إن النبي الأكرم (ص) هو مظهر الرحمة، حيث يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾.. ولكن لمَ تبتدئ الآية الأولى في سورة النبي محمد (ص) بهذا اللحن الشديد: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾؟.. ولمَ هذه الشدة في الآية الرابعة التي هي من الآيات المثيرة للعجب!.. ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾.
إن رب العالمين رحيم يطلب من المسرفين على أنفسهم عدم اليأس من رحمته: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.. ولكن هذا البشر يتسافل، ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ إلى درجة يصبح عثرة في طريق الأنبياء.. والعاقل إذا رأى أمامه ما يضرّ يزيله عن الطريق؛ فهذه سُنّة الأمم والعقلاء.. وقد قيل: “اقتلوا الموذي، قبل أن يوذي”.. فهل هناك إنسان يرفق بالعقرب مثلاً؟.. بل على العكس يقتله قبل أن يؤذيه؛ فهذه سنة عقلائية!.. والكفار الذين كانوا في زمان النبي (ص) لم يقبلوا الإسلام، ولم يقبلوا أن يكونوا في طريق الذين ﴿أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾؛ ولهذا لحن الآية لحن شديد.
﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ﴾.. والمعنى: “فاقتلوهم حتى إذا أكثرتم القتل فيهم، فأسروهم بشد الوثاق، وإحكامه.. فالمراد بشد الوثاق: الأسر”.
﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء﴾.. إما أن تمنوا عليهم بإطلاق السراح، وإما أن تطلقوا سراحهم مقابل مبلغ مالي.. جاء في تفسير الميزان: “وقوله: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء﴾؛ أي فأسروهم، ويتفرع عليه أنكم إما تمنون عليهم مناً بعد الأسر فتطلقونهم، أو تسترقونهم، وإما تفدونهم فداء بالمال، أو بمن لكم عندهم من الأسارى”.
﴿حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ﴾.. أوزار الحرب: أثقالها، وهي الأسلحة التي يحملها المحاربون.. والمراد به: انقضاء القتال.
ما هي فلسفة الجهاد في الإسلام؟..
إن القرآن الكريم يذكر فلسفة الجهاد في أربعة موارد، وهي:
أولاً: الدفاع عن المظلومين.. يقول تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾.. فالإسلام لا يسمح بالظلم، ولهذا الذي يقاتل دون ماله وعرضه، يُحسب في عداد الشهداء.. والمؤمن لا يَظلم، ولا يقبل الظلم ﴿لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾.
ثانياً: إزالة الفساد والفتنة.. إن الأرض لها مالك، والناس عبيد لله -عز وجل-.. فالأرض وما عليها لله -سبحانه وتعالى-، لذا فإنه عندما تأتي جماعة للإفساد في الأرض، يقول القرآن الكريم: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾.
ثالثاً: لحفظ مراكز التوحيد.. إن رب العالمين أباد جيش أبرهة؛ لأنه جاء لتحطيم معالم التوحيد.. يقول تعالى: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾.
رابعاً: الدفاع عن الأحكام الشرعية، والحدود الإلهية.. يقول تعالى: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾.
فإذن، إن الجهاد يكون دفاعاً: عن المظلومين، وعن الأحكام، وعن مراكز التوحيد، ولنفي الفتنة في الأرض؛ وكل هذه العناوين معان راجحة.
﴿وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ﴾.. إن صاحب الصيحة السماوية؛ هو رب العالمين.. وصاحب الطوفان الذي أغرق قوم نوح؛ هو رب العالمين.. والذي قلب عاليها سافلها على قوم لوط؛ هو رب العالمين.. فرب العالمين بإمكانه أن ينتقم من الكفار، ويهلكهم، ويعذّبهم.. في يوم عاشوراء ألم يكن باستطاعة رب العالمين، أن يرسل عليهم ريحاً صرصراً فتبيد جيش يزيد؟!.. لا فقط الذين كانوا في كربلاء، بل حتى الذين كانوا في الشام، يرسل عليهم طيراً أبابيل وانتهى الأمر!.. ولكن شاء الله -تعالى- أن يراه قتيلاً.
﴿وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ﴾.. أي لم ينتقم منهم، كي يمتحن الناس؛ فيظهر المطيع من العاصي!.. فرب العالمين يريد أن يرانا ونحن في مقام المجاهدة، ولكن باب الجهاد محصور في أزمنة، وتحت راية حق، وفي ظروف استثنائية.. فما العمل في هذه الحالة؟..
صحيح أن دائرة القتل والقتال دائرة ضيقة؛ ولكن جهاد النفس لا يحتاج إلى ظرف خاص، فقد قال النبي (ص) لأصحابه حين عادوا من الحرب: (انتهيتم من الجهاد الأصغر، وبقي الجهاد الأكبر).. رب العالمين من الممكن أن يجعلنا في ليلة من أوليائه، فنصل إلى مرحلة اليقين.. وهذا الذي سيحصل ﴿… فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾!.. كلنا بعد الموت عندما تقبض الأرواح، نصبح من أعرف العرفاء، كلنا نصبح من أولياء الله، وتكشف لنا الحجب.. ولهذا قيل: (موتوا قبل أن تموتوا، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا).
وعليه، فإنه لابد من المجاهدة والكدح، يقول تعالى: ﴿أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾.. الكدح مطلوب!.. فالشاب الذي يذهب إلى بلاد الغرب، يكدح كي يحافظ على إيمانه، لأنه أمر صعب، ولكن طريق التكامل مفتوح أمامه.. وقد ورد في حديث: (يأتي على الناس زمان، القابض على دينه كالقابض على الجمر).. بعض الشباب المؤمنين من أولياء الله الصالحين، عندما يتعرّض لفتنة النساء يحمد الله -عز وجل- على هذا الامتحان؛ لأنه أولاً: مطمئن من جهاده، فهو يرى الباطل باطلاً.. وثانياً: يتجاوز المحنة؛ فيكسب الدرجات العليا.. ولكن هذا الابتلاء ليس خيراً لكل أحد؛ إنما فقط لمن رشحه الله -عز وجل- ليكون في دائرة أوليائه.
﴿سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾.. هؤلاء مقاتلون شهداء، فكيف يهديهم؟.. قيل: سيهديهم إلى الدرجات العالية في مقعد صدق عند مليك مقتدر.. ﴿وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾: ما معنى يصلح بالهم؟.. وهل هناك من قلق في عالم البرزخ؟.. هنا البعض يشير إلى كلمة طيبة، ولكن الآية ليست واضحة في هذا المعنى، حيث يقول: ﴿وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾ بلحاظ أهل الدنيا من عوائلهم.. فالشهيد في عالم البرزخ حي مرزوق، هو لا يفكر في نفسه؛ إنما يفكر في عائلته.. فالأب الصالح سواء كان شهيداً اصطلاحياً، أو كان شهيداً بمعنى: إنسان مؤمن مجاهد لنفسه، وكذلك الأم؛ هؤلاء يلتفتون إلى عالم الأحياء.. وفي آية أخرى يقول: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾.. أما المعنى الذي جاء في تفسير الميزان: “قوله تعالى: ﴿سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾ الضمير للذين قتلوا في سبيل الله، فالآية وما يتلوها لبيان حالهم بعد الشهادة؛ أي سيهديهم الله إلى منازل السعادة والكرامة.. ويصلح حالهم بالمغفرة، والعفو عن سيئاتهم، فيصلحون لدخول الجنة”.
﴿وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾.. إن الإنسان يعرف الجنة عندما يدخلها، ولكن هل هناك تعريف للجنة قبل دخولها؟..
أولاً: في الدنيا.. إن البعض يرى الجنة في الحياة الدنيا، يقول علي -عليه السلام- في وصف المتقين: (فهم والجنّة كمن قد رآها، فهم فيها منعّمون.. وهم والنار كمن قد رآها، فهم فيها معذّبون).. فالإنسان المنشرح الصدر، وهو في دار الدنيا؛ كأنه في الجنة.
ثانياً: عند الاحتضار.. إن المؤمن يخاف من الموت، ومن منا لا يخاف من ساعة الوحشة؟.. ولكن رب العالمين لا يحب أن يقبض روح عبده رغم أنفه.. فالمؤمن كريم على الله -عز وجل-، لذا يرغبه ببعض متاع الآخرة: فيرى منزله في الجنة، أو يرى الحور العين، أو يشم رائحة طيبة.. ولهذا بعض العلماء والمراجع ساعة الاحتضار يتهلل فرحاً، والبعض منهم كان يسلم على الواردين عليه.. حيث أن هناك ذوات طيبة طاهرة تزوره؛ كي يطمئن لعالم ما بعد الموت.
فإذن، إن هذه الجنة هي للبعض معرّفة، فهو يذهب إليها وقد عاش شيئاً من هذا النعيم، وله شيء من المعرفة بها.
عن سدير الصيرفي قال: قلت لأبي عبد الله -عليه السلام-: جعلت فداك يا بن رسول الله!.. هل يكره المؤمن على قبض روحه؟.. قال: (لا، والله إنه إذا أتاه ملك الموت، ليقبض روحه، جزع عند ذلك، فيقول ملك الموت: يا ولي الله!.. لا تجزع، فوالذي بعث محمداً!.. لأني أبر بك وأشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر.. قال: ويمثل له رسول الله (ص) وأمير المؤمنين، وفاطمة، والحسن، والحسين، والأئمة من ذريتهم (ع)، فيقال له: هذا رسول الله، وأمير المؤمنين، وفاطمة، والحسن، والحسين، والأئمة (ع) رفقاؤك.. قال: فيفتح عينيه، فينظر، فينادي روحه مناد من قبل رب العزة فيقول: يا أيتها النفس المطمئنة!.. إلى محمد وأهل بيته، ارجعي إلى ربك: راضية بالولاية، مرضية بالثواب.. فادخلي في عبادي؛ يعني محمداً وأهل بيته.. وادخلي جنتي.. فما من شيء أحب إليه من استلال روحه، واللحوق بالمنادي).
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.