- ThePlus Audio
هل تأملت في هذه الفقرة: (وَأَنْتَ مُسَدِّدٌ لِلصَّوَابِ بِمَنِّكَ)؟
بسم الله الرحمن الرحيم
كيف نُشخص الصواب عند الحيرة الشديدة؟
من العبارات البليغة التي وردت في دعاء الافتتاح: (وَأَنْتَ مُسَدِّدٌ لِلصَّوَابِ بِمَنِّكَ)[١]. قد يستفتي أحدنا حول مسألة شريعة لا يعلم الحكم فيها؛ فتأتيه الإجابة من الفقيه؛ هذا حلال أو هذا حرام وانتهى الأمر. إن هذا الاستفتاء لا يُكلف أحدنا شيئا وقد سهلت الهواتف هذه الأيام التي يحملها كل واحد منا معه هذه العملية. فترسل السؤال من خلال هاتفك وسرعان ما يأتيك الجواب. ولكن ليست مشكلتنا فقط في المسائل الشرعية؛ بل هناك موضوعات خارجية تدعونا في كثير من الأحيان إلى الحيرة، ولا نستطيع أن نجد لها حلا أو إجابة شافية أحيانا.
فقد يريد أحدنا أن يتزوج، فيسأل عن هذه الفتاة؛ هل هي فتاة طيبة أم لا؟ فتتضارب حولها الآراء. من قائل: لا تصلح لك، ومن قائل: هي فتاة طيبة، ولكلٍ دليله. أو نريد أن نفتح مشروعا أو نبدأ تجارةً؛ فتتفاوت الآراء إلى درجة لا ترجح كفة على أخرى فنحتار. أو يريد الشاب أن يدخل الجامعة، فيقال له: إن ساحة العمل أفضل لك من أن تدرس في الجامعة ثم تتخرج بعد عشر سنوات، وتتوظف. فهذا الإنسان البسيط يفتح محلاً بسيطا فيكون دخله أضعاف ذلك المتخرج الذي أصبح موظفا بعد طول دراسة وانتظار؟ وقد تبلغ الحيرة القمة عند البعض. فعلى سبيل المثال: يحتار الكثير ممن هاجر إلى بلاد الغرب ولا يدري هل يبقى وثمة عمله وحياته؛ أم يرجع لأنه يخاف على دينه ودين ذريته من بعده؛ فهو في حيرة دائما، وهذه الحيرة يترتب عليها سعادة الأبد أو لا سامح الله عكس ذلك.
هل نلجأ إلى الاستخارة عند الحيرة؟
لقد منَّ الله على المؤمنين إذ جعل لهم الاستخارة التي تنفع في محلها وترفع الحيرة الشديدة؛ ولكن إلى متى تستخير؟ هل تستخير في كل يوم؟ في كل خطوة؟ في كل موقف؟ إن هذه الفقرة من دعاء الافتتاح تُعينا الحل الجامع: (وَأَنْتَ مُسَدِّدٌ لِلصَّوَابِ بِمَنِّكَ). لكل واحد منا حيرة مزعجة جداً، وبعض أنواع الحيرة توجب مرضاً نفسياً؛ ففي الليل لا ينام صاحب وله شرود ذهني مع ذلك. هل تتوقع أن الأنبياء أمرهم محلول؟ يأتيه ملك أو جبرئيل، ويقول مثلا: يا رسول الله، اخرج من مكة أو اذهب إليها فاتحا في سنة الفتح؟ أو قاتل أو صالح أو ما شابه ذلك؟ بالطبع للنبي (ص) حكمه الخاص به، ولكن ماذا نعمل نحن؟
هيئ قلبك لاستلام التسديد…!
هناك طريقان للتسديد؛ الطريق الأول: القلب النظيف أو السليم. إن هذه القلوب هي بمثابة الهواتف المحمولة التي لا تلتقط الأمواج إلا إذا كان الجهاز سليماً، وكانت في شريحة وكنت مشتركاً في الاتصال مثلا، وعندها تسمع الصوت. يُنقل عن كبار الأولياء أنهم يسمعون أصواتا تحثهم على صلاة الليل مثلا. فلو نام أحدهم عن الصلاة وأوشك الوقت ينفذ، سمع نداء لا يسمعه غيره: قم يا فلان، لصلاة الليل. إن الإلقاء في الروع يعني أن الإنسان له قلب كهذا الجهاز الملتقط؛ يلتقط ما يُلقى فيه.
ولهذا روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (اِتَّقُوا فِرَاسَةَ اَلْمُؤْمِنِ)[٢]. تارة يقول لك إنسان عامي: لا تفعل، فلا قيمة لكلامه، ومرة يقول لك عالم رباني أو مؤمن شرح الله صدره وهنا لابد أن تُترتب على قولهم الأثر. إن الأولياء قد يكونوا في لباس أهل العلم، ككبار علمائنا، وتارة يكونوا من غيرهم وقد رأيت من لم يكن من العلماء وكان قد آتاه الله الحكمة كما آتى لقمان الحكيم. فسل الله عز وجل أن يلقي في قلبك الروع ويبين لك تكليفك.
هل سيلقي رب العالمين في قلبي ما فيه مصلحتي؟
قد يسأل سائل فيقول: هل سيلقي رب العالمين في قلبي ما فيه مصلحتي؟ أليس هذا نوع من الإلهام أو من الوحي؟ ألسنا نقرأ في سورة الناس: (ٱلَّذِي يُوَسۡوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ)[٣]، فإذا كان الشيطان مستمرا في وسواسه كما نعلم ذلك من الفعل المضارع الذي يدل على التكرار، ألا يُلهمك رب العالمين الخير؟ إن إبليس يأتيك وأنت جالس مثلا، فتعشر كأن أحدا يُحدثك ويقول لك: افعل كذا أو لا تفعل كذا. كما أننا نرى بعض الشباب يرتكب جريمة قتل، ويقول: كأن صوتا في داخلي كان يدعوني إلى ذلك أو لارتكاب الفاحشة. لقد أذن رب العالمين لإبليس أن يوسوس وقد قائل سبحانه له: (وَأَجۡلِبۡ عَلَيۡهِم بِخَيۡلِكَ وَرَجِلِكَ)[٤]، وهو مستمر إلى يوم يُبعثون.
كيف يُلهمك ربك الخير؟
هل رب العالمين وهو أرحم الراحمين؛ يجعل قلبك باباً لإبليس؟ ألا تراه يلهمك الخير؟ فأين الرحمة الإلهية؟ فكما يأتيك الشيطان ليوسوس لك؛ يأتيه ملك رحماني يدعوك إلى الخير. ترى الرجل في منزله في محافظة بعيدة عن كربلاء؛ يحن إلى زيارة الحسين (ع) فجأة، فيخرج إلى الزيارة. ما الذي أخرجه من المنزل؟ لقد روي: (مَنْ أَرَادَ اَللَّهُ بِهِ اَلْخَيْرَ قَذَفَ فِي قَلْبِهِ حُبَّ اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وَ حُبَّ زِيَارَتِهِ)[٥]. قد تكون ساهيا لاهيا مع الأطفال وتشاهد التلفاز؛ فيحن قلبك ويعتريه شوق الزيارة؛ فتحرك الدابة ساعتين في الطريق فتصل إلى الحرم وتُصبح تحت القبة، فتنفجر بالبكاء والدعاء، وإذا ببلاء عظيم يُدفع عنك أو رحمة غامرة تنزل عليك. وهذا هو القذف في القلب.
قد يقذف الله سبحانه في قلوب الأعداء كما الأولياء
وليس هذا القذف خاص بالأولياء، بل هو مما يشمل الأعداء أيضا. فقد قال عز من قائل: (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ)[٦]. لقد روي أن النبي (ص) في معركة أحد وبعد انتصار المشركين في أول الأمر؛ استعاد الأنفاس ببركة شجاعة أمير المؤمنين (ع)، ورجع المشركون إلى مكة وفي الطريق قالوا: لا النبي (ص) قتلنا ولا الكواعب أردفنا. كان من المفروض في أول لحظات الانتصار أن نهجم على المدينة ونرتكب إبادة جماعية بحقهم فننهي الإسلام. ما الذي صرفهم وأرجعهم إلى مكة؟ لقد قذف الله في قلوبهم الرعب. وتختلف درجات التسديد؛ فقد يرى البعض الحقيقة كأنها هلال في أول الشهر يأتي ويذهب؛ ويرى الولي الحقيقة كأنها بدر في منتصف الليل.
سيسرك رب العالمين لما فيه مصلحتك
الطريق الثاني: أن يسيرك رب العالمين عملياً. هناك طريقتان في سقي الأشجار. الطريقة الأولى: هي طريقة السيح؛ حيث يفتح المزارع فيها الماء فيذهب إلى حيث يريد. والطريقة الثانية: هي أنهم يبنون القنوات وعلى كل شجرة قناة مبنية سابقاً من قبل الشركة، فيفتح المزارع الماء وإذا بالماء يجري يميناً وشمالاً إلى أن يصل إلى الشجرة. لقد هندس رب العالمين حياة البعض منذ أن ولد أو منذ أن بلغ؛ فهو يرى حياته مبرمجة. فهو يريد أن يتزوج فيدل الصالحون على الزوجة التي تناسبه فيذهب إليها ويتم العقد في اليوم التالي بكل سلاسة. هذا والبعض يبحث لسنوات فلا يجد، وهذا هو معنى: (مسدد للصواب بمنك)؛ أي يُديرك من حيث لا تشعر.
كيف يتصرف الله بشوئنك؟
ولقد روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (عَرَفْتُ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ بِفَسْخِ اَلْعَزَائِمِ وَحَلِّ اَلْعُقُودِ وَ نَقْضِ اَلْهِمَمِ)[٧]. فقد تبني على أمر من الأمور وساعة التنفيذ تنصرف عنه. ما الذي صرفك؟ ما الذي كرهك؟ ما الذي حببك؟ شاب يعزم على الهجرة إلى بلاد الغرب والأمور تامة متسقة، فتأتي أمه تحت القبة وتقول: يا أبا عبدالله، إن ولدي منحرف هنا؛ فكيف إذا ذهب إلى تلك البلاد، وأصبح في بيئة الفساد؟ فإذا بالشاب ليلة السفر يرمي الجواز جانباً ويقول: كرهت هذا السفر. من أين؟ من (وأنت مسدد للصواب بمنك).
وليس هذا بالأمر الغريب فالله سبحانه هو القائل: (ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ)[٨]. أنت ولي ولدك تدخله المدرسة وتخرجه منها وتعمل به ما تشاء، وكذلك سيكون الله ولي الذين آمنوا، يتولى أمورهم ويسير شئونهم، ويهديهم إلى ما فيه مصلحتهم.
يصل العبد إلى درجة يرى يد رب العالمين الحانية تقلبه يميناً وشمالاً، حتى يكون ممن قال عنهم سبحانه: (أَلَآ إِنَّ أَوۡلِيَآءَ ٱللَّهِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ)[٩]. أين من يركب القطار فيمشي هذا القطار بسرعة معينة، وسائق القطار في الأمام وهو نائم في الكابينة نوماً هنيئاً حتى يوقظه ويقول له: وصلت إلى المحطة يا مسافر أو وصلت إلى مشهد الرضا (ع) مثلا؛ فأين هذا ممن يركب الجمال في البراري والصحاري ويسقط تارة ويقوم أخرى؟
خلاصة المحاضرة
- هل رب العالمين وهو أرحم الراحمين؛ يجعل قلبك باباً لإبليس؟ ألا تراه يلهمك الخير؟ فكما يأتيك الشيطان ليوسوس لك؛ يأتيه ملك رحماني يدعوك إلى الخير. ترى الرجل في منزله في محافظة بعيدة عن كربلاء؛ يحن إلى زيارة الحسين (ع) فجأة، فيخرج إلى الزيارة، وهذا هو الإلهام والتسديد.