إن سورة “الفتح” تتحدث عما جرى على النبي (ص) وأصحابه في صلح الحديبية، هذا الصلح الذي يعبر عنه القرآن الكريم، بأنه: فتح.. هو ظاهره صلح، ولكن واقعه فتح؛ لأنه كان مقدمة لفتح مكة.
الدرس العملي:
إن رب العالمين عندما يريد أن يجري مشيئته، فإن ذلك الأمر يتم: تارة مباشرة، وتارة بشكل غير مباشر.. فهنا من بطن الصلح يخرج الفتح، والحال أن الصلح والفتح متقابلان: أي الصلح ضد الفتح!.. ولكن هكذا رب العالمين، يعلم كيف يتصرف في الأمور ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾.. فإذن، علينا أن نطلب من الله -عز وجل- النصر والمدد في حياتنا العامة والخاصة، وهو يعلم كيف يتصرف!..
﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾.. الظفر هو: صلح الحديبية؛ لأن هذا الصلح كان من موجبات إقبال الناس على الدين.. حيث أن المسلمين أخذوا هدنة مع المشركين لمدة عشر سنوات، وفي هاتين السنتين: بين صلح الحديبية، وبين فتح مكة؛ أخذ الإسلام مداه وقوته.. وفي هذه الآيات هناك درسٌ عظيمٌ لحرمة دماء المسلمين: لقد كان في مكة مجموعة متخفية من المسلمين، وهذا من أسباب عدم الفتح في تلك السنة، حفاظاً على دماء هؤلاء القلة من المؤمنين.. فمعنى الآيات: أن رب العالمين أخّر الفتح، ولم يجعلهم يقاتلون المشركين -ولعلهم لو قاتلوا لانتصروا عليهم، فهم الذين هزموهم في بدر، والمسلمون في ذلك الوقت قويت شوكتهم أكثر-!.. لأنه رأى في عالم التقدير: أن المسلمين لو فتحوا مكة، ومكة فيها قوم مسلمون غير معروفين، قد يُقتلون خطأ.. فهذه الدماء التي ستسفك، هي عند الله -عز وجل- عظيمة!.. ونعلم هذا المعنى من الآية اللاحقة:
﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء..﴾.. الجيش عندما يدخل لا يميز بين المسلم وغيره، حتى لو ادّعوا الإسلام، من الممكن أن لا يصدقهم المسلمون!.. ﴿لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾؛ أي يدخل عليكم الضرر، عندما تقتلون مسلماً، وإن كنتم لا تعلمون؛ فهذه الدماء عند الله -تعالى- كبيرة، ثم يقول:
﴿..لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.. رب العالمين يحمي أهل مكة، ويدفع عنهم البلاء، ببركة وجود هؤلاء المسلمين المجهولين.. ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا﴾؛ أي لو زال المسلمون عن مكة تلك الأيام؛ ﴿لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.. قوم لوط كانوا في قرية نائية، يمارسون العمل الشنيع بشكل محدود، فرب العالمين قلب عاليها سافلها.. أما هذه العواصم الأوربية وغيرها، ممن يقوم بنفس العمل، بل وبطريقة أوسع، ومع ذلك سالمة لا يصيبها العذاب.. والله العالم!.. أن البلاء المدفوع الآن عن بلاد الكفر، هو ببركة وجود المؤمنين فيما بينهم، كما دفع الله -عز وجل- البلاء عن أهل مكة، ببركة هؤلاء المسلمين والمسلمات.
﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾.. يذكر القرآن الكريم الجاهلية في عدة آيات، منها: ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾، ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾،﴿وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾، ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾.. والحمية هي: الغضب.. فمن الممكن أن يكون الإنسان في القرن الحالي، وهو جاهلي: له حمية، وله عصبية العشيرة؛ أي الانتماء إلى ما لا يوجب شرفاً.. ولكن رب العالمين بريء من هذه الحمية، هم جعلوا في قلوبهم هذه الحمية.. في المقابل هناك سكينة في قلوب المؤمنين ﴿فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾.. والفرق بينهما:
أولاً: الحمية: تخرج الإنسان من طوره.. أما السكينة: فإنها تجعل الإنسان وقوراً.
ثانياً: الحمية: تسلب الإنسان الاختيار.. أما السكينة: فإنها تعطيه الاختيار.
الدرس العملي:
أولاً: إن الله -عز وجل- غيور على دينه، وغيور على عباده المؤمنين: يعز عباده، ويعز دينه؛ ولكن بشرط أن يجد من ينصره.. في صلح الحديبية هناك حركة، وهي بيعة الرضوان، حيث أن المسلمين بايعوا رسول الله () على أن لا يفروا من القتال أمام المشركين؛ فأنزل رب العالمين عليهم النصر.. يقول تعالى في سورة “الفتح” ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا﴾.. رب العالمين ليست له علاقة خاصة بالمسلمين في صدر الإسلام؛ هذه معادلته: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.. ولكن كيف ننصر الله -عز جل-؟..
ثانياً: إن نصرة الله لها معانٍ:
١. في الحياة الزوجية: أن يلتزم الإنسان بالقواعد الشرعية، وهي: المعاشرة بالمعروف.
٢. في الحياة الأسرية: أن يصل الأرحام بالمعروف.
٣. بالنسبة إلى الوالدين: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾.
٤. في المجتمع الكبير: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
٥. أمام الكافرين والمشركين: صد هجومهم، والوقوف أمامهم.
إن الذي ينصر الله -عز وجل- في هذه الدوائر؛ ينزل عليه رب العالمين النصر.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.