- ThePlus Audio
هل الإنسان مخير في هذه الحياة أم مجبر؟
بسم الله الرحمن الرحيم
إن من المسائل الاعتقادية التي وقع النزاع حولها، هي مسألة الجبر والاختيار. وهل نحن مسيرون أم مخيرون؟ والمسألة بحسب الظاهر نظرية، ولكن لها آثارها الكبرى في حياة الإنسان. فإذا اعتقد الإنسان أنه مسير؛ لا يفكر مطلقا في تغيير واقعه ويعيش حالة من الرتابة لفقدانه التأثير في هذا الوجود. فما دام القلم قد جف ولن يتغير شيء في هذه الحياة فلماذا السعي والكد والعمل؟
وإذا اعتقد الإنسان أنه مخير ولا يوجد في هذا العالم من يهيمن عليه؛ فإنه بلا ريب سيعيش حالة من الفرعونية، ويرى نفسه صاحب القرار الأول والأخير في هذه الحياة ولا شيء سيقف أمامه. وإن لم يقل بلسانه فسيقول بأفعاله: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)[١]، فيرى أنه مالك لأمره وليس أحد الحق في التدخل في شئونه.
فصل الخطاب في الجبر والاختيار عند أهل البيت (عليهم السلام)
وينبغي أن نناقش هذه المسألة بدقة ونتناول الآيات القرآنية التي يستشف منها الجبر وكذلك الآيات التي تدل بظاهرها على التفويض حتى نخرج من هذا البحث بنتيجة. وبصورة عامة؛ فإن المسلمين انقسموا إلى جماعات منهم من اعتقد بالجبر ومنهم من اعتقد بالتفويض. وأما أهل البيت (ع) فكان خطهم واضحا: (لاَ جَبْرَ وَلاَ تَفْوِيضَ بَلْ أَمْرٌ بَيْنَ اَلْأَمْرَيْنِ)[٢].
الجبر والتفويض في القرآن الكريم
هناك الكثير من الآيات التي تنفي وجود الجبر تماما. القسم الأول: الآيات التي تنسب الفعل من خير أو شر إلى الإنسان نفسه والعبد هو المسئول عن كل فعل يصدر منه من قبيل قوله تعالى: (فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا)[٣]، أو قوله سبحانه: (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي)[٤].
القسم الثاني: الآيات التي تنفي الظلم عن الله عز وجل من قبيل قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)[٥] وغيرها. ونحن نعلم أن العبد إذا كان مسيرا، أو مكرها، أو مجبرا؛ فلا معنى لعقوبته. وهذه الآيات، وهي قرابة أربعون آية في القرآن الكريم؛ تدل على هذا المعنى بصورة إجمالية.
القسم الثالث: الآيات التي تدل على أن الله عز وجل خلق الموت والحياة ليختبر الناس من قبيل قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)[٦] وهي تدل على حرية في اختيار العمل الأحسن. وهنالك أكثر من ستين آية في القرآن؛ تدل على هذا المعنى بصورة إجمالية.
القسم الرابع: الآيات التي تحذر من العذاب وتحث على التضرع والرجوع إليه سبحانه. ولو كان الإنسان مجبرا أو مسيرا فلا معنى للتضرع والتوبة من قبيل قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ )[٧]. فللتضرع دور في تغيير المقدرات، ورفع العذاب الإلهي. وهنالك ما يقرب من سبعين آية تدل على ذلك.
القسم الخامس: الآيات التي تدل على أن الثواب والعقاب يستندان إلى فعل العبد؛ لا إلى أمر خارجي. من قبيل قوله تعالى: (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[٨]، وقوله سبحانه: (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا)[٩].
القسم السادس: آيات توبيخ الكفار والفساق. وغير المختار لا يوبخ. وفي حياتنا اليومية يعاتب الذي يوبخ الأطفال كثيرا على الرغم من أنهم مختارين إلا أنهم غير مكلفين. ومن هذه الآيات قوله تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ)[١٠]، وقوله سبحانه: (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا)[١١]، وتوبيخه لأهل الكتاب في قوله عز من قائل: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ)[١٢].
القسم السابع: الآيات التي تدل بوضوح على اختيار الإنسان من قبيل قوله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر)[١٣].
القسم الثامن: الآيات التي تدعو إلى المسارعة في الخير وهو قوله سبحانه: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)[١٤]. فإذا لم يكن ثمة مجال للترقي، فلماذا تدعو الآيات للمسارعة في الخيرات؟
القسم التاسع: الآية التي نقرأها يوميا في صلواتنا وهو قوله سبحانه: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[١٥]؛ ولو كان الله عز وجل هو الفاعل، فلا معنى للاستعانة. فالاستعانة تكون لفعل يقوم به الإنسان اختيارا ثم يطلب الاستعانة من غيره.
القسم العاشر: الآيات التي تشير إلى اعتراف الكفار يوم القيامة بذنوبهم من قبيل قوله تعالى: (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ)[١٦]. وهؤلاء قد اعترفوا بذنوبهم وتقبلوا تقصيرهم وخطأهم ولم يقولوا: ربنا أدخلتنا النار بفعلك، فنحن لم نعمل شيئا اختياريا.
القسم الحادي عشر: من الآيات الدالة على الاختيار قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْت)[١٧]؛ أي يعمل الصالح الذي يعوضه عما فعله في حياته الدنيا. ومع هذه الآيات الكثيرة يصبح واضحا، أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا، يخط طريقه بيده. ومن هنا يحسن عقابه، كما يحسن ثوابه.
هل توجد في القرآن الكريم آيات تدل على الجبر؟
ومن الآيات ما يستشف منها الجبر. وهي الآيات التي تنسب الهداية إلى الله عز وجل من قبيل قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)[١٨] أو قوله تعالى: (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ)[١٩]. والإجابة الإجمالية على هذه الآيات: أن الله سبحانه هو الذي هيأ للبشر جميعا أسباب الهداية وأنار لهم طريق الوصول إليه من خلال الرسل الباطنية كالعقل والفطرة ومن خلال الرسل الظاهرية المتمثلة بمائة وأربع وعشرين ألف إضاءة في عالم الوجود ختمها سبحانه بالسراج المنير وهو قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا)[٢٠].
ومثال ذلك: هو الذي بيده إضاءة قوية يمشي أمام الناس فيضيء لهم الطريق ويصح أن نقول عنه: أنه يهدي الآخرين ويفتح لهم الطريق والذين يسيرون خلفه إنما هم يسيرون باختيارهم؛ إذ بإمكانهم أن يتنكبوا عن الطريق ويسيروا في الظلمات. ورب العالمين هو الذي فتح الطريق بالإرشاد، والهداية الفطرية، والهداية الخارجية المتمثلة بالأنبياء والأئمة. فيصح أن يقال بأنه هو الهادي، ولا يستلزم ذلك شيئا من الجبر والإلزام.
ومن الآيات التي تدل بظاهرها على الجبر قوله تعالى: (لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ)[٢١] أو قوله سبحانه: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ الله)[٢٢]. وهذه الآيات إنما تقول: أنك إن وفقت لدخول الجنة – وهي من أعظم المنافع، وحصلت على الرضوان الإلهي الذي هو غاية المكاسب – لا تظن أن ذلك مقطوع الصلة بالله عز وجل؛ إذ كيف وصلت إلى الجنة؟ الجواب: من خلال العبادة..! وكيف عبدت الله عز وجل؟ الجواب: بهذا البدن..! ومن خلق هذا البدن وأمده بالطاقة؟ الجواب: هو رب العالمين، ولو شاء لسلب منك هذه الطاقة.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى ما يصدر من الشر من الإنسان. فالله سبحانه قد بين له طريق الخير والشر وأمده بالطاقة التي يمكنه استعمالها في الخير والشر على حد سواء. فلو أن مجرما قتل إنسانا بريئا بمدية أعطاها إياه غيره هل يلام المباشر للقتل أو الذي أمده بالمدية والسكين؟ وإن كان الثاني يتحمل قسطا من المسؤولية.
والمعاصي تصدر من العبد من أجل الشهوات في أكثر الأحيان وهو قوله سبحانه: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ)[٢٣] ، والله سبحانه هو الذي زين هذه الشهوات. فهل يمكن القول أن الله عز وجل له دور في دخول العباد إلى النار؟ بالطبع لا. إن الله عز وجل يقول: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) . فكل حركة في هذا الوجود سلبا أو إيجابا للبناء أو الهدم، تحتاج إلى طاقة، وهذه الطاقة مخلوقة لله عز وجل، من دون أن تلازم سلب القدرة والاختيار عن البشر.
ومن الجميل ما التفت إليه العلماء في قول إبراهيم (ع) وهو بطل التوحيد عندما تحدث عن الأصنام فقال: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ)[٢٤]. فقد نسب الإضلال إلى الأصنام التي كانوا ينحتونها من الصخر؛ بالرغم من أن الذي ضل هو الإنسان الذي يعبد هذه الأصنام.
ومن خلال هذه الآيات وغيرها إلى ما روي عن الأئمة (ع): (لاَ جَبْرَ وَلاَ تَفْوِيضَ بَلْ أَمْرٌ بَيْنَ اَلْأَمْرَيْنِ)[٢٥]. وهنالك آية في القرآن الكريم تشير إلى هذه الحالة وهي قوله تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)[٢٦]. أي يا نبي الله؛ ما رميت إذ رميت في معركة بدر، ولكن الله رمى. فالنبي (ص) هو الرامي، والمسلمون هم الرماة؛ ولكن الله هو الرامي لأنه أمدهم بهذا المدد، ونصرهم على أعدائهم، فهو خالق السهام وخالق الرماة وخالق الطاقة التي يرمون بها تلك السهام. هذا بالإضافة إلى ما ذكره سبحانه من إنزال الملائكة المسومين.
[٢] الاحتجاج ج٢ ص٤١٤.
[٣] سورة يونس: ١٠٨.
[٤] سورة سبأ: ٥٠.
[٥] سورة النساء: ٤٠.
[٦] سورة الملك: ٢.
[٧] سورة الأنعام: ٤٢.
[٨] سورة النحل: ١١١.
[٩] سورة الكهف: ١٠٦.
[١٠] سورة البقرة: ٢٨.
[١١] سورة المزمل: ١٧.
[١٢] سورة آل عمران: ٩٨.
[١٣] سورة الكهف: ٢٩.
[١٤] سورة البقرة: ١٤٨.
[١٥] سورة الفاتحة: ٥.
[١٦] سورة المدثر: ٤٣-٤٦.
[١٧] سورة المؤمنون: ٩٩-١٠٠.
[١٨] سورة الأنعام: ٩٠.
[١٩] سورة الكهف: ١٤.
[٢٠] سورة الأحزاب: ٤٥-٤٦.
[٢١] سورة الكهف: ٣٩.
[٢٢] سورة الأعراف: ١٨٨.
[٢٣] سورة آل عمران: ١٤.
[٢٤] سورة إبراهيم: ٣٦.
[٢٥] بحار الأنوار ج٤ ص١٩٧.
[٢٦] سورة الأنفال: ١٧.
خلاصة المحاضرة
- وإذا اعتقد الإنسان أنه مخير ولا يوجد في هذا العالم من يهيمن عليه؛ فإنه بلا ريب سيعيش حالة من الفرعونية، ويرى نفسه صاحب القرار الأول والأخير في هذه الحياة ولا شيء سيقف أمامه. وإن لم يقل بلسانه فسيقول بأفعاله: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى).
- ومن الجميل ما التفت إليه العلماء في قول إبراهيم (ع) وهو بطل التوحيد عندما تحدث عن الأصنام فقال: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضلَلْنَ كَثِيرا مِن النَّاسِ). فقد نسب الإضلال إلى الأصنام التي كانوا ينحتونها من الصخر؛ بالرغم من أن الذي ضل هو الإنسان الذي يعبد هذه الأصنام.