

- ThePlus Audio



هل تبحث عن شرح الصدر؟
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفتوحات الباطنية…!
من السور التي ترتبط بعالم الأرواح وعالم المعنى والفتوحات الباطنية سورة الانشراح. إذا كانت سورة النصر تشير إلى الجهاد الأصغر والفتوحات الخارجية كفتح مكة المكرمة، فسورة الانشراح مرتبطة بالجهاد الأكبر وبالفتوحات الأنفسية. ولم ينتصر النبي (ص) في معركة من معارك الجهاد الأصغر إلا وقد سبق ذلك انتصار في ميدان الجهاد الأكبر؛ فمن فُتحت له الميادين الباطنية، ستفتح له الميادين الخارجية. فلم تُفتح مكة إلا بعد أن وصل النبي (ص) إلى ما وصل من المقامات القربية.
إن هذه السورة معنونة بالانشراح والأنسب لعنوانها؛ سورة الشرح. فقد شرح رب العالمين صدر النبي (ص)، فانشرح، إذ أن الانشراح من باب المطاوعة. والانشراح هذا هو استجابة لشرح إلهي؛ فلكل فعل قبول، ولكل فاعل قابل.
سورتان في مقام سورة واحدة
إن سورة الشرح مرتبطة بسورة الضحى، كما ترتبط سورة الفيل بالتي تليها. ولهذا نجمع بينهما في الصلاة بعد الحمد إذ أنهما أي سورتي الضحى والشرح وسورتي الفيل وقريش في حكم السورة الواحدة لوجود الارتباط بينهما. وفي هذه السورة يمن الله عز وجل على رسوله ببعض النعم، وله الحق في ذلك. لقد نهى الله الإنسان أن يمن على نظيره وقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ)[١]، ولكنه المتكبر والتكبر راجح في الجانب الإلهي كما أن المنة منه على العباد راجحة؛ فهو صاحب الفضل الأعظم وقد صرح بذلك في غير آية من القرآن كقوله عز من قائل: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)[٢]. وقد يقول قائل: إن علاقة رب العالمين بنبيه المصطفى (ص) علاقة متميزة، فهو لا يمن عليه وإنما يذكره بالنعم. وهذه وجهة نظر محتملة أيضا.
بماذا خص الله نبيه المصطفى (صلى الله عليه وآله)؟
لقد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (لَقَدْ سَأَلْتُ رَبِّي مَسْأَلَةً وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَسْأَلْهُ، قُلْتُ: أَيْ رَبِّ إِنَّهُ قَدْ كَانَتْ أَنْبِيَاءُ قَبْلِي مِنْهُمْ مَنْ سُخِّرَتْ لَهُ اَلرِّيحُ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُحْيِي اَلْمَوْتَى؟ قَالَ: فَقَالَ أَ لَمْ أَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَيْتُكَ؟ قَالَ: قُلْتُ بَلَى، قَالَ: أَ لَمْ أَجِدْكَ ضَالاًّ فَهَدَيْتُكَ؟ قَالَ: قُلْتُ بَلَى أَيْ رَبِّ، قَالَ: أَ لَمْ أَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْتُ عَنْكَ وِزْرَكَ؟ قَالَ: قُلْتُ بَلَى أَيْ رَبِّ.)[٣]
أي أن شرح الصدر نعمة عظمى تضاهي نعمة إحياء الموتى وتحويل العصا إلى ثعبان. بل تفوق هذه النعمة أو المزية ما خص الله بها أنبيائه السابقين، فالعصا التي تحولت إلى ثعبان وإحياء الموتى وتسخير الرياح أمور خارجية في عالم الآفاق ولكن نال رسول الله (ص) فتحا في عالم الأنفس. وبعبارة أخرى نستطيع القول: إن معجزات الأنبياء كلها في كفة وشرح الصدر في كفة أخرى. فلماذا لا نبحث عن هذه النعمة؟
ما هو شرح الصدر؟
إن مقام شرح الصدر من المقامات المبهمة في النظرة الأولى، ولكن يتضح أهمية هذا المقام بما سنقدمه من وصف وبيان ما أمكننا ذلك. ولنذكر أولا آثار شرح الصدر، لكي نتعرف على هذا المقام من خلال آثاره، فعندما تسأل عن شجرة ما، يُقال لك: هذه شجرة ثمرتها كذا وكذا، فأنت تعرف الشجرة من خلال الثمرة.
ثمرة شرح الصدر أمران؛ أولاً: التحمل. لقد روي عن النبي (ص) أنه قال: (مَا أُوذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَ مَا أُوذِيتُ.)[٤]، ولو تتبعنا الروايات الشريفة، نجد أنه (ص) ما أوذي جسديا كثيرا، فقد كان يُرمى بالحجارة في مكة وكُسرت رباعيته في أحد، ولكنه لم يتعرض للتعذيب البجني الشاق. وهنا يتبين لنا أن المراد بالأذى هو الأذى النفسي لا الجسدي.
لقد كان النبي (ص) يصل إلى سدرة المنتهى وأوحى إليه الرب ما أوحى، وكلمه الله تكليما كما كلم موسى ووصل إلى مقام لم يصله جبرئيل الذي قال: (لَوْ دَنَوْتُ أَنْمُلَةً لاَحْتَرَقْتُ.)[٥] ومع ذلك كان ينزل إلى الأرض ليعش مع الجفاة والمنافقين، وكان ذلك يثقل عليه كثيرا. قد يعيش أحدنا في الحرم حالات سبحانية روحية متألقة، ومن ثم يتجه إلى البيت وهناك تقول له زوجته: أين البصل مثلا؟! أو تتحدث معه بقسوة وهنا تقول في نفسك: في أي عالم كنت وفي أي عالم أصبحت؟! إننا نعيش أحيانا هذه المفارقة بين الأجواء الداخلية وبين الأجواء الخارجية. وهذه المفارقة كانت في أوجها عند رسول الله (ص) ولذا كان من الضروري أن يشرح الله صدره لاحتمال إيذاء القوم.
وإنني أحتمل احتمالا لا جزما ويقينا؛ أن أذى قريش له (ص) لم يكن بأقل من الأذى الذي تعرض له نوح (ع) من قومه. ولكن دعا نوح (ع) غلى قومه بالهلاك، فقال: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا)[٦]؛ أي ساكنا في هذه الديار. ولم يترك رب العالمين على وجه الأرض من مخلوق إلا ما اجتمع في سفينة نوح (ع)، وأغرق الأرض ومن عليها.
ولكن نبينا نبي الرحمة عندما قيل له: ألا تدعو عليهم؟ قال: (اَللَّهُمَّ اِهْدِ قومي.)[٧] ولو دعا كما دعا نوح (ع) على قومه، لعم الطوفان الأرض مرة أخرى بدعوة المصطفى (ص). ولكن لم يصدر من هذا القلب المنشرح الواسع إلا الدعاء لهم بالرحمة. ولقد كان يسع هذا القلب العظيم حتى الوحشي، قاتل سيد الشهداء حمزة (ع) الذي استخرج كبده وناوله هندا لتلوكه. ويقال: إنه ما رؤي رسول الله طوال عمره أشد حزناً من اليوم أو الساعة التي قتل فيها حمزة (ع) أولاً: لأنه عمه، ثانيا: لأنه قُتل قتلة فجيعة ومُثل بجسمه فشقوا صدره، وأخرجوا كبده. ولكن عندما دخل وحشي إلى المدينة وأسلم، لم يفعل النبي (ص) معه شيئا إلا أنه أعرض عنه.
وهنا لابد أن تفكر في التأسى برسول الله (ص) فلك فيه أسوة حسنة. ولا تكن ممن يريد الانتقام حتى من أبيه وأمه ولا يتحمل أخطائهم وأخطاء زوجته وأولاده. زوجة عاشت معك دهراً، وأنجبت لك ذريةً طيبة، فهب أنها أساءت وأخطأت، فأين شرح الصدر؟ ألا تتأسى بالنبي (ص)؟ ألا تدفع بالتي هي أحسن؟ كيف بعد ذلك تدعي الانتساب إلى النبي (ص) الذي كان يقول: اللهم اهد قومي، والذي قال في يوم فتح مكة: اليوم يوم المرحمة؟
كيف نتحمل الآخرين؟
أما الذي لم يشرح الله صدره، لا يستطيع أن يتحمل الآخرين ويضيق صدره ويتبرم، ولا تكون له عبادة في هذه الحالة. فهو يكبر للصلاة ويدخل في اشتباكات عنيفة مع خصومه وكأنه واقف في المحكمة لا بين يدي الله عز وجل. وذكر لي أحدهم: أنه كان يُفحش في الكلام مع خصمه وهو في صلاته. من كان قبل دقائق من الصلاة في معركة مع الزوجة وأم الزوجة، هل تكون له صلاة معراجية؟ لا تكون صلاته معراجية بل تكون تسافلية.
وبعبارة أخرى: الذي يريد التميز في القرب الإلهي، والعبادة المتميزة، لا يجعل في قلبه غلاً على احد اتفاقا في روايات ليلة القدر هذا المعنى موجود رب العالمين يغفر للجميع الا لصنف في ليالي القدر من كان بينه وبين أخيه شحناء، فالله سبحانه لا يلتفت إلى القلوب المتباغضة حتى في ليلة القدر. وكأن الله سبحانه بقوله: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)[٨] يخاطب نبيه قائلا: يا رسول الله، ألم نصبرك على الوحشي وعلى المنافقين وغيرهم؟ إنها منتنا عليك.
لا أقدر على غض البصر ولا كظم الغيظ
إنني عندما يُؤمر شاب بغض البصر ويقول لي: لا أقدر، فالوضع في الأسواق والجامعات لا يقاوم، وعندما يؤمر بالسيطرة على غضبه وبكظم الغيظ، فلا يقدر، أعلم أنه محكوم بالفشل والسقوط. ما معنى لا يُمكن. نعم، قد تجد المصيبة التي تنزل بالإنسان عظيمة جدا، كالأم التي تفقد زوجها وأولادها في انفجار مثلا في ساعة واحدة، ولكن ماذا ينفع الجزع في مثل هذه الحالات؟ ماذا لو قالت في زاوية ما: ربنا أفرغ علينا صبرا؟ عندما تصب على نفسك نصف الدلو لا يُقال: أفرغ الدلو على نفسه، إلا إذا صببت ما في الدلو كله على نفسك. وهنا يطلب الإنسان من ربه أن يصب عليه الصبر صبا، ويُثبت قدمه. فلا ينبغي أن ييأس المؤمن بحال من الأحوال في مواجهة النفس والشيطان.
لقد قال موسى (ع) لربه: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي)[٩]؛ أي يا رب، إن مقارعة فرعون تحتاج مني صبرا وشرحا للصدر فامنن علي بذلك. ولكن لم يطلب النبي (ص) من ربه ذلك، بل بادر الرب إلى أن يمن على حبيبه بشرح الصدر، فقال: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)؟ وقال إبراهيم (ع): (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)[١٠]، ولكن ماذا قال وصي محمد (ص)؟ قال (ع): (لَوْ كُشِفَ اَلْغِطَاءُ مَا اِزْدَدْتُ يَقِيناً.)[١١]
كيف نقف على المعاني المذهلة في سورة الانشراح؟
لقد تضمنت سورة الانشراح مضامين مذهلة، ولكن نحتاج إلى تدبر في تلك المضامين. إن القرآن الكريم أصبح لنا اليوم كلغز من الألغاز وأصبحت لغة القرآن عند الكثير من العرب لغة أجنبية وحالها حال الإنجليزية وغيرها. فالذي يتلكم بالإنجليزية لا يفهم القرآن الكريم وأنا العربي لا أفهم القرآن الكريم لأنني لم أستثمر لغتي الأم لفهم القرآن الكريم، إذ أننا كوننا عرب قد قطعنا نصف الطريق وعلينا أن نكمل الطريق إلى فهم القرآن الكريم وتعلم اللغة العربية، لغة القرآن وأهل الجنة.
من أعظم آثار شرح الصدر
أما الأثر الثاني لشرح الصدر؛ التهيئ لاستقبال الفيوضات الإلهية. إنني لست ممن يقدس المصطلحات كثيرا ولكن ثمة مصطلح جميل في كتب الأخلاق وهو الواردات. كما أن الدول لها بضائع تصدرها وأخرى تستوردها؛ كذلك لبعض الممالك الأنفسية وبضائع تستوردها بأعلى الأثمان إلى جمارك هذه النفوس. وشتان بين دولة محاصرة وأخرى مفتوحة الموانئ على العالم، تدخل إليها البضائع من كل مكان. إن موانئ قلب المؤمن مفتوحة تأتيه الأرزاق من كل مكان وزمان. فتأتيه واردات في ليالي القدر وفي الصلاة وفي المشاهد وفي ساعات السحر وحتى في النوم؛ فيستيقظ وهو منشرح الصدر. وفي المنام ينال البعض بعض الدرجات ويُعلم، وهذا بحث نتركه لأهله.
كيف نتلقى الواردات الإلهية؟
أما القلب الضيق، فلا يتلقى الواردات الإلهية. هناك مثال يعرفه عوام الناس، وهو قول القائل: هل يمكنه رب العالمين أن يجعل الكرة الأرضية في بيضة؟ أين قدرة الله إذن؟ إن رب العالمين قادر ولكن المحل غير قابل. إن الله سبحانه لا بخل في فيضه، ولكن أنت لست بقابل، ولابد من أن توسع الإناء وينشرح صدرك، فعندها تأتيك الفيوضات كالمطر المتواصل. كم من المؤمنين دخلوا المشهد ونالوا في زيارة واحدة زاد الأبد؟ أخذ من الجوادين (ع) ما يعيش به إلى آخر عمره، أو تلقى تحت قبة الحسين (ع) فيضا لا يفارقه حتى في الجنة. وفي المقابل تجد من يذهب إلى زيارته (ع) مشيا في كل عام مرة أو مرتين، ثم لا يرى في باطنه تغييرا، لأنه لم يوسع إنائه.
أسعد الناس بهذه السورة
لو ذهبت إلى البحر عشرين مرة وفي كل مرة تأخذ فنجانا بيدك، لن تنال أكثر من هذا الفنجان. لو قُدر للبحر أن يقول لقال: ما ذنبي أنا، وقد جئتني بقدح صغير؟ فلو أتيتني ألف مرة لوجدت العطاء هو العطاء.
ولهذا فإن سورة الانشراح من السورة المصيرية والمهمة جدا. وقيل: إن من انتابه ضيق صدر، فليكثر من قراءة هذه السورة بتأمل، وأنا على يقين من أن المعتقد الملم بمعاني هذه السورة المتفت إلى ملكوتها يعطى ما أعطي النبي (ص) بدرجة من الدرجات، وتزول عنه الهموم والغموم والاكتئاب المزمن. لو أن انساناً أعطي التحمل والقدرة على تلقي الفيض، كان أسعد إنسان على وجه الأرض ولو كان في ظلمات السجون. ومن لم يشرح له الله الصدر، فسيكون في ضيق وتبرم ولو كان في أجمل قصور هذا العالم وفي أحضان أجمل النساء.


خلاصة المحاضرة
- إن لشرح الصدر ثمرتان؛ أحداها ما يتعلق بالأمور الخارجية وهي تعزيز قدرة الإنسان على تحمل الآخرين. والأخرى تتعلق بالأمور النفسية، وهي تهيئة النفس لتلقي الواردات الإلهية. فمن شرح الله صدره، كان أسعد الناس ولو كان في السجن، ومن لم يشرح صدره، كان في ضيق ولو كان في أوسع الأماكن.
