه المطيع له، والآبق هو العبد الهارب من مولاه. فقد يُحب الولد العاق ولده ولكنه لا يطيعه لأن شهوته هي الغالبة عليه. فمن الممكن أن يستشعر أحدنا معنى العبودية وإن كان عاصيا. ولذا ورد في دعاء أبي حمزة: (إِلَهِي لَمْ أَعْصِكَ حِينَ عَصَيْتُكَ وَأَنَا بِرُبُوبِيَّتِكَ جَاحِدٌ وَلاَ بِأَمْرِكَ مُسْتَخِفٌّ وَلاَ لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ وَلاَ لِوَعِيدِكَ مُتَهَاوِنٌ وَلَكِنْ خَطِيئَةٌ عَرَضَتْ وَسَوَّلَتْ لِي نَفْسِي وَغَلَبَنِي هَوَايَ وَأَعَانَنِي عَلَيْهَا شِقْوَتِي وَغَرَّنِي سِتْرُكَ اَلْمُرْخَى عَلَيَّ فَقَدْ عَصَيْتُكَ وَخَالَفْتُكَ بِجُهْدِي فَالْآنَ مِنْ عَذَابِكَ مَنْ يَسْتَنْقِذُنِي)[١٠].

لا تفقد حالة العبودية مهما أمعنت في المعصية

فلا ينبغي بحال من الأحوال أن يفقد الإنسان هذه الحالة من الإحساس بالعبودية. ولذا مما ينبغي أن يستبشر به التائب أنه يُصبح سريع الدمعة حيث يتذكر المعاصي السالفة فتجري عبرته. وهو بالتأكيد خير ممن يُدل على ربه بعبادته ومن يقرأ مناجاة التائبين ويقول بلسان الحال: هذه لا تخصني…! إن ذلك الذي يشعر بالعبودية أقرب قريب من رحمة الله عز وجل أكثر ممن يُدل على ربه بالعبادات والطاعات ولذا ورد: أنين المستغفرين أحب إلي من تسبيح المسبحين.

عبارتين مؤثرتين لا تغفل عنهما

من العبارات المؤثرة التي نرددها كثيرا وقد يجهل الكثير منا معناها، قولنا: لك العتبى حتى ترضى. تارة يسيء الإنسان إلى أحدهم فيأتيه معتذرا يُقدم له الأعذار ويبرر فعله ويحاول بذلك استرضائه وتارة يأتيه وهو لا يملك عذرا فيقول له: لك العتبى حتى ترضى؛ أي لك الحق أن تعتب علي ولا عذر لي أقدمه وأحتج به ولست في مقام التبرير وغاية رغبتي رضاك. ولهذا ورد في دعاء عرفة للإمام الحسين (ع): (وَمَا عَسَى اَلْجُحُودُ لَوْ جَحَدْتُ يَا مَوْلاَيَ فَيَنْفَعُنِي)[١١].

ومن العبارات المؤثرة ما ورد في مناجاة التائبين: (إِلَهِي إِنْ كَانَ اَلنَّدَمُ عَلَى اَلذَّنْبِ تَوْبَةٌ فَإِنِّي وَعِزَّتِكَ مِنَ اَلنَّادِمِينَ)[١٢]؛ فقد يعصي الرجل ربه خمسين أو ستين سنة ثم يستيقظ من غفلته في لحظة توفيق وفي ليلة من ليالي عمره فيندم على ما فرط منه، فتكون لحظة الندم الصادقة هذه، تكفيرا لما سلف منه من الذنوب والمعاصي. ولذا قيل: الإسلام يجب ما قبله. وعلى رأس التائبين مولانا الحر بن يزيد رضوان الله عليه الذي آب في يوم عاشوراء إلى الله عز وجل وارتمى في أحضان الحسين (ع) فقبل الله عز وجل توبته.

[١] سورة مريم: ٣.
[٢] مفاتيح الجنان.
[٣] مفاتيح الجنان – مناجاة المريدين.
[٤] بحار الأنوار  ج٢٧ ص١٣٩.
[٥] بحار الأنوار  ج٢٧ ص١٣٩.
[٦] سورة الكهف: ١١٠.
[٧] سورة الإنسان: ٢٩.
[٨] فضائل الأشهُر الثلاثة / الجلد ١ / صفحة ٥٣
[٩] کنز الفوائد  ج١ ص٣٣٠.
[١٠] البلد الأمین  ج١ ص٢٠٥.
[١١] مفاتيح الجنان.
[١٢] مفاتيح الجنان.
Layer-5.png
Layer-5-1.png

خلاصة المحاضرة

  • من العبارات المؤثرة التي نرددها كثيرا وقد يجهل الكثير معناها قولنا: لك العتبى حتى ترضى. تارة يسيء الإنسان إلى أحدهم فيأتيه معتذرا يُقدم له الأعذار ويبرر فعله ويحاول بذلك استرضائه وتارة يأتيه وهو لا يملك عذرا فيقول له: لك العتبى حتى ترضى؛ أي لك الحق أن تعتب علي ولا عذر لي أقدمه.
  • قد يعصي الرجل ربه خمسين أو ستين سنة ثم يستيقظ من غفلته في لحظة توفيق وفي ليلة من ليالي عمره فيندم على ما فرط منه، فتكون لحظة الندم الصادقة هذه، تكفيرا لما سلف منه من الذنوب والمعاصي. ولذا قيل: الإسلام يجب ما قبله. وعلى رأس التوابين الحر رضوان الله عليه.
Layer-5.png