- ThePlus Audio
هل الصوم هو الامتناع عن الطعام والشراب إلى الليل؟
بسم الله الرحمن الرحيم
ثلاث ضيافات في شهر رضمان الكبرى لا تغفل عنها
إن للسلاطين أوقات خاصة يسمحون في تلك الأوقات باستقبال الناس، والدخول عليهم. فلا يُعقل أن يسمح السلطان في كل وقت باستقبال الناس. لدينا في شهر رمضان المبارك أربعة أسابيع، وأربعة ليالي جمع يفتح الباب فيها رب العالمين على مصراعيه. إن شهر رمضان كله شهر ضيافة، ولكن ليالي الجمع ضيافة في ضيافة. إن القاعة السلطانية في غير هذه الليالي، مفتوحة للجميع؛ ولكن في هذه الليلة يُفتح باب خاص، ويُمكن القول أن الأبواب الداخلية مفتوحة في هذه الليالي. وثمة باب ثالث يُفتح لنا في مثل هذه الليالي. إن شهر رمضان هو الضيافة الأولى، وليلة الجمعة الضيافة الثانية الخاصة، ووقت السحر من هذه الليلة ضيافة ثالثة يُفتح لك فيها باب ثالث. ولو أمكنك أن تكون بجوار الحسين (ع) في هذه الليلة وقت السحر؛ فذلك نور على نور. فلنغتنم الفرص؛ لأن الشيطان يحاول أن يشغلنا عن هذه الفرص الكبرى.
اعتكاف من نوع آخر…!
لقد رأيت البعض من المؤمنين له حرص كبير على اغتنام كل لحظة من لحظات هذا الشهر وكان في مراقبة شديدة لنفسه وأعمله، وهذه الغيرة الإيمانية غيرة ممدوحة لا كغيرة النساء التي هي. كفر..! إنها غيرة التكامل التي لابد أن تكون في كل واحج منا. لقد كان هذا الرجل ذات مسئولية وله عمل يشغله؛ ولكنني علمت أن قد ترك عمله وإذا تكلم معه أحد أجاب باختصار وكأنه لا يريد أن يتحدث كثيرا. فسألته وقلت له: يا فلان، ما بك؟ أبك مرض أو تعاني من مشكلة؟ قال: لا هذا ولا ذاك، وإنما أنا رجل لا أعلم موقعي من الله عزوجل وأريد في هذا الشهر الكريم أن اعتكف روحياً. وقد أخذت إجازة من العمل من أجل ذلك. إنه لم يكن يريد الاعتكاف في مسجد، وإنما شهر رمضان كله مسجد جامع بإمكان كل واحد منا أن يعتكف فيه.
من أين تأتي الحكمة؟
من مُورِّثات الحكمة الصمت والجوع، وقد قال سبحانه في كتابه الكريم: (وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗا)[١]. لقد كان قارون من أثرى الأثرياء في زمانه وكان كما وصفه سبحانه: (وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ)[٢]. فإذا كان حمل مفاتيح الخزائن يعجز عنه الرجال الأشداء؛ فكيف بالخزائن ذاتها؟ ولكن ألم يُصبح هذا المال وبالا عليه وكان عاقبته: (فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ)[٣] ؟ في المقابل نجد لقمان الحكيم ذلك العبد الأسود الذي آتاه الله الحكمة التي هي كما وصفها سبحانه: الخير الكثير. لقد خص الله سبحانه سورة من سور القرآن بلقمان الحكيم، ووصل إلى درجة ينقل فيها النبي والأئمة (ع) عنه ويقولون: قال لقمان. كيف وصل لقمان إلى درجة ينقل النبي وآل النبي (ص) كلامه؟ ولماذا صار حكيماً؟ لقد أصبح من الحكماء، بسكوته وبصمته.
عليك بالجوع…!
والجوع مورث للحكمة. فأنت في شهر رمضان جائع – وجوع الصائم لا يُنكر – فحاول أن تضيف إلى جوع الصيام السكوت، وابتعد عن اللغو في الكلام. لماذا يُكثر أحدنا من الكلام من دون طائل؟ إذا لم يضبط الإنسان نفسه، يصل بعد فترة من الزمن إلى درجة إذا لم يتحدث يشعر بضيق شديد وبتعبير البعض: يكاد ينفجر. ولذلك نرى البعض من النساء عندما تتضايق قلبياً؛ تتصل بفلان أو فلانة، وتبدأ بالتهتك والغيبة وما شابه ذلك. وإذا قلت لها: ما بالك؟ تقول لك: أريد أن أفرغ ما في جوفي.
إن المؤمن يصل إلى درجة يناجي فيها رب العالمين ويُصبح مصداق هذا الحديث القدسي: (أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي)[٤]، وتكون خلوته مع الله عز وجل. أين هذا الإنسان الذي يبحث عن بشر يفضفض له، لا حول له ولا قوة، وبين من هو جليس رب العالمين؟ إذا وصل الإنسان إلى مرحلة من الحكمة يرى في باطنه من يحدثه، وقد كان لقمان تظهر هذه الأحاديث الباطنية على لسانه، وهذه هي الحكمة.
إن شهر رمضان هو شهر الحكمة؛ فسل الله عز وجل أن يعطيك هذه الحكمة. إن مقام العصمة هي خاصة لأهلها من النبي وآله (ص) ومقام السيادة – أن تكون من ذرية رسول الله (ص) – مقاما خاص بأهله، وقد قضي الأمر الذي فيه تستفتيان. لأنك لو دفعت المليارات لن تحصل على هاتين المزيتين. إلا أن لقمان لم يكن نبياً ولا رسولاً وإنما كان عبداً صالحاً آتاه الله الحكمة. وهل تكفي أيام شهر رمضان الثلاثين بالحصول على الحكمة؟ نعم، ولكن بشرطها وشروطها، والتي منها أن تلتزم بالصادين؛ الصمت والصيام. ألا نرى من حولنا يشاركون في دورات لأسبوع أو أسبوعين في دولة من الدول وبعد إنهاء الدورة يحصلون على الشهادة؟ الشهادة التي قد تزيد راتبه وتجلب له الكثير من المزايا.
هل غاية الصوم أن تغلق فمك إلى الليل؟!
ولا بأس أن نقف على صور الصوم الثلاثة، فمنها ينفتح للعبد أبواب كثيرة. الصورة الأولى للصوم، هي صوم العوام وهو الكف عن الطعام والشراب إلى الليل. وهذا ليس بذلك الأمر الشاق؛ فحتى الأطفال دون سن البلوغ، أو الفتيات التي بلغن لتوهن وهن في التاسعة من العمر يصومون بكل سهولة. هل تنال المزايا بمجرد إغلاق الفم؟ ثم يعطيك رب العالمين الأجر يوم القيامة، فتعانق الحور وأمامك الغلمان وتجلس في القصور؟ هل هذه غاية المنى؟ فأين قوله تعالى: (وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ أَكۡبَرُ)[٥]؟ يُمكن القول: أن صوم العوام هذا لا يمنعنا من الخسارة. ولا ننسى أن صوم العوام هذا هو القاعدة التي نبني عليها سائر صور الصيام؛ فلولاه لما كان مجال لصوم الخواص وصوم خواص الخواص؛ فهذا الصوم الفقهي مما لابد منه.
أغلق فمك عن كل ما لا يرضي الله
وهناك صورة أخرى للصوم هي صوم الخواص، وهو أن تُغلق فمك عن كل ما لا يرضي الله عز وجل. لا ينبغي للمؤمن أن يقنع بالقليل في عالم القرب من الله عز وجل؛ بل ينبغي أن يبحث عن موجبات التميز. ألسنا نعمل في هذه الدنيا للحصول على بناء متميز وزوجة صالحة هي غاية في الجمال وعلى منصب كبير ودابة فارهة؟ فلماذا لا تكون لنا مثل هذه الأماني في المقامات المعنوية؟ عليك بصوم الخواص وأمسك فمك عن كل ما لا يرضي الله. إن هذا الطعام في النهار لا يرضي الله سبحانه أن تتناوله؟ فهل يرضى لك الغيبة؟ هل الفحش مرضيٌ؟ إنك إن أغلقت هذا الفم عن الحرام بكل صوره؛ فأنت قريب من ينابيع الحكمة التي قد تتفجر في قلبك.
ليكن لك موقف حازم ممن يريد أن يدعوك إلى الإفطار غصبا…!
إننا في شهر رمضان نغلق الفم؛ وتبقى الأذنان مفتوحتان. هل رأيت أحداً يصوم صوم الأذن؟ أو يصوم صوم الفم؟ نعم، ينبغي أن تُغلق الأذن أمام استماع الحرام، والفم عن تناول الحرام أو التفوه بما لا يرضي الله. قد يسمع البعض الغيبة في غير شهر رمضان؛ ولكنه في الشهر الكريم إذا اغتاب أحدهم أمامه يزجره بشدة ويقول له: لا تفطرني. لو أن أحدهم وضع لقمة في فمك وأجبرك على تناولها ألم تصفعه على وجهه قائلا: يا فاجر، هل تريد أن أفطر عمداً؟ إن الكلام المحرم مفطر لأولياء الله.
وهل تصوم العين؟
لقد كنت في جامعة في العراق فرأيت من المناظر التي لا يستسيغها أي مؤمن وشكوت الأمر إلى العمداء، وقلت: هل هذه جامعة، أم حفل لعرض الأزياء؟ وفي القلب كلام لا أدري لمن أقوله. هناك تحدث مع بعض الشباب وقلت لهم: اتخذ من هذه السنوات الأربع في الجامعة سلما للرقى والقرب من الله عز وجل، وهو أمر صعب ولنه ممكن. لأنك تدخل إلى الصف فترى ثلثي الصف نساء وثلثه رجال، يتنافسن النساء فيه على الرجال. فإذا اتخذ الشاب سبيل العفة والخوف من رب العالمين وسيطر على نظراته وشهواته في أجواء كل شيء مهيئ له؛ ألا تتوقع أن الله سبحانه يمن عليه بالحكمة؟ ألا يُعد هذا الشاب من الذين صاموا صوم الخواص؟ إن صوم الخواص أن تمنع كل حواسك وجوارحك عما لا يرضي الله سبحانه.
هذا هو صوم أخص الخواص
وأما صوم أخص الخواص؛ أن تنقطع عما سوى الله عز وجل. هل هذا كلام غريب؟ أبداً. ألسنا نقرأ في المناجاة الشعبانية: (إِلَهِي هَبْ لِي كَمَالَ اَلاِنْقِطَاعِ إِلَيْكَ)[٦]. فهل هذا كلام الدراويش، والصوفية؟ هل هذا كلام الناس العجيبين؟ إنه كلام منقول عن أمير المؤمنين (ع). إنه يبحث عن كمال الانقطاع؛ لا الانقطاع فحسب. أي با رب، أعطني مرتبة لا أعرف فيها سواك في هذا الوجود. ما هو معنى التوحيد؟ إن التوحيد هو أن تعلم أنه لا إله إلا الله؛ لا بمعنى أننا لا نعبد الأصنام ولا نعبد هبل واللات والعزى؛ فقد انتهى زمانها؛ بل أن نعلم أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله. لقد يسر لنا الله سبحانه في شهر رمضان الوصول إلى هذا المقام التي ستكون من نتائجه: (حَتَّى تَخِرَقَ أَبْصَارُ اَلْقُلُوبِ حُجُبَ اَلنُّورِ فَتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ اَلْعَظَمَةِ وَ تَصِيرَ أَرْوَاحُنَا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ)[٧].
خلاصة المحاضرة
- إن المؤمن يصل إلى درجة يناجي فيها رب العالمين ويُصبح مصداق هذا الحديث القدسي: (أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي) ، وتكون خلوته مع الله عز وجل. أين هذا الإنسان الذي يبحث عن بشر يفضفض له، لا حول له ولا قوة، وبين من هو جليس رب العالمين؟
- حاول أن تضيف إلى جوع الصيام السكوت، وابتعد عن اللغو في الكلام. لماذا يُكثر أحدنا من الكلام من دون طائل؟ إذا لم يضبط الإنسان نفسه، يصل بعد فترة من الزمن إلى درجة إذا لم يتحدث يشعر بضيق شديد وبتعبير البعض: يكاد ينفجر.
- قد يسمع البعض الغيبة في غير شهر رمضان؛ ولكنه في الشهر الكريم إذا اغتاب أحدهم أمامه يزجره بشدة ويقول له: لا تفطرني. لو أن أحدهم وضع لقمة في فمك وأجبرك على تناولها ألم تصفعه على وجهه قائلا: يا فاجر، هل تريد أن أفطر عمداً؟ إن الكلام المحرم مفطر لأولياء الله.