﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾.. أي أن الذي منعنا من الخروج معك، هو أنه ليس هناك من يخلفنا في أموالنا وأهلنا.. ولكن ليس هذا السبب الحقيقي الذي شغلهم عن القتال.
﴿بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا.. ﴾.. هذه القبائل التي كانت حول المدينة، عندما ذهب النبي (ص) إلى مكة في سفرة الحديبية، كانوا يقولون: “إن محمداً (ص) ومن معه يذهبون إلى قوم غزوهم بالأمس في عقر دارهم، فقتلوهم قتلاً ذريعاً، وإنهم لن يرجعوا من هذه السفرة، ولن ينقلبوا إلى ديارهم وأهليهم أبداً”!.. فإذن، الذي منعهم من القتال، هو خوفهم من مصاحبة النبي (ص)، وإلا قولهم: ﴿شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا﴾، فهذه ذريعة، والمسألة الحقيقية هي هذا الخوف.
﴿..وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ..﴾.. هذه الحالة الشيطانية من التزيين، كلنا واقعون فيها ماعدا المعصوم.. فالشيطان له تصرف في القلوب: يحبب الإنسان في الدنيا، ويحبب إليه الشهوات.. وله تصرف في العقول والأفكار!.. ولهذا المؤمن إذا جاءته خاطرة، أو فكرة، قبل أن يسترسل معها، وقبل أن يعمل بمؤداها؛ عليه أن يفكر جيداً: هل هذه الخاطرة رحمانية أم شيطانية؟.. قد يقول قائل: وكيف أميز بين الخاطرة الرحمانية، والخاطرة الشيطانية؟..
إن الشريعة وضعت ميزاناً، وهو: أن كل تفكير سوداوي، وكل سوء ظن، يتعلق بالمؤمنين؛ هذا الأصل فيه الشيطان.. لذا ورد في الروايات: (احمل فعل أخيك على أحسنه) أو (احمل أخاك على سبعين محملاً من الخير)!.. فهذه العداوات، والبغضاء، والحسد، والفحش، والضرب، والقتل؛ هذا كله بسبب وجود موقف سلبي من الآخرين، وهذا الموقف أتى من التصورات؛ وهذه هي أم المشاكل!.. القرآن يقول: ﴿وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ﴾!.. وإلا هذه الأعراب، أو الذين كانوا حول المدينة من قبائل جهينة، ومزينة، وغفار، وأشجع، وأسلم؛ هؤلاء لو لم يسوّل لهم الشيطان هذا المعنى، لخرجوا مع رسول الله (ص) وكانت النتيجة: أن بايعوا رسول الله (ص) تحت تلك الشجرة، وكانوا من الذين رضي الله -عز وجل- عنهم ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾.. وعندما رجع المؤمنون من سفرهم هذا سالمين، بعد فترة قصيرة رب العالمين أكرمهم بفتح خيبر!.. حيث يقول تعالى في آية لاحقة:
﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا﴾؛ أي مغانم اليهود في فتح خيبر.
﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ..﴾.. رضا الله -عز وجل- متعلق برب العالمين، أي هو الراضي!.. ولكن نحن الذين نقوم بما يوجب هذا الرضا، فلولا مبايعة المؤمنين للنبي (ص) تحت الشجرة، لما رضي الله عنهم.. وهنيئاً لمن رضي عنه من له جنود السموات والأرض!.. لذا، المؤمن دائماً له هاجس: هل أن رب العالمين راض عنه؟.. ويا لها من كارثة!.. أحدنا عندما يشك في رضا صاحب العمل، يضطرب ويخاف، ويبحث عن السبب!.. وفي الحياة الزوجية: الزوجان المتحابان بين وقت وآخر، الزوجة تسأل الزوج: هل أنت راضٍ عني؟.. والزوج يقول لزوجته: هل أنت راضية عني؟.. نعم، المحب لا يهدأ إلا عندما يرى ويسمع رضا من يحب عنه.. ونحن في حياتنا هذه، لم نطمئن إلى رضا الله -عز وجل-!..
﴿..فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ..﴾.. إن هؤلاء بايعوا النبي (ص) تحت الشجرة، ومبايعة الرضوان مبايعة مهمة؛ لأنها مرحلة بدء الانتصارات.. ولكن هل هذه المبايعة الظاهرية تكفي؟.. يقول تعالى: ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾؛ أي يجب أن يكون الإنسان صادقاً، ومخلصاً فيما يقوم به.. فلا يغرنّه حجم العمل، ولكن المهم أن يطلع رب العالمين على قلبه؛ فيراه صادقاً فيما هو فيه.
﴿..فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾.. السكينة لا تنزل على الأبدان، ولا على الأيدي المبايعة؛ إنما تنزل على القلوب المخلصة.. تقول الآية الكريمة: ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾؛ أي أن رب العالمين جزاء ذلك؛ أنزل عليهم السكينة.. والسكينة تارة تنزل على القلوب مباشرة، كما في قوله تعالى: ﴿فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ﴾.. وتارة تكون السكينة أمراً مادياً، كما في قوله تعالى: ﴿يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾؛ والتابوت: هو الصندوق الذي وضع فيه موسى -عليه السلام-، ووُضع فيه بعد ذلك مواريث الأنبياء.. فإذن، إن رب العالمين جعل السكينة في هذا الصندوق.
الدرس العملي:
أولاً: لمَ نستنكر هذه الكرامات في قبور الأنبياء والمرسلين، وأئمة أهل البيت (ع)؟.. فهل الضريح الذي يضم جسد أشرف خلق الله -عز وجل-، يُستبعد أن تكون فيه السكينة؟!.. وهل حائر الحسين -عليه السلام- المضمخ بدماء الشهداء، يُستبعد أن تكون فيه السكينة؟!.. والذين لا يقبلون هذه المعاني، ماذا يقولون في تابوت موسى -عليه السلام-؟.. وماذا يقولون في قميص يوسف -عليه السلام-؟.. قميص لامس بدن يوسف الصدّيق -عليه السلام- ألقوه على وجه يعقوب -عليه السلام-، فارتد بصيراً؟!..
ثانياً: إن الزائر يشعر بالأمن والأمان، والإقبال، والخشوع في روضة النبي (ص)، وفي مقامات المعصومين جميعاً (ع).. فرب العالمين ينزل سكينته على قلوب الزائرين؛ لأنهم وقروا هذه الأماكن المباركة، عملاً بقوله تعالى: ﴿قُل لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾.. يقول تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾.. الصفا والمروة عبارة عن جبلين أصمين، ليس فيهما نبي، ولا وصي؛ فما قيمتهما؟!.. ولكن الله -عز وجل- يقول ﴿مِن شَعَائِرِ اللَّهٌِ﴾!.. فكيف إذا كان المكان يحوي على أجساد أوليائه وأنبيائه وأصفيائه؟!.. ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.