إن سورة النبي (ص) من السور التي فيها إبراز لعزة الإسلام، وعزة المسلمين.. وفيها ذكر للقتال، حتى أن البعض سماها سورة “القتال”.
﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾.. هذه الآية تدعو لأن يكون الإنسان المؤمن في تعامله مع الأجانب في موقع القوة!.. ﴿وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ﴾؛ هل العلو يكون بالقوة؟.. لا!.. فالمسلمون في معركة بدر لم يكونوا كثيرين، إنما العلو هو من عظمة الله -عز وجل-.. فالعزة الإلهية، هي سند لعزة المؤمن.. قد يقول قائل: ماذا نعمل في قوله تعالى في سورة الأنفال: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾؟.. الجواب على هذا التساؤل هو:
إن هذه الآية التي هي آية السلم، قبلها آية تدعو إلى القوة، وبعدها آية تدعو إلى الاحتراس:
الآية السابقة (القوة): قبل آية السلم هناك آية تقول: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾؛ أي هناك أمر بإعداد القوة!.. ثم يقول: ﴿وَإِن جَنَحُواْ﴾؛ أي إذا هم طلبوا السلم، أنتم لا تبادروا إلى ذلك!..
الآية اللاحقة (الاحتراس): والآية التي بعدها تقول: ﴿وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾.
فإذن، إن السلم أو الصلح له شرطان:
الشرط الأول: أن يكون من مبدأ القوة!..
الشرط الثاني: أن يكون من مبدأ الاحتراس!..
وعليه، فإنه هذا هو السلم الذي يريده الله -سبحانه وتعالى-.. وبعبارة أخرى:
أولاً: ليطلبوا هم السلام.
ثانياً: اجنحوا للسلم من منطلق القوة، لا من منطلق الضعف.
ثالثاً: احذروا من الخديعة ومكر الأعداء!..
﴿إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ﴾.. نحن في حياتنا اليومية بين أربع حالات:
الحالة الأولى: الانشغال بالله -عز وجل-: كالمناجاة، والدعاء، والصلاة.. فالإنسان تمر عليه ساعات في اليوم، تكون عينه على رب العالمين.
الحالة الثانية: الانشغال بما أمر الله -عز وجل-: كالإنسان الذي يكدح على عياله، مثلاً: المزارع الذي يعمل في المزرعة، فهذا لا يذكر الله -عز وجل-.. حيث أن فكره في الأرض والتراب والسماد وغيره؛ هذا انشغال عن الله -عز وجل-، ولكن بأمر منه.. بينما المطلوب هو الجمع، كدأب أهل البيت (ع).. عن أبي عبد الله -عليه السلام- قال: (إن محمد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أرى أن مثل علي بن الحسين، يدع خلفاً لفضل علي بن الحسين، حتى رأيت ابنه محمد بن علي، فأردت أن أعظه فوعظني، فقال له أصحابه: بأي شيء وعظك؟.. قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارّة، فلقيت محمد بن علي، وكان رجلا بديناً وهو متّكٍ على غلامين له أسودين أو موليين، فقلت في نفسي: شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة، على هذه الحال في طلب الدنيا، أُشهد لأعظنه!.. فدنوت منه فسلّمت عليه، فسلّم عليّ ببُهر (أي بانقطاع نفس) وقد تصبّب عرقاً، فقلت: أصلحك الله!.. شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة، على هذه الحال في طلب الدنيا، لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال!.. قال: فخلّى عن الغلامين من يده، ثم تساند وقال: لو جاءني والله الموت وأنا في هذه الحال، جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله تعالى، أكفّ بها نفسي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله.. فقلت: يرحمك الله!.. أردت أن أعظُك فوعظتني).. وفي رواية عن الإمام الصادق -عليه السلام- يقول الراوي: “استقبلت الصادق -عليه السلام- في بعض طرق المدينة في يوم صائف شديد الحرّ فقلت: جعلت فداك!.. حالك عند الله -عز وجل- وقرابتك من رسول الله (ص) وأنت ُتجهد نفسك في مثل هذا اليوم!.. فقال: (يا عبد الأعلى!.. خرجت في طلب الرزق، لأستغني عن مثلك)”!.. هؤلاء الأئمة الذين لحظة من أعمارهم تساوي أعمارنا، يعملون بأيديهم كي يستغنوا عن الناس!..
الحالة الثالثة: الانشغال بأمور جادة في الحياة، ولكن بغير ما أمر الله -عز وجل-: كالإنسان الذي له شركة أو شركتان أو أكثر؛ هذا الإنسان في نظر الناس: إنسان جاد!.. ولكن عند الله -عز وجل- هذا إنسان يلهو؛ لأن عمله هذا يشغله عن الله -عز وجل-.. فالمطلوب هو أن يكون للإنسان كدح اقتصادي في مستوى معين؛ أما إن تجاوز حده، فهذا أمر مذموم؛ لأنه من باب الحرص على الدنيا.. فإن كانت شركة واحدة تكفيه، فلمَ يشغل نفسه بأكثر من ذلك؟!.. فإذن، إن القسم الثالث لا هو انشغال بالله، ولا بما أمر الله؛ ولكن ظاهره الجدية.
الحالة الرابعة: وهو اللعب: لا هو انشغال بالله، ولا بما أمر الله، ولا بأمر جديّ!.. وهذه الأيام الدنيا أصبحت تدور مدار الألعاب المسلية.. فالقرآن الكريم يقول: ﴿إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾؛ أي إن لم يكن الإنسان إلهياً بقسميه: إما أن يكون شغله بالله، وإما بما أمر الله.. فهو بين لهو ولعب: تارة يلعب، وتارة يلهو!.. وكلاهما يجمعهما الانشغال عن الله -عز وجل-.
﴿إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ﴾.. أي رب العالمين لا يطلب منكم الأموال!.. فإذن، لمَ الخمس والزكاة، أليس هذا بطلب؟.. هناك توجيهان لهذه الآية:
التوجيه الأول: أن الله -عز وجل- لا يسألكم كل الأموال، إنما يطلب منكم في الزكاة نسبة مئوية بسيطة، وفي الخمس خمس المال.. فإذن، لم يسألكم الأموال!..
التوجيه الثاني: أي لا يسألها لنفسه، فهذا يعود لكم.. حيث أن المستفيد من الإنفاقات المالية فئتان؛ هما:
أولاً: الفقراء والمستضعفون، هم المستهلكون للزكوات والأموال.
ثانياً: الإنسان الدافع.. فالذي يدفع الخمس والزكاة، يزكو ماله ويزيد في الدنيا، ويوم القيامة ينجو.
فإذن، إن رب العالمين غني عن الإنسان وعن ماله!.. ولكن البعض يقول: ﴿وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ﴾؛ المراد كل الأموال!.. والسبب في الآية التالية:
﴿إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾.. رب العالمين لو طلب من الإنسان جميع الأموال؛ له الحق في ذلك؛ فهو الخالق.. مثلاً: لو أن الله -عز وجل- أنزل تشريعاً وقال: يجب على المسلم أن يأخذ من الأموال لمؤنته، وباقي الأموال عليه أن ينفقها في سبيل الله.. وبعبارة أخرى: يأخذ الخمس، ويدفع الأربعة أخمس.. الآية تقول: ﴿إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ﴾؛ أي إن أصرّ عليكم بهذا المعنى؛ فإن الكل يبخل ويستنكف عن هذا التكليف، إلا من عصمه الله -سبحانه وتعالى-.
فإذن، هذا لطف من رب العالمين، هو يطلب جزءاً من مال الإنسان، ويجعل له الخيار في باقي الأموال.. والمؤمن لا يُقصر في الواجبات؛ فضلاً عن المستحبات.. فمسألة المستحبات لأولياء الله -عز وجل- هي في حكم الواجبات!.. بينما البعض لا يعمل بالمستحب لأنه ليس ملزماً به.. والحال أن المؤمن المثالي ليس هكذا: إذا جاء الأمر الاستحبابي، المؤمن اللبق الكيس الفطن، هو ذلك الذي يعطي معظم أمواله في سبيل الله -عز وجل-، ولنا في أم المؤمنين السيدة خديجة أسوة حسنة!.. فلو أن خديجة أبقت من أموالها لما بعدها، هل كانت لتحصل على هذا الذكر المخلد؟!.. ولا يُستبعد أن تكون الزهراء -عليها السلام-، هي عطية رب العالمين لها، مقابل صبرها مع رسول الله (ص) على الأذى، وإعطائها الأموال في سبيل الله عز وجل.
﴿هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾.. هذه الآية فيها قواعد الدعوة إلى الله -عز وجل-:
أولاً: التنبيه: ﴿هَاأَنتُمْ﴾.. فيها إلفات نظر، أي قبل أن تُبلّغ حاول أن تستجلب نظر المخاطب.
ثانياً: الدعوة: ﴿تُدْعَوْنَ﴾.. الأمر يحتاج إلى دعوة، فالبعض يشتكي من زوجته وأولاده، ومع ذلك لا يدعوهم إلى الهدى.
ثالثاً: الاستدلال: ﴿وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ﴾.. إن الدعوة تحتاج إلى استدلال، أي لا تقل: افعل كذا، ولا تفعل كذا!.. ولكن عليك بإظهار النتيجة.. فالآية هنا تدعو إلى الإنفاق، ولكنها تقول: أيها البخيل!.. أنت الخاسر لا الغير.
رابعاً: التأكيد: ﴿وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء﴾.. الأمر يحتاج إلى تأكيد، فالآية هنا تقول: ﴿وَاللَّهُ الْغَنِيُّ﴾؛ أي غير رب العالمين ليس بغني.. ﴿وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء﴾؛ أي رب العالمين ليس بفقير.. نقطتان متقابلتان: أنتم الفقراء، والله الغني.
خامساً: التهديد: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾.. كما يقال: سياسية العصا والجزرة، فهذه الإغراءات مطلوبة في دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فإذن، إن قواعد الدعوة هي عبارة عن: التنبيه، والدعوة، والاستدلال، والتأكيد، والتهديد.. خمسة أركان في الدعوة إلى الله -عز وجل- مطبقة في هذه الآية الكريمة من سورة النبي (ص).. عن أبي هريرة قال: “تلا رسول الله هذه الآية: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾، فقالوا: يا رسول الله، من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا؟.. فضرب رسول الله (ص) على منكب سلمان ثم قال: (هذا وقومه، والذي نفسي بيده!.. لو كان الإيمان منوطاً بالثريا، لتناوله رجال من فارس).. وفي المجمع، وروى أبو بصير عن أبي جعفر -عليه السلام- قال: (﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا﴾ يا معشر العرب ﴿يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾؛ يعني الموالي).
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.