﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ..﴾.. إن محبة أحدنا للنبي المصطفى (ص) توجب له الأنس بهذه الآية!.. فالآية فيها مضامين مختلفة، حيث أنها تنتقل إلى ذكر أنواع الأنهار في الجنة، بعد أن كانت السورة تذكر القتال.. في هذه الآية معنى الأنهار معنى إجمالي، ولكن سيأتي في آيات أخرى بيان هذه الأنهار، ومن هذه الأنهار في سورة أخرى ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾؛ فهذه العين هي شراب المقربين فقط!.. وهناك أسرار لهذه الأنهار: فهي توجب السكر، ولكن لا السكر الدنيوي، إنما السكر الذي هو اشتداد المحبة لله -عز وجل-.. فأهل الجنة لهم محبة، ولولا محبتهم لما دخلوا الجنة.. وخمر الجنة خمر متميز، يجعلهم يعيشون عوالم من المحبة، لا يمكن أن توصف في هذه الدنيا!..
﴿..وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ﴾.. لعل هذه الآية -إن صح التعبير- من ألذع الآيات في ذكر حياة غير المؤمنين، لأنه -سبحانه وتعالى- يشبههم بالحيوانات السائمة التي همها علفها.. وقد جاء في مواعظ الإمام الحسن -عليه السلام-: (فخذ مما في يديك لما بين يديك!.. فإنّ المؤمن يتزود، والكافر يتمتّع).. وإذا جلس الإنسان على مائدة شهية، فليتذكر قول الإمام علي -عليه السلام- (من كان همه ما يدخل جوفه؛ كانت قيمته ما يخرج منه).. فلا يكن همّ الإنسان هذا الذي دخل؛ لئلا يكون قدره الذي خرج!.. إنها رواية لاذعة!.. والأكل صنف من أصناف التمتع: فهناك تمتع غريزي جنسي، وهناك تمتع أكلي، وهناك تمتع سياحي.. لذا يقول القرآن الكريم: ﴿يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ﴾.. وشهوة الأكل تبقى مع الإنسان إلى أن يموت، فهو من الممكن أن يصل لفترة لا يشتهي فيها النساء، ولكن الطعام يبقى بغيته.
﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ﴾.. لماذا يعبر القرآن دائما بالقرى؟.. هناك احتمالان:
الاحتمال الأول: أن يكون المراد بـ”القرية” مطلق تجمع سكني، سواء كان كبيراً كالمدن، أو كان صغيراً كالقرى.
الاحتمال الثاني: من الممكن -والله العالم- يعبر عن كل المدن، بأنها قرى لا قيمة لها!.. فالفرق بين القرية والمدينة: هو في السعة والضيق، لا أن المدينة أشرف من القرية، ولا أن عاصمة الدولة أشرف من باقي مدن الدولة!.. فهذه تسميات أنتم سميتموها، أما عند الله -عز وجل- فالأكواخ الصغيرة في قرى أفريقيا، هي كناطحات السحاب في نيويورك، بالنسبة له هذه قرية وهذه قرية.. فرب العالمين له ملك السموات والأرض!..
والمعنى: كم من قرية هي أشد قوة من قريتك يا رسول الله!.. فمن هم أهل مكة، وما هو سلاحهم؟.. أبرهة كان سلاحه الفيل، والفراعنة بنوا الأهرامات.. أما عرب مكة -عرب قريش- كانوا يصنعون هبل واللات والعزى، وهي عبارة عن مجموعة خشبية متواضعة؛ فما قيمة هذا العمل؟.. هؤلاء لا قوة لهم، ونحن أهلكنا من هم أكثر قوة منهم!.. هنا “تهديد لأهل مكة، وتحقير لأمرهم: إن الله أهلك قرى كثيرة، كل منها أشد قوة من قريتهم، ولا ناصر لهم ينصرهم”..
﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ﴾.. هذه الآية في سورة النبي (ص) جداً مخيفة!.. لذا المؤمن ينظر إلى نفسه، ويسأل الله -عز وجل- أن يجعله من مصاديق صدر الآية، لا من ذيلها!.. فالناس حسب ما ورد في الآية صنفان:
١. صنف على بيّنة: إن هناك صنفاً من الناس، يمشي في هذه الحياة على بينة؛ ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ﴾.. فالبينة هي التي توضح الحق للإنسان!.. وبعض الناس على بينة، لا من عقله، ولا من معادلاته، ولا من آلته الحاسبة؛ بل رب العالمين هو الذي أعطاه نوراً يمشي به في الناس.. والعالم بزمانه، لا تهجم عليه اللوابس، فلا يدخل في تجارب الخطأ والصواب.. ولهذا قيل: “إن لم يكن لك نور؛ فاستشر أهل النور”!.. وعن رسول الله (ص) أنه قال: (اتَّقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله)!.. ومن مصاديق البينة: الخيرة، والخيرة لها أقسام منها: ذات الرقاع، وبالسبحة، وبالقرآن الكريم، وهناك صيغة من صيغ الاستخارة، وهي أن يقول الإنسان: يا رب، أنا أستشير أخي؛ لأنه مؤمن، فاقض لي الخير على لسانه!.. لذا، المؤمن لا يستشير كل أحد؛ لأن البعض يزيده حيرة وضلالاً، إنما عليه أن يأخذ المستشار الأمين.
٢. صنف دون بيّنة: وهناك صنف من الناس منْ يعمل عملاً سيئاً، ولا يراه كذلك؛ ﴿زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ﴾؛ أي أنه يرى سوء عمله جميلاً؛ فيتبع هواه.. وهذه كارثة!.. ويُعبّر عن هذا الإنسان: بالجاهل المركب.. لأن الجاهل البسيط هو الإنسان الجاهل، ويعلم أنه جاهل؛ فهذا على طريق النجاة.. ولكن الجاهل الذي يجهل أنه جاهل؛ هذا سيبقى في جهله أبد الدهر.
نعيم الجنة:
﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾.. لمَ قال: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ﴾، ولم يقل “الجنة”؟.. كأنه -والله العالم- يريد أن يقول: جنتنا ليست هذه، إنما هذا تشبيه.. أما الجنة الواقعية، فلا تعرفونها!.. ولهذا يقال في نعيم الجنة: “ولا خطر على قلب بشر”؛ أي لا يمكن وصف نعيم الجنة!.. يقول صاحب تفسير الميزان: “أن الجنة أرفع وأعلى من أن يحيط بها الوصف، ويحدها اللفظ.. وإنما تقرب إلى الأذهان، نوع تقريب بأمثال مضروبة”.. ويبدو أن أنهار الجنة متنوعة، وليست بطعم واحد.. فنحن في الحياة الدنيا، نجد مئات الينابيع، ومئات الأنهار؛ ولكل نهر مزيته.. ومن أنواع الأنهار في الجنة:
١. ﴿فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ﴾؛ أي غير متغير بطول المقام.
٢. ﴿وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ﴾؛ أي الحليب باصطلاحنا نحن، ولكنه “غير حامض، ولا قارص، ولا يعتريه شيء من العوارض، التي تصيب الألبان في الدنيا”.
٣. ﴿وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ﴾؛ أي لذيذة.. “يلتذون بشربها، ولا يتأذون بها، ولا بعاقبتها.. بخلاف خمر الدنيا التي لا تخلو من: المزازة، والسكر، والصداع”.
٤. ﴿وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى﴾؛ أي ليس فيه شمع، إنما عسل خالص يجري.. “أي خالص من الشمع، والرغوة، والقذى، وسائر ما في عسل الدنيا من الأذى والعيوب”.
﴿وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾؛ أي جميع الثمار المعروفة لديهم، وغير المعروفة.
إلى هنا وصف النعيم المادي، ولكن في مقابل كل هذا:
﴿وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ﴾.. هذا الذي يطمئن القلب!.. قيل: من الممكن أن يراد بمغفرة الرب: أن الإنسان ينسى ذنوبه في الحياة الدنيا.. فالإنسان الذي يكون على ضفاف أنهار الجنة، ويتذكر ما كان يعمله في الدنيا من المخازي؛ يموت خجلا من الله -عز وجل- فلا يتهنأ بحور ولا بقصور.. لذا، رب العالمين ينسيه ما فعله في الحياة الدنيا.. فهنيئاً لمن عاش في هذه الدنيا، وليس له ما يسوءه، وليس له ما يوجب له الندامة!..
﴿كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ﴾.. الخلود في النار، يرهق الفكر!.. فما معنى الخلود؟.. لو قطّر الإنسان مياه العالم، وجعل بإزاء كل قطرة مليار سنة؛ فإن البحار تنتهي، والبقاء في نار جهنم لا ينتهي!.. فهل الذي يدخل الجنة ويتنعم بها، كمن يدخل النار ويبقى فيها إلى أبد الآبدين؟!..
﴿وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾.. أهل الجنة شرابهم: اللبن، والخمر، والعسل.. وأهل جهنم شرابهم: الماء الشديد الحرارة، الذي يقطع أمعاءهم.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.