﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ..﴾.. رأى النبي (ص) في السنة السادسة للهجرة رؤيا مبشرة، وهي أنه دخل مكة فاتحاً؛ فنقل ذلك إلى المسلمين.. وعندما ذهبوا إلى مكة، ولم يدخلوها في تلك السنة التي تم فيها عقد صلح الحديبية؛ دخل الشك في نفوس البعض.. ولكن الله -عز وجل- صدق وعده لاحقاً، وجعل هذا المنام محققاً!..
الدرس العملي:
أولاً: ليس كل منام يعتدّ به، فالمنامات متنوعة: منها ما هو أضغاث أحلام، ومنها ما لا معنى له، ومنها ما هو انعكاس اللاشعور؛ أي العقل الباطني.. فالإنسان الذي عنده عداوة مع أحدهم، من المؤكد أنه سيراه في المنام على شكل حيوان كاسر -مثلاً-.. هذا المنام لا قيمة له؛ لأنه منام شيطاني، يريد أن يُعمّق العداوة بينهما.. ولطالما تفككت أسر بسبب منامات: كأن يرى الزوج في المنام، أن زوجته تخونه -مثلاً- ويا لها من كارثة: إنسان يبني عشه الزوجي أو يهدمه على منام!.. وكذلك العكس: هناك من يرى إنساناً فاسقاً منحرفاً في منامه، وكأنه ملك يطير في السماء بجناحين، أو كأنه قطعة من النور؛ وإذا به يتبعه!..
فإذن، إن المنامات الصادق منها قليل، ولهذا عندما يذكر القرآن المنامات الصادقة؛ فإنها يذكرها في مقدمات، وفي سورة من القرآن: كمنام يوسف -عليه السلام- عندما رأى أحد عشر كوكباً، ومنام النبي (ص) عندما رأى أنه يدخل المسجد الحرام.. ولكن الأصل في المنام -بالنسبة لغير المعصومين- عدم الحجية، ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾.. لذا، فإن المؤمن لا يمشي خلف الظنون: كالأبراج، والطالع، وفتح الكتاب، والفال؛ هذه الخزعبلات التي يصدقها بعض العقلاء مع الأسف!.. والذي يعتقد بهذه الأمور، يُشكّ في عقله؛ لأنه لو كان عاقلاً؛ لما اتبع الظن.. فالمؤمن لا يمشي إلا خلف اليقين.
ثانياً: النبي (ص) رأى في المنام أنه دخل المسجد الحرام، قال تعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ﴾.. رب العالمين هو صاحب الوعد، ولكن بما أن القضية مستقبلية؛ فقد علّقها بالمشيئة.. وعليه، فإن المؤمن دائماً وأبداً يُعلّق أموره المستقبلية على المشيئة ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ﴾.. والمؤمن عندما يقول: إن شاء؛ يقولها بكل معنى الكلمة، لا مجاملة!.. فرب العالمين بيده مقاليد الأمور، وحياة أحدنا بمثابة الكهرباء فيها صور من النشاط، ولكن إذا أطفئ الزر الرئيسي؛ فإن كل شيء يتحوّل إلى سكون.. ونحن كذلك فحياتنا بمثابة أزرار: يفتح زراً، ويغلق زراً، وساعة الممات يغلق الأزرار جميعها.. فإيانا أن نعتمد على ما نحن فيه!..
﴿..آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ..﴾.. إن رب العالمين لم يقل: ستدخلون المسجد الحرام فاتحين!.. فالنبي (ص) ذهب مع أصحابه إلى مكة ليعتمر، ولكنه عاد بصلح الحديبية.. وبالتالي، فإن العبادة كلها في جانب، والأمان في جانب.. ولهذا ورد في روايات أهل البيت، عن رسول الله (ص): (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا).. عندما يكون الجسم سالماً، والقوت مؤمّناً، والطريق سالكاً؛ ما الذي يريده الإنسان غير هذا من رب العالمين؟.. ولكن بني آدم لا يشكر النعمة!.. وعليه، فإن الإنسان المؤمن، يطلب من الله -عز وجل- الأمن والأمان والعافية.
﴿..فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا..﴾.. الإنسان دائماً في عجلة من أمره!.. فرب العالمين أرى نبيه الفتح، وأنه سيدخل المسجد الحرام آمناً.. ولكنه لم يُعلمه متى سيكون ذلك، ولا كيف سيتم الأمر!.. لذا، فإنه في السنة السادسة، عندما صد المشركون المسلمين عن مكة، وعقدوا الصلح، طالبوا رسول الله (ص)، بالوعد وعاتبوه.. ومن هنا يقول القرآن الكريم: ﴿فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا﴾.. وعليه، فإن المؤمن يسأل الله -عز وجل- حاجته، ويوكل الأمر إليه، فهو الذي يعلم متى يعطيه الحاجة.. مثلاً: رب العالمين قدر مبلغاً وفيراً لأحدهم، وأمضاه، ولكنه حبسه عنه في هذه السنة؛ لأن إيمانه غير مكتمل.. وإن أُعطي هذا المال، فإنه سيذهب إلى بلاد الفسق والفجور، ويرجع بخزي الدنيا والآخرة.. لذا، فإنه يؤخره إلى أن يصير ناضجاً وعاقلاً واعياً؛ عندئذ رب العالمين ينزل عليه الرزق المحبوس!.. أو -مثلاً- هناك شاب يريد فتاة مؤمنة، فلا ييسر له الأمر؛ لأنه حاد المزاج.. ولكن بعد سنة أو سنتين، عندما يهدأ، ويصبح على مستوى المسؤولية؛ يوفقه لذلك، ويتم له ما يريد!..
﴿..فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا..﴾.. رب العالمين وعدهم بفتح مكة، ولكنه أعطاهم صلح الحديبية؛ فسماه فتحاً قريباً؛ لأن هذا الصلح، كان مقدمةً لذلك الفتح المبين.
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾.. أي أن الله -عز وجل- هو الذي أرسل محمداً بالإسلام الذي هو دين الحق، لينصره على كل الأديان.
﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ..﴾.. في ختام سورة “الفتح” رب العالمين يذكر نبيه المصطفى (ص) بوصف العزة.. يقول بعض المفسرين: أنه في الصلح، “دعا النبي (ص) علياً بن أبي طالب وقال له: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم).. فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم.. فقال الرسول (ص): (اكتب: باسمك اللهم).. فكتبها، ثم قال: (اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو).. فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.. فقال (ص): (اكتب: هذا ما صالح عليه محمدُ بن عبدالله، سهيلَ بن عمرو).. فرفض علي أن يمحو كلمة رسول الله بعد ما كتبها، فمحاها الرسول (ص) بنفسه”.. ولكن الله -عز وجل- في كتابه الخالد ذكره بوصف الرسالة فقال: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ﴾.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.