

- ThePlus Audio



هل أستطيع أن أكون ممن وصفهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بالمتقين؟
بسم الله الرحمن الرحيم
هل خطبة المتقين تخاطبنا؟
يظن البعض عند قراءة خطبة المتقين والصفات الواردة فيها، أنها صفات لا يُمكن لشاب مراهق أو امرأة أو موظف أو من شاكلهم الاتصاف بها وأنها خاصة بالأولياء الكبار، وبكبار المراقبين والعلماء والمجتهدين. والجواب على هذا التسائل هو: أن الإمام أمير المؤمنين (ع) لا يصف الفانين في الله أو من حاز رتبة كمال الانقطاع إلى الله، وإنما يصف المتقين الذين أمرنا الله عز وجل أن نكون منهم فقال عز وجل: (يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ)[١].
من هم أهل الفضائل؟
ويبدأ الإمام (ع) في هذه الخطبة وصفه قائلا: (فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ اَلْفَضَائِلِ)[٢]. إن السائل وهو همام، كان عابدا ناسكا ولذا لم يذكر له الإمام (ع) الصلاة الطويلة والصيام في عز الصيف وغيرها وإنما أشار إلى نقطة جوهرية. وهنا لابد أن نعلم أن الفضائل أمور باطنية تتعلق بالصفات لا بالجوارح. فالذي يهذب باطنه يصبح من أهل الفضائل وعندها تنقاد له الجوارح. فعلى سبيل المثال: العفة صفة من صفات الباطن والمرأة العفيفة لا يُمكنها أن تتبرج في حال من الأحوال؛ فالعفة الباطنية تؤثر على تصرفها في الخارج فمتنعها من التبرج والتزين للأجنبي. والشاب المراقب العفيف الذي يستحي من الله عز وجل لا تزيغ عينه؛ بل تُصبح عينه معصومة. والبعض يصل إلى مرتبة العصمة النازلة أو العدالة العالية وهي بالطبع دون مقام المعصوم الذي لا يرقى إليه مقام مهمى ارتقى.
الجوارح تتبع الجوانح
وبعبارة أخرى: إن الجوارح تتبع الجوانح. ولذا لا يعاني المؤمن الكامل المتقي في الجامعة مثلا كما يعاني سائر الطلاب من فتنة النظر. فلا ينظر إلى فتاة لا يُمكن الوصول إليها، ثم يشعر بخيبة وإحباط وتتأثر دراسته جراء تلك النظرة ويُصبح مريضا نفسيا وهلم جرا. إن المؤمن زاهد في هذه المحرمات، مأمون من توابع هذه النظرات. فهو يقول: ما لي وهذه النظرة المحرمة التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، وحالي حال الصائم الذي ينظر إلى لذيذ الطعام وسائغ الشراب فلا يكسب إلا هيجان الجوع والظمأ، أو الفقير الجائع الذي يقف على أبواب المطاعم الفاخرة ويشم الروائح الذكية وهو لا يملك ما يسد به جوعته. فالشاب إما أن يملك المال فيخطب إحداهن ويتزوج، وإما أن يسلك سبيل الورع والعفة ويجنب نفسه الوقوع في المهالك.
وقد يظن الناس بأحد خيرا ويعدونه من أهل الفضائل ولكنه أعلم بنفسه من غيره، فلا ينبغي أن يغتر بنظرة الناس إليه ويركن إليها وإنما يعمل على إزالة الرذائل والصفات الخبيثة ولو كانت صفة واحدة. فلو دعوت أحدا إلى منزلك ووفيه ثعبان واحد لا عدة ثعابين، ما قبل دعوتك، فثعبان واحد يكفي للقضاء على الإنسان. لا تجعل قلبك مسكنا للثعابين والحيوانات المفترسة، وتذكر قول الله العزيز: (يَوۡمَ لَا يَنفَعُ مَالࣱ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡبࣲ سَلِيمࣲ)[٣]. فإذا شككت في انتساب خطبة المتقين إلى أمير المؤمنين (ع) فلن تستطيع التشكيك في قول الله عز وجل. فلم يقل سبحانه: إلا من أتى الله بصيام الشهر الكريم، أو بحج البيت أو بقيام الليل ولا بزكاة وغير ذلك وإنما قال: بقلب سليم. وهو القلب الذي خلي من الآفات.
منقطهم الصواب
ثم يقول (ع): (مَنْطِقُهُمُ اَلصَّوَابُ وَ مَلْبَسُهُمُ اَلاِقْتِصَادُ)[٤]. أي لا يتكلم الواحد منهم إلا بعد التفكير في الخطأ والصواب. إنني أرى من المؤمنين من إذا سُئل عن شيء تلجلج وفكر فإذا اطمئن إلى الإجابة وأنها عين الصواب، نطق بها. والمؤمن المراقب لقوله، عادة ما يكون كثير الصمت، فإذا تكلم تفجر بالحكمة. تراه ساكتاً في المجالس ولكن عندما يقال: يا فلان، ما رأيك في الأمر الفلاني؟ تجده عنده الصواب والإجابة الشافية، في المقابل تجد من يُكثر من الكلام لا يُعتنى بكلامه، لأن الصمت هو الذي يورث الحكمة.
ملبسهم الاقتصاد
ثم يذكر الإمام (ع) من صفاتهم الاقتصاد. ولكن كيف نقتصد؟ أن نرى أن المال مال الله، وأن ما نتصرف فيه من النعم الإلهية هي لله عز وجل ولا يُمكن التفريط بها. قد تُهدر الكثير من الماء عند الغسل أو الوضوء في هذه الدنيا ولا يسألك عن ذلك أحد هنا، ولكن ماذا تجيب ربك يوك القيامة؟ من مواقف القيامة السؤال عن الإسراف في المأكل والمشرب وغير ذلك من النعم.
وقد يكون الإسراف في مد المائدة أكثر من المتعارف مباهاة. إن كانت دعوتك للإفطار توقعك في الإسراف والتبذير؛ فتمد مائدة للمباهات في شهر رمضان المبارك ثم ترمي ما فضل من الطعام في المزابل، لن تقربك تلك المائدة ولن تؤجر عليها. ما هذا الأجر الذي ترجوه من مائدة ختامها وزر تحاسب علهي؟ لابد وأن يراقب الإنسان مصارفه، لأنه مسئول يوم القيامة عما يُنفقه. ولكن ينبغي أن لا يخلط بين الاقتصاد والبخل. ترى الرجل يحرص على حبة أرز ولكن يهب الملايين للسائل؛ فهذا مبرئ من البخل والشح وإنما هو رجل يراقب نفسه ويخشى ربه.
غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم
ثم يقول (ع): (غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ)[٥]. إن الرجل كان إذا أراد النظر إلى النساء قبل مائة سنة كان يذهب إلى السوق وما شابه لكي يحظى بنظرة إلى إحداهن ولم يكن في الماضي هذا التبرج والسفور الذي نشهده اليوم. ولكن اليوم تريك الفضائيات والمواقع من الصور المحرمة ما لا حصر له. يصل الحال بالبعض أن يُدمن مشاهدة الحرام، فتراه أمام التلفاز أو الهاتف يُقلب الفضائيات والمواقع وينتقل من صورة إلى أخرى حتى يصل إلى مرحلة لا تجدي معه النصيحة ولا تنفذ إلى قلبه الموعظة.
الإدمان على الأفلام الإباحية
هناك الكثير من الرسائل التي تأتينا حول الإدمان على هذه الصور والأفلام، فنوصي بالزواج لما روي: (مَنْ تَزَوَّجَ أَحْرَزَ نِصْفَ دِينِهِ)[٦]، فيقول البعض منهم: تزوجنا فلم نلبث أن عدنا إلى ما كنا عليه. وإن هذا الإدمان يؤثر بصورة سلبية على الحياة الزوجية حتى يؤدي إلى الطلاق في كثير من الأحيان، فيعود الشاب وحيدا غريبا قد اشتد إدمانه. إنه يُرجى من المتزوج أن يكون أكثر انضباطا من الأعزب ولكن ماذا يصنع من يعيش في البيت وحيدا خاصة في بلاد الغربة؟ هذا وقد روي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (مَنْ غَضَّ طَرْفَهُ أَرَاحَ قَلْبَهُ)[٧]. إن من المجربات أن النظرة الأولى إلى أي امرأة وإن كانت عارية لا تؤثر فيك وإن الله سبحانه سيحميك ويصونك ولكن حذار من النظرة الثانية.
ثم يذكر (ع) يقين هؤلاء فيقول: (فَهُمْ وَ اَلْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ وَ هُمْ وَ اَلنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ)[٨].
أو تعلم أن المؤمن يصل إلى درجة في هذه الدنيا يعيش وكأنه في الجنة؟ ما هي أهم مزايا الجنة؟ أليست أهم مزية قول الله عز وجل: (لَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ)[٩]؟ فكذلك المؤمن في الدنيا لا خوف عليه ولا يحزن فيها على شيء. ولا نافية للجنس؛ أي منفي عنهم جنس الخوف والحزن. وقد رأيت البعض من المفسرين يفسرون هذه الآية بأنها تتحقق لأولياء الله في الجنة. من قال ذلك؟ إن أولياء الله لا خوف عليهم في الدنيا والآخرة، وقد قال عز وجل: (فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةࣰ طَيِّبَةࣰۖ)[١٠].
هذه علة كل المشاكل النفسية
لو جلست مع طبيب نفسي لعلمت أن جميع الأمراض النفسية هي لسببين: إما حزن على ماض أو خوف من مستقبل. فإما أن يكون السبب حزن على فرع دراسي أو زوجة أو عمل لم يصب في اختياره، وإما أن يكون السبب الخوف من مستقبل مجهول من وظيفة لا يدري هل يحصل عليها بعد التخرج وهل يظفر بالفتاة التي يريدها وهلم جرا. ولكن ولي الله لا يشعر بأي من الهاجسين، لأن الله ولي الذين آمنوا وهو كاف عبده وهو الذي يدافع عن الذين آمنوا. هل تخاف من قضية في المحكمة رُفعت عليك وأن يدافع عنك القاضي وجميع المحامون في البلد؟ فكيف تخاف والله هو المدافع عنك؟
ولهذا ينبغي الحذر من التعرض إلى ولي من أولياء الله أو إلى صالح من صالحي العباد. فإذا تعرضت له أوكل أمرك إلى الله عز وجل، والله أشد بأسا وأشد تنكيلا وانتقامه انتقام مروع. يُقال: أن أحدهم تجاسر على عالم من العلماء من أولياء الله جسارة كبيرة فأوكل أمره إلى الله عز وجل فما لبث أن مات بعد سويعات. وعندما بلغه الخبر تألم كثيرا وقال: ليتني واجهته ولم أسكت لكي لا يبتر الله عمره. فلا تتورط مع الأولياء؛ خاصة المنكسرة قلوبهم.
لماذا تجزع من المصيبة؟
ومن صفات المتقين التي ذكرها (ع) والتي يجدر بنا تعليقها على جدران المنزل بدل صور الزهور والحدائق قوله (ع): (عَظُمَ اَلْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ)[١١]. إذا عظم الخالق في عينك هل يعظم كلام المتكلم عليك؟ هل تعظم عندك أعظم المصائل من فقد مال أو عزيز أو بتر عضو في حادث سير؟ بل تصبر أيما صبر وتحتسب في ذلك الأجر من الله وذلك قول الله عز وجل: (ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةࣱ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ * أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَيۡهِمۡ صَلَوَٰتࣱ مِّن رَّبِّهِمۡ وَرَحۡمَةࣱۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُهۡتَدُونَ)[١٢].
إنك تبلغ درجة من درجات النبي (ص) في الصبر على المصيبة؛ حيث يصلي عليك الله سبحانه كما يصلي على نبيه. عندما تصاب بمرض يستغرق ذلك المرض شهرا أو شهرين تنام فيه على فراش المرض في البيت أو المستشفى؛ فاعلم أنك مشمول بصلوات الله عز وجل وبمجرد التعافي تنقطع عنك هذه الصلاة.
ولهذا رأينا بعض المرضى في المستشفيات يصلون صلاة خاشعة ويشعرون بالقرب من الله عز وجل. أما إذا أصبت بفقد ولد أو زوجة تبقى هذه المصيبة ملازمة لك إلى ساعة الاحتضار ويشملك الله بصلاته ما دمت صابرا محتسبا. أليست هذه منقبة عظيمة؟ ولهذا بعض المؤمنين ساعة الموت يقول: يا رب، لك الحمد أن أخذت مني ولدي ورزقتني دوام الصلاة علي ومتعتني بذلك، فلو بقي ولدي حياً لخدمني وأكرمني وساعدني؛ ولكنك عوضتني بما هو أعظم من ذلك.


خلاصة المحاضرة
- لو جلست مع طبيب نفسي لعلمت أن جميع الأمراض النفسية هي لسببين: إما حزن على ماض أو خوف من مستقبل. فإما أن يكون السبب حزن على فرع دراسي أو زوجة أو عمل لم يصب في اختياره، وإما أن يكون السبب الخوف من وظيفة أو فتاة لا يدري هل يحصل عليها وهلم جرا وولي الله معافى من كل ذلك.
- إن الذي يصبر على البلاء والمصائب التي يتعرض لها في هذه الحياة؛ يصلي عليه الله سبحانه ما دام محتسبا صابرا. ما أعظم هذه المنقبة أن تكون بدرجة من الدرجات شبيه رسول الله (ص) الذي يصلي عليه الله سبحانه وملائكته…!
