Search
Close this search box.
  • هل القرب من الله سبحانه يختص بالعرفاء؟
Layer-5-1.png
عناوين المحاضرة
عناوين المحاضرة
Layer-5.png
Layer-5-1.png

هل القرب من الله سبحانه يختص بالعرفاء؟

بسم الله الرحمن الرحيم

لا يختص هذا الطريق بطلاب الحوزة

من الآيات التي تؤكد على ضرورة الانقطاع إلى الله سبحانه والعزم على السير إليه والتقرب إلى مرضاته قوله سبحانه: (وَٱذۡكُرِ ٱسۡمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلۡ إِلَيۡهِ تَبۡتِيلࣰا)[١]. وليست هذه الآية ولا أشباهها تخاطب طلاب اللحوزات العلمية ولا الأولياء خاصة ممن يُعرفون بالعرفاء؛ وإنما هي تُعنى بجميع المؤمنين من دون استثناء. إن القرآن يطالبنا جميعا بالتقوى عندما يقول: (يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)[٢]، ويخاطب الأمة جميعها في قوله: (يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكۡرࣰا كَثِيرࣰا)[٣]، ويطلب من الجميع أن يحققوا صفات عباد الرحمن الذين ذكرهم في آخر سورة الفرقان: (وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنࣰا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمࣰا)[٤].

اجمعوا ما تحت أرجلكم من الجواهر

ولا يظنن أحد أنه ينجو من الحسرة يوم القيامة سار في هذا الطريق أم لم يسر. إن العذاب الذي لن ينجو منه حتى كبار الصالحين هو عذاب الحسرة على التفريط في هذه الدنيا لقوله تعالى: (وَأَنذِرۡهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡحَسۡرَةِ إِذۡ قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ وَهُمۡ فِي غَفۡلَةࣲ وَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ)[٥]. فكل واحد منا ينظر إلى شريط حياته وإلى اللحظات التي قضاها في الدنيا فيما لا طائل تحته، ويقول: ليتني تزودت لهذا اليوم في تلك الساعات الضائعة.

تذكر بعض الأساطير أن إسكندر القائد العسكري المعروف كان يسير في جيش له في الليل وعندما وصل إلى واد من الأودية قال لجنوده: اجمعوا ما تحت أرجلكم من الأحجار الكريمة والجواهر، فامتثل البعض وامتنع آخرون لأنهم لم يصدقوه. عندما أدبر الليل وأسفر الصباح شعر الجميع بالحسرة من جمع منهم ومن لم يجمع. أما من جمع من تلك الأحجار تمنى لو أنه جمع أكثر وأما الذي لم يجمع فحسرته أعظم والندامة له ألزم. إننا نشعر بهذه الحسرة بمجرد الموت والدخول إلى عالم البرزخ ولا يشعر بهذه الحسرة المعصومون (ع). فالاهتمام والعمل في هذه الدنيا يجب أن يكون على ما يُقلل هذه الحسرة.

شاب في الغرب وصل إلى مقام القرب من الله سبحانه

إنني ولكثرة الترحال في الشرق والغرب؛ ألتقي بالكثير من المؤمنين المنتشرين في تلك البلاد والذين أتعرف عليهم من خلال ما يطرحونه علي من المسائل، فأرى ما تتنفس عنه تلك البلاد من جواهر المؤمنين. لقد تعرفت على أحدهم في دولة نائية مليئة بالفساد والغفلة والسهو ولكنه كان في قمة الإيمان. فقلت له: يا فلان، ما هذا التميز الذي عُرف عنك؟ فقال لي: مما أمتاز به صلاتي التي لا أقول: الله أكبر إلا وأدخل بحر الصلاة ولا ألتفت بعدها إلى غير الله عز وجل.

إن التشتت وعدم الإقبال مسألة يعاني منها حتى المعممون. ترى الواحد منهم يصلي وإذا بفكره ينشغل في المسألة التي سُئل عنها قبل الصلاة، أو ترى التاجر يُفكر في المشاريع التي تدر عليه مزيدا من الأرباح. إن مقياس القرب إلى الله عز وجل مقدار هذا الخشوع والإقبال في الصلاة. لو ادعى أحدهم أن له معرفة شخصية بالوزير الفلاني ثم ذهب إلى ذلك الوزير فلم يستقله؛ بل طرده وأنكر معرفته به، ألا يُقال له: أنت كاذب في ادعائك؟ من لا يخشع في صلاته غير مرحب به على أقل التقادير ولا يُمكنه ادعاء القرب من الله سبحانه. هل هناك كرامة أعظم من أن يحيي أحدهم الموتى؟ لو أن أحدهم أحيى ميتا لا تعده من الأولياء ما لم يخشع في صلاته…! فلو كان قريبا من الله عز وجل لخشع في صلاته لما روي عن النبي الأكرم (ص): (اَلصَّلاَةُ مِيزَانٌ مَنْ وَفَّى اِسْتَوْفَى)[٦].

وكنت أصدقه لأنه كان مجهولا بين الناس. فعندما ترى الرجل مجهولا تقتحمه العيون، فاعلم أنها علامة إيجابية. ثم قلت له: زدني مما أنعم الله به عليك، فقال: وصلت إلى درجة أرى الله معي في كل آن يمينا وشمالاً، ولذلك كان يضحك ويمرح ويقول: إنني سعيد جداً لأن الله معي.

هل دخل هذا الرجل دورة؟ هل كان له أستاذ؟ هل حصل ما حصل عليه في مشهد من المشاهد؟ هل كان يتردد بين كربلاء والنجف؟ بل كان في بلاد مليئة بالكفر والفسوق، وفي صحراء قاحلة وأرض سبخة، ولكن أينعت شجرته وأثمرت أيما إثمار. ينبغي أن يتأمل الإنسان حاله ويفكر في محاسبة نفسه وبطئها عن الوصول إلى المطلوب وهو يتردد في المشاهد ويحضر المجالس والهيئات ويمشي في الأربعين.

قد لا تكون شجرة إيماننا ذابلة ولكن هل هذا هو المطلوب منا؟ فأين النمو إذا؟ لا تكتف بالصلاة والصوم وتظن أنك قد أديت ما عليك. يأتي أحدهم يسأل عن أخلاق من تقدم لخطبته فيقال له: إنه رجل تقي يصلي ويصوم. هل أصبح الالتزام بالصلاة والصوم فخرا؟ هل هما غاية الدين؟ أين الأخلاق وأين السيطرة على الغضب والشهوة؟ إن الصلاة والصوم من أوليات الدين ولا ينبغي أن يكونا على حساب سائر الواجبات.

لا تهتك حجاب الأسرار للأغيار

إن هذه المعاني التي يصل إليها الإنسان المؤمن لا ينبغي أن يذكرها لكل من هب ودب، وإنما ينبغي أن يذكرها لمن يهمه الأمر. إن الذي يكشف الستار عن أسراره الباطنية؛ تُسلب منه هباته. لا تقل: البارحة في صلاة الليل عشت كذا وكذا؛ فما الفائدة التي تترجاها من ذكر هذه الأسرار؟ إنها لا تخلو من لغو أو زهو وأنت غني عنهما. اعرضها على طبيب الأرواح إن وجدته لينصحك ليس إلا. وقد يحاول البعض التقرب إلى أولياء الله الصالحين من خلال ذكر بعض الحالات لهم كالخشوع والبكاء وما شابه ذلك. كن حذراً! الشرك الخفي أخفى من دبيب النمل على المسح الأسود في الليلة الظلماء.

الخشوع من لوازم الإيمان

إنني أتحدث عن هذه المسائل العالية استنادا إلى القرآن الكريم لا إلى القصص والكرامات، ولا أنقل رواية يُمكن التشكيك فيها والطعن في سندها. أما القرآن الكريم فهو الحبل الممدود والسند الذي لا يُشكك فيه من المسلمين أحد. يقول الله سبحانه في مستهل سورة المؤمنون بعض صفات المؤمنين وهذه الآيات لهج بها أمير المؤمنين (ع) عند ولادته: (قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ * ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ)[٧]. هل قال سبحانه: قد أفلح المؤمنون * الذين يصلون؟ كلا. الذين يزكون؟ كلا. الذين يحفظون فروجهم؟ كلا. إنها مقامات عالية وهي من صفات المؤمنين ولكن أول صفة من صفات الفلاح الخشوع في الصلاة .وهذا يعني أن غير الخاشع غير فالح.

هل صليت في حياتك ركعتين بخشوع؟

ليسأل كل واحد منا نفسه: هل صلى من أول البلوغ ركعتين لم تحدثه نفسه فيها بشيء؟ قد يقول قائل: وهل يُمكن التركيز في ركعتين؟ إن الطال يسهر ليلة الامتحان إلى الصباح وهو يُركز على دروسه من دون أن يرف له جفن، ويلتهم الكتاب في لك الليلة التهاما؛ فكيف يعجز عن التركيز في ركعتين لا يستغرقان دقيقتين؟ وهنا يُمكن القول: أنك أنت الذي لا تريد التركيز.

تسهر من أجل الامتحان الذي يُدخلك إلى الجامعة وتقاتل من أجلها ولكن ليست لصلاتك قيمة حتى تقاتل من أجلها. ليست المشكلة في القابلية وإنما المشكلة في الإرادة؛ فإن أردت ركزت وإن لم ترد، لا تركز. ولا أعني بالخشوع البكاء والنحيب وإنما يكفي أن تصلي ركعتين لا تحدثك نفسك فيها بشيء وتتلو الفاتحة وأنت تركز في مضامينها وتتدبر معانيها. إن أضعف الإيمان خشوع البدن بأن تسبل يديك، ولا تحك رأسك وما شابه ذلك من أفعال الظاهر ومن بعد ذلك خشوع الفكر وخشوع القلب. فإن خشع البدن والفكر، يُرجى أن تنال خشوع القلب.

مجالس الحسين (عليه السلام) ودعوة جده إبراهيم

من الأمور التي تسهل السير في طريق القرب إلى الله عز وجل، الحضور في مجالس الحسين (ع). يحضر المؤمن في هذه المجالس التي تقام في العشرة الأولى من شهر محرم الحرام ولابد أن يقطف ثمار هذه الليالي في اليوم العاشر الذي يخرج البعض فيه إلى الصحراء لأنهم لا يطيقون رؤية أحد في ذلك اليوم. إن عصر عاشوراء وأذان ليلة الحادي عشر من شهر محرم كأنه أذان صبيحة يوم القدر التي سلام هي حتى مطلع الفجر. إن العزاء ينتهي في أغلب الأحيان في عصر يوم عاشوراء وفي ليلة الحادي والثاني والثالث لا نرى حضورا كبيرا في المجالس التي تقام في هذه الأيام والليالي التي تلي ليلة ويوم عاشوراء.

من الذي أتى بك إلى مجلس الحسين (عليه السلام)؟

واعلم أن الذي أتى بك إلى هذه المجالس هو الذي أجرى لك الدموع التي ذرفتها عند الاستماع إلى مصائبهم (ع)، وليست هي بطولة منك. إنها عناية ربانية ومصداق قوله سبحانه عن لسان إبراهيم (ع): (فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةࣰ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ)[٨]. إننا نرى في الحج من أتى من أدغال أفريقيا ممن لا يعي شيئا من أمور الدين ولكن شملته الدعوة الإبراهيمة وساقته إلى الحج ولا نستبعد أن هذه الدعوة التي دعا بها لحجاج بيت ربه وللطائفين والعاكفين والركع السجود، تشمل أيضا زوار حفيده الحسين (ع) الذي لا شك أنه آلمه قتله.

ماذا دار بين النبي وربه في المعراج؟

لما صعد النبي (ص) في حادثة المعراج؛ دار حديث إنسي بين الله عز وجل وبين النبي (ص) يصفه القرآن بصورة مبهمة: (فَأَوۡحَىٰٓ إِلَىٰ عَبۡدِهِۦ مَآ أَوۡحَىٰ)[٩]؛ فما هو الذي أوحاه سبحانه إلى نبيه؟ إن العقول لا تستوعب ذلك كما أنها لا تستوعب الروح فقال سبحانه: (وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلࣰا)[١٠]. إن مصيبة الحسين (ع) هي مصيبة لا يستوعبها العقل كذلك. ولهذا ورد في زيارة عاشوراء: (وَ جَلَّتْ وَ عَظُمَتْ مُصِيبَتُكَ فِي اَلسَّمَاوَاتِ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ اَلسَّمَاوَاتِ)[١١]. إن الملائكة هم من أهل السماوات وأرواح المؤمنين التي تحلق حول العرش من أهل السماوات، والله عز وجل هو صاحب المصيبة أيضا.

غضب الله للحسين (عليه السلام)

إن الله سبحانه يقول في كتابه: (فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا ٱنتَقَمۡنَا مِنۡهُمۡ فَأَغۡرَقۡنَٰهُمۡ أَجۡمَعِينَ)[١٢]؛ أي أغضبونا، وأي غضب أعظم من الغضب الإلهي على قتلة الحسين (ع)؟ إنك تبكي على من غضب من أجله رب العالمين. فيُمكن القول: إن الله سبحانه هو صاحب هذه المجالس أولا، وأهل البيت (ع) هم أصحاب المجالس ثانيا، والذي يدخل في هذه المجالس يدخل في ضيافة الله سبحانه كما ورد في ذلك حديث قدسي: (أَهْلُ طَاعَتِي فِي ضِيَافَتِي)[١٣]. فما الذي يُمكن أن يعطيكه الذي بيده خزائن السماوات والأرض؟ إنه يقول: (وَسۡـَٔلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضۡلِهِ)[١٤]؛ فلا تطلب القليل. إن رجلا أعان النبي (ص) على بناء جدار فطلب في مقابل ذلك الجنة، وقد أعطاه النبي (ص) ما سأل.

واطلب من الله سبحانه التوفيق للعمل. لو ألقى عليك الطبيب محاضرة إلى الصباح، ولم يعطك وصفة، لن تنفعك تلك المحاضرة شيئا. وإذا أعطاك وصفة، ولم يكن لك مال تشتري به الدواء، أو كان عندك مال وفُقد الدواء أو أخذت الدواء ولم تستعمله كذلك لن ينفعك شيئا. قل: يا رب، أدخل النظريات هذه إلى جوفي بلا محاضرات وبلا دروس وبلا دورات.

ماذا تعرف عن سياسة الدفع؟

لابد وأن نتبع في حياتنا سياسة الدفع قبل الرفع. إن من الشعارات التي تجدها في المستشفيات وهو شعار دولي في كل العالم: درهم وقاية خير من قنطار علاج. ينبغي أن نمنع الإنسان من السقوط في البئر، بدل الاتصال برجال الإطفاء وإخراجه بعد اللتيا واللتي. حاول ألا تسقط في البئر، لأن الخروج منه مكلف ويرجعك هذا السقوط إلى الوراء.

الاستعداد للبلاء

واعلم أنك لن تخلو في هذه الحياة من الابتلاء. لقد التقيت بأحد العلماء الأفاضل قبل موته فعرفت أنه مبتلى بمرض الاكتئاب مع أن أوضاعه كانت مستوسقة من بدن سليم ومال وفير وذرية طيبة كلهم من العلماء. عرفته على طبيب نفسي فلم يتعالج إلى أن توفاه الله، وقد ذكر لي سبب ذلك ولكنني لا أسطيع الإفصاح عنه. إن الإنسان قد يُبتلى فجأة بما لا يطيق دفعه؛ فقد ترى الشاب في ليلة الزفاف التي ينبغي أن يكون فيها من أسعد الناس؛ منقبصا حزينا تجري دموعه من دون اختيار وهو لا يدري سبب حزنه.

إن العوام من الناس يلجأون في مثل هذه الحالات إلى السحرة والمشعوذين. دع هؤلاء واذهب إلى الحسين وخاطبه: السلام عليك يا إمام الإنس والجان، واطلب منه أن يُبعد عنك أذى الجن إن كنت مبتليا بهم أو أن يقيك السحر وقد قال سبحانه: (وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِۦ مِنۡ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ)[١٥]؛ فهل يغلب السحرة الإرادة الإلهية؟ وهذا أبسط أنواع الابتلاءات حيث لا يحتاج إلى سبب كالجرثومة ولا إلى حادث سير، وإنما تشعر بحالك وكأنها مصباح انطفأ فجأة. إذا انقطع التيار الكهربائي عن البيت عم السكوت في المنزل؛ وكذلك هي حالنا وكهرباء النفس بيد رب العالمين. لا تغتر بما أنت فيه فقد يزول كل شيء في لحظة

كيف ندفع البلاء؟

إن مما يدفع البلاء؛ الابتعاد عن المعاصي. وإياك والمعصية بعد الموسم العبادي؛ فهي قاتلة كالذنب بعد العشرة من محرم أو بعد العمرة والحجة أو بعد الأربعين. يقولون لك: نحن الذين أكرمناك ودعوناك إلى البيت أو أكرمناك بهذا المجلس ورققنا قلبك بعد أن كان قاسياً قبل محرم، فلماذا تعرض عنا؟ ولله سبحانه يقول: (وَأَنَّهُۥ هُوَ أَضۡحَكَ وَأَبۡكَىٰ)[١٦]؛ فاحذر الإدبار بعد الإقبال. إنني عندما أزور الحاج أذكرهم بالحديث المروي عن الصادق (ع): (اَلْحَاجُّ لاَ يَزَالُ عَلَيْهِ نُورُ اَلْحَجِّ مَا لَمْ يُلِمَّ بِذَنْبٍ)[١٧]. ويُمكن القياس على هذه الرواية ونقول: الصائم عليه نور الصيام ما لم يلم بذنب، وأصحاب الموكب المعزون عليهم نور الخدمة ما لم يُذنبوا.

مسرف الأنوار…!

ولكن إياك والتبذير بهذا النور. إن بعض الناس يُسرف في صرف الأموال؛ فهو يكسب ثروة طائلة ويُنفقها في ليالي حمراء، في القمار وغيره، والبعض مسرف في الأنوار. إنه يكتسب النور بصلاته وصيامه وزيارته وحجه ولكنه يضيعها ويخسرها؛ فهو بين هدم وبناء كحمقاء الجاهلية التي وصفها سبحانه بقوله: (وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثࣰا)[١٨]. فاحذر القاسمات من المعاصي التي لا تتأخر عقوبتها. إن أمير المؤمنين (ع) رأى أحدهم يسترق النظر إلى النساء فلطمه على وجهه، فاشتكى على الإمام (ع) فقيل له: على من تشتكي؟ رأتك عين الله ولطمتك يد الله.

ولكن قد يكون البلاء خيرا. فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (إِنَّ اَلْعَبْدَ لَيَدْعُو فَيَقُولُ اَللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ لِلْمَلَكَيْنِ قَدِ اِسْتَجَبْتُ لَهُ وَ لَكِنِ اِحْبِسُوهُ بِحَاجَتِهِ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ صَوْتَهُ)[١٩]. قد تكون مصداقا لهذه الرواية، وذلك أنك تطلب من الله مثلا ذرية فلا تأتيك إلا بعد سنتين أو ثلاث. وهناك من لا يدعو؛ ولكن تحمل زوجته في شهر العسل. إن دعواتك هذه تتراكم فيعطيك الله سبحانه ولدا تقر به عينك.

ولابد أن يتبع الإنسان سياسة التوازن في السير إلى الله سبحانه. قد يقرأ الرجل كتابا عن الأولياء الصالحين فيتكرهب ويترك الدرس ويُهمل أهل بيته ويُصبح سريع الغضب بحجة أنه مشغول بالآخرة أو يصوم صوماً مستحباً فيسوء خلقه. هل تصوم صوماً مستحباً لتصب جام الغضب على الزوجة؟ ما هذا الصوم وما هذا القيام الذي يجعلك انساناً متوتراً؟ يكفي أن تصوم شهر رمضان إن كانت هذه نتيجة صومك المستحب. لا ينبغي أن تصوم عرفة إن كان الصيام يُضعفك عن الدعاء وهذا هو التوازن.

الإحسان إلى الوالدين ودوره في ترقية الإنسان

رأيت بعض الشباب يحتقر والديه لأنهما بحسب تعبيره أميان لا يعرفان المعاني الأخلاقية؛ فهل يا ترى هو قد وصل إلى تلك المعاني التي يزعمها؟ إنهما أصل وجودك واحتقارك لهما، يُرجعك إلى الوراء بدل التقدم. كان لنا صديق وصل إلى مقامات عالية وكنت أغبطه لصفاته التي كان يمتاز بها، ففقدته فترة ولم أره في أوساط المؤمنين كما كان يحضر، فمرت الأيام وإذا بي أجده في دولة من الدول، فطلبت منه الحضور، فأبى أن يأتي وقال: خير لك ألا تراني لكي لا ينتقل إليك سوادي!

تعجبت كثيرا وزادني إصرارا كلامه على أن ألتقي به، فلأياً بلأي ما التقينا[٢٠]، فرأيت وجها لا أعرفه، كان قد حلق لحيته وقال لي: وصلت إلى مرحلة أريد أن أصلي فلا أستطيع وكأن يدا تدفعني عندما أكبر للصلاة. قلت: يا فلان، أصدقني ما الذي عملته حتى نزلت من أعلى عليين إلى ترك الصلاة؟ فقال لي: أغضبت والدي حتى دعا علي. وقد التقيت بوالده فقال لي: لقد عذبني وهتكني.

أكرمهما ولو كانا شيوعيين

احذر الشيطان؛ فلا تعلم من أين يأتيك. لو كان أبواك شيوعيين ملحدين ودعواك مع ذلك إلى الإلحاد لا ينبغي أن تسيء إليهما لقوله تعالى: (وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمࣱ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفࣰاۖ وَٱتَّبِعۡ سَبِيلَ مَنۡ أَنَابَ إِلَيَّۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ)[٢١]؛ فكيف إن كانا مسلمين مؤمنين مواليين؟

إذا رأيت في يوم من الأيام إنسانا كثير البكاء، فلا تظن أنه قد عبر الخط الأحمر أو اجتاز الجسر ووصل إلى ساحل النجاة. قد يُلقي الشيطان البكاء على بعض المنحرفين عن الطريق ويفرح ببكائهم لأنه بكاء غفلة. وبحسب ما ورد في الرواية فأنه يعجب بنفسه ويعجب غيره به وقد يتخذه البعض أستاذا. إن البكاء ينفع أصحاب البصيرة؛ لا المنحرفين عن الطريق.

[١] سورة المزمل: ٨.
[٢] سورة آل عمران: ١٠٢.
[٣] سورة أحزاب: ٤١.
[٤] سورة الفرقان: ٦٣.
[٥] سورة مريم: ٣٩.
[٦] الکافي  ج٣ ص٢٦٦.
[٧] سورة المؤمنون: ١٢.
[٨] سورة إبراهيم: ٣٧.
[٩] سورة النجم: ١٠.
[١٠] سورة الإسراء: ٨٥.
[١١] بحار الأنوار  ج٩٨ ص٢٩٣.
[١٢] سورة الزخرف: ٥٥.
[١٣] کلیات حدیث قدسی  ج١ ص٧١٥.
[١٤] سورة النساء: ٣٢.
[١٥] سورة البقرة: ١٠٢.
[١٦] سورة النجم: ٤٣.
[١٧] الکافي  ج٤ ص٢٥٥.
[١٨] سورة النحل: ٩٢.
[١٩] الکافي  ج٢ ص٤٨٩.
[٢٠] التقينا بعد جهد.
[٢١] سورة لقمان: ١٥.
Layer-5.png
Layer-5-1.png

خلاصة المحاضرة

  • إن العذاب الذي لن ينجو منه حتى كبار الصالحين هو عذاب الحسرة على التفريط في هذه الدنيا لقوله تعالى: (وَأَنذِرۡهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡحَسۡرَةِ إِذۡ قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ). فكل واحد منا ينظر إلى شريط حياته وإلى اللحظات التي قضاها في الدنيا فيما لا طائل تحته ويشعر بالحسرة الشديدة.
  • إذا رأيت في يوم من الأيام إنسانا كثير البكاء، فلا تظن أنه قد عبر الخط الأحمر أو اجتاز الجسر ووصل إلى ساحل النجاة. قد يُلقي الشيطان البكاء على بعض المنحرفين عن الطريق ويفرح ببكائهم لأنه بكاء غفلة.
  • رأيت بعض الشباب يحتقر والديه لأنهما بحسب تعبيره أميان لا يعرفان المعاني الأخلاقية؛ فهل يا ترى هو قد وصل إلى تلك المعاني التي يزعمها؟ إنهما أصل وجودك واحتقارك لهما، يُرجعك إلى الوراء بدل التقدم.
  • إن بعض الناس يُسرف في صرف الأموال؛ فهو يكسب ثروة طائلة ويُنفقها في ليالي حمراء، في القمار وغيره، والبعض مسرف في الأنوار. إنه يكتسب النور بصلاته وصيامه وزيارته وحجه ولكنه يضيعها ويخسرها؛ فهو بين هدم وبناء كحمقاء الجاهلية التي تغزل نهارا وتنكث غزلها ليلا.
Layer-5.png