﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ﴾.. عندما يصل الحديث في سورة “الواقعة” إلى ذكر أصحاب الشمال، فأول صفة لهم أنهم بين ماء يغلي، وبين رياح حارة.. هم في النار، وفي ماء يغلي، ورياح السموم تهب عليهم.
﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ﴾.. إن أصحاب الشمال كانت لهم ثلاث صفات في الحياة الدنيا، وهي: الترف، ونقض العهد، وإنكار المعاد.. فالترف سبب للصفتين الثانية والثالثة: المعصية، والانحراف العقائدي.
أولاً: المعصية.. إن الترف أرضية خصبة للمعصية، والتمرد على المولى سبحانه، لما يحدثه المال في نفس صاحبه من الحرص، والشعور بالاستعلاء، والتفكير المادي البحت.. يقول تعالى: ﴿وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ﴾؛ أي يصرون على نقض العهود مع الله -سبحانه وتعالى-.. و﴿الْحِنثِ﴾ هنا: إما مفسر بالذنوب، وإما نقض العهد.
ثانياً: الانحراف العقائدي.. والترف كذلك أرضية خصبة للاعتقادات المنحرفة، يقول تعالى: ﴿وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ﴾، فالقرآن هنا ذكر إنكار القيامة، والقيامة أصل من أصول الدين، وقد ينكر الإنسان أصلاً أو أصلين أو جميع الأصول؛ وكل ذلك أرضيته الترف؛ لأن الإيمان بالمعاد يحدَّ من ترفهم، ويضع قيوداً لأعمالهم.
تعريف الترف:
الترف: هي أن يكون للإنسان مال كثير.. وهنا كلمة جميلة لصاحب تفسير الميزان، حيث يقول: “وإتراف النعمة الإنسان: إبطارها وإطغاؤها له، وذلك إشغالها نفسه بحيث يغفل عما وراءها.. فكون الإنسان مترفاً، تعلقه بما عنده من نعم الدنيا، وما يطلبه منها، سواء كانت كثيرة أو قليلة.. فلا يرد ما استشكل من أن كثيراً من أصحاب الشمال ليسوا من المترفين؛ بمعنى المتوسعين في التنعم.. وذلك أن الإنسان محفوف بنعم ربه، وليست النعمة هي المال فحسب!.. فاشتغاله بنعم ربه عن ربه، ترف منه، والمعنى: أنا إنما نعذبهم بما ذكر؛ لأنهم كانوا قبل ذلك في الدنيا بطرين طاغين بالنعم”.. أي قد يكون الإنسان فقيراً مترفاً، حيث أن الترف يجتمع مع المال القليل: فالنعيم، والمال، والمتاع الدنيوي، إذا شغل الإنسان عن الله -عز وجل-؛ فهو إنسان مترف، شغلته النعمة عن صاحب النعمة.. فما الفرق بين إنسان يشغله قصره عن الله -عز وجل-، وبين إنسان له كوخ قصبي في غابة، ويشغله عن الله عز وجل؟.. المترف إذا جاء وقت الصلاة يعدل من قصره، والفقر يعدل من قصبه: هذا شاغل، وهذا شاغل!.. ليست العبرة بالكثرة والقلة، إنما العبرة بالتعلق القلبي.. مثلاً: هناك مَنْ هو من متوسطي الحال، عندما يفقد ألف أو ألفي دينار، وإذا به يضحك ويبتسم، وكأنه لم يفقد شيئاً؛ هذا إنسان غني النفس.. وهناك من يكون من الأغنياء، يفقد خمسين ديناراً، فيرتفع صوته وأنينه؛ فهذا هو المترف.
﴿لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ﴾.. الزقوم طعام أهل النار، وفيه ثلاث خواص: طعمه كريه، ورائحته نتنة، ومنظره موحش.
﴿فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ﴾.. عندما يصل القرآن الكريم إلى كيفية شربهم لهذا الماء الذي يغلي يقول: بأنهم كالهيم، حيث أن هناك مرضاً يصيب الإبل، يعطش كثيراً فيشرب الماء، ولا يرتوي إلى أن يموت.. “والهيم: جمع هيماء؛ الإبل التي أصابها الهيام، وهو داء شبه الاستسقاء يصيب الإبل، فتشرب الماء حتى تموت، أو تسقم سقماً شديداً”.
﴿هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ﴾.. هؤلاء الذين فيهم الصفات الثلاث السابقة، هذا هو جزاءهم.. “والنزل: ما يقدم للضيف النازل من طعام وشراب؛ إكراما له”.
هنا ينتقل القرآن الكريم إلى آيات عقائدية، وإن كان ظاهر هذه الآيات أخلاقية:
﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾.. أي أن الإنسان يقضي وطره وشهوته في جوف الليل أو غيره، ولكن الله -عز وجل- هو الذي يكمل المراحل!.. ومن هنا جاء القول: بأن الله -عز وجل- أرأف بالإنسان من أبيه وأمه!.. لأن الخالق هو ذلك الذي حوّل النطفة إلى علقة ومضغة، ثم كسا العظام لحماً، ويا لها من كسوة!.. يقول تعالى: ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾.. فالهيكل العظمي منظره موحش؛ ولكن رب العالمين كساه هذا الثوب الجميل، فلو أن أجمل امرأة في العالم، نزعت منها هذا الثوب؛ لكانت أقبح موجود على وجه الأرض!..
﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾.. هذا التراب والطين يُتلف بدن الإنسان، فلو جُعل جسم الإنسان في التراب، وخاصة في الطين؛ فإنه يتسارع في الانحلال.. أما البذرة: فإن الأرض تحتضنها، وتغذيها، وتجعل البذرة الميتة حية، فتنبت الجذور والسيقان وترتفع.
﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ﴾.. هذه المياه التي يشربها الإنسان غير مياه البحار، إنما هي الأنهار والبحيرات المغلقة، وهذه المياه سببها الأمطار التي تنزل من السحب.. فالمزن: هي السحاب.
﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ﴾.. يقول صاحب تفسير الميزان: “قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونََ﴾ -إلى قوله- ﴿وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ﴾ قال في المجمع،: الإيراء إظهار النار بالقدح، يقال: أورى يوري، ويقال: قدح فأورى، إذا أظهر.. فإذا لم يور يقال: قدح فأكبى..”.
فإذن، إن المني الذي يُمنى، والزرع الذي يُزرع، والماء الذي يُشرب، والنار التي تُوقد؛ الإنسان هو السبب الظاهري لها، ولكن الله -سبحانه وتعالى- هو صاحب إكمال عالم السببية.. فمعنى ذلك: أنت أيها العبد عليك ببسائط الأمور، ونحن الذين نكمل المهمة!.. أي أنت لست بشيء: أنت أجنبت ليلاً، وزرعت زرعاً، وأوقدت ناراً؛ ولكنْ نحن الفاعلون في هذه الحياة الدنيا!..
الدرس العملي:
أولاً: عدم التعلق بعالم الأسباب.. إن المؤمن لا يركن إلى ماله، ولا إلى صحته،..الخ.. فإن مسبب الأسباب في ليلة واحدة، يقلب كيان الإنسان رأساً على عقب.. مثلاً: أكبر فيلسوف على وجه الأرض، إذا أُصيب بجلطة دماغية؛ فإنه يتحوّل إلى مجنون، يتكلم بما لا يعقل.. نعم، هكذا أمر بني آدم!..
ثانياً: عدم اليأس.. لو كان الإنسان في صحراء قاحلة، وفي وسط النهار، حيث الشمس الحارقة، وليس هناك ماء؛ عليه أن لا ييأس، يقول تعالى: ﴿أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ﴾؛ ما المانع أن يبعث رب العالمين له سحابة تمطر عليه مطراً، فيرتوي هو ومن معه؟!.. لا يأس والأسباب بيده -سبحانه وتعالى-، ألا نقرأ في الدعاء: (اللهم!.. يا سبب من لا سبب له، يا سبب كل ذي سبب!.. يا مسبب الأسباب من غير سبب!.. سبّب لي سبباً لن أستطيع له طلباً.. صلّ على محمد وآل محمد!.. وأغنني بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمّن سواك!.. يا حي يا قيوم)!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.