﴿..فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى..﴾.. إن رب العالمين في هذه الآية، يصف الأنهار التي في الجنة.. وشراب الجنة كما جاء في سورة الواقعة: ﴿لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ﴾.
الدرس العملي:
أولاً: قياس متاع الدنيا بالنسبة إلى الآخرة، يقول تعالى في سورة “الأعلى”: ﴿وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾؛ هو خير بالنسبة لكل شيء: فماء الدنيا يتحول إلى مستنقع، لو ترك فترة من الزمن.. واللبن ومشتقاته أسرع السوائل للفساد؛ فيتغير طعمه.. والخمر في الدنيا؛ يُذهب العقل.. والعسل فيه شمع وشوائب.. والجمال البشري في أفول.. والأشجار تذبل وتموت، ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾.. وكذلك بالنسبة إلى المتاع المعنوي: فالإقبال الروحي فيه كدر، يوم نقبل ويوم ندبر؛ وقد سمي القلب قلباً لشدة تقلبه.. فالإنسان يوم تفتح شهيته على المستحبات، ويوم يؤدي الفرائض بتثاقل، حتى الإقبال الروحي في الدنيا لا دوام له؛ هذا هو متاع الدنيا!.. ولهذا القرآن الكريم يشير إلى طبيعة المتاع الأخروي: بأنه ليس فيه هذه المكدرات، والعين التي يشرب بها المقربون، هذه العين تجعل الإنسان يقظاً دائماً.
ثانياً: إن أنهار الخمر والماء واللبن؛ كلها أنهار في الجنة.. أما المقربون فإنهم يشربون من العين، وفرق بين العين النابعة، وبين الجداول الجارية.. فالمقربون لهم عين، ولكن لا نعلم ما هي طبيعة هذه العين؟.. ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾؛ أي هناك نبع مبهم؛ فقط للمقربين من أولياء الله عز وجل.. وعليه، فإن هذه الآية تكفي لنكون من المقربين؛ حتى نشرب من تلك العين إلى أبد الآبدين!..
﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ..﴾.. هؤلاء الذين كانوا يستهزئون برسول الله (ص) طبع على قلوبهم: أي وسم قلوبهم بسمة الكفار.. وكلمة ﴿طَبَعَ﴾ تختلف عن التعابير الأخرى، على ما يبدو أن القلب كان مفتوحاً.. مثلاً: عندما يقال: خُتم بالشمع الأحمر على بيت فلان؛ أي هذا البيت كان مفتوحاً، وارتكب صاحبه جريمة، فأُغلق المحل بالشمع الأحمر.. وطبع عليه؛ أي قبل ذلك كانت الأمور على ما يرام!.. فالإنسان فطرته تدعوه إلى الله -عز وجل-؛ لأن الفطرة من أدلة التوحيد.. فعندما تنقطع السبل بالإنسان، حتى الكافر يتوجه إلى جهة غيبية، نحن نسميها رب العالمين، وهو يسميها طاقة خفية.. فالاختلاف في التسميات، ولكن هناك جهة يلجأ إليها.
فإذن، إن القلب بطبيعته يميل إلى التوحيد!.. وهناك فرضية تقول: أنه في جينات الإنسان، هناك ما يسمى بجينة الوحدانية، هذه الجينة تدعوه إلى التوحيد، والتوجه لعالم الغيب.. فإنْ لم يصدق عليها اسم “الجينة”، فلنسميها “الفطرة”، لا مانع في التسميات.
﴿.. وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ﴾.. والله العالم كأن اتباع الهوى؛ هو السبب للختم على القلب!.. كلنا نعيش تجاذب الهدى والهوى، فالشاب المؤمن الذي يخاف الله -عز وجل-، عندما يكون في قمة شهوته أيام بلوغه، ينظر إلى منظر محرم، فتنازعه نفسه، ويميل إلى الحرام ميلاً باطنياً شديداً؛ ولكن نداء الفطرة، ونداء رب العالمين يقول: لا تفعل!.. فهذا التجاذب موجود عند الجميع!..
﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى..﴾.. هذه بشرى لمن لم يطبع الله -عز وجل- على قلبه!.. فالذي طبع على قلبه؛ هو في نار جهنم.. ولكن في المقابل ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾؛ -هذه الآية هي مفتاح الكمال-!.. فما هذه الهداية الثانية؟.. إنها هداية خاصة، حيث أن هناك هدايتين:
أولاً: الهداية العامة: إن الله -عز وجل- هدى كل المسلمين، وكل المؤمنين للتوحيد؛ ولكن قلوبهم غير مطمئنة، وغير مستقرة.. فهل هناك أعظم من نبي الله الخليل، إنه أفضل الأنبياء بعد نبينا محمد (ص)؟.. ولكنه عندما خاطب ربه قال: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾؛ فقلب إبراهيم -عليه السلام- مطمئن بالمعاد، ولكنه يريد المزيد من الاطمئنان.
ثانياً: الهداية الخاصة: يصل الإنسان إلى مستوى، كما يصفه علي -عليه السلام- (لو كشف الغطاء، ما ازددت يقيناً)!.. هذه الكلمة ليست بالبسيطة، ولو لم يكن في قاموس علي بن أبي طالب وكلماته إلا هذه الكلمة؛ لكفاه ذلك!.. أما غدير خم، وحديث المنزلة، و..الخ؛ فهذه إضافات.. وكل ما نقول من كمال لعلي -عليه السلام-، يعني في رتبة بعد المصطفى (ص).
﴿.. وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾.. يبدو -والله العالم- ﴿زَادَهُمْ هُدًى﴾ في مجال العلم، ﴿وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾ في مجال العمل.. فرب العالمين يربط على قلب المؤمن، وأهل الكهف لولا هذا الإيمان المحكم، ﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾؛ لما ذهبوا إلى الكهف الموحش!.. لذا، فإن المؤمن له بصيرة زيادة عن البقية، وله إرادة وهمة عالية.. فهنيئاً لمن تبناه الله -عز وجل- بهذه الرعاية المضاعفة: تسديداً في الفكر، وتسديداً في القلب!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.