﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾.. وهي من الآيات المهمة في هذه السورة، ومطمئنة للمؤمنين في كل العصور!.. فهذه الأيام الناس يستمتعون، ويتنعمون، ويأكلون، ويشربون، ويسافرون؛ كل ذلك لأجل إدخال السكينة والاطمئنان في القلب.. ولكن منطق القرآن الكريم هو: أن هذه السكينة لا تأتي من خلال: النساء، أو الشراب، أو الطعام!.. يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وفي آية أخرى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.. والاطمئنان هو مقابل الاضطراب، والسكينة مقابل حالة عدم الثبات.. فقلب غير المؤمن في تقلب واضطراب دائم، وقد ثبت من خلال الدراسة العلمية الدقيقة، أن مصدر القلق أمران:
أولاً: الخوف من المستقبل.
ثانياً: الحزن على الماضي.
وذلك أن الإنسان دائماً ينتقل من حال إلى حال: فالحاضر يصبح ماضياً، والمستقبل يصبح حاضراً وهكذا!.. ولو تم عمل إحصائية، فلعله ليس هناك على وجه الأرض إنسان -غير المعصوم- يرضى عن ماضيه.. فحياة أحدنا هي مجموعة من تجارب الفشل والخطأ، وعلى فرض أن الإنسان أمضى حياته الماضية بخير، فكيف يضمن المستقبل، وخاصة في هذا الزمان، الذي هو عصر المفاجآت والتقلبات؟.. حيث أنه قبل عشرات السنين، كانت الأحداث تجري بشكل هادئ ورتيب، ولكن في زماننا هذا التقلبات شديدة، وليس هنالك إنسان يستطيع أن يتكهن اليوم: ما هي صورة الكرة الأرضية بعد سنة؛ وهذا يوجب الخوف!..
بالنسبة إلى الماضي: إن الحل يكمن في تدخل الغيب في هذا المجال: إذ لابد أن ينسيه الماضي، ولهذا الآيات كثيراً ما تكرر: ﴿وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾؛ أي يجب عدم القلق على الماضي، فإن وقع الإنسان في اشتباه: فالذي لا كفارة له؛ يستغفر منه!.. وما له كفارة، يُكفّر عنه!.. مثلاً: هناك إنسان لم يصم شهر رمضان؛ هذا له حل:
أولاً: عليه أن يستغفر؛ لأنه عصى رب العالمين.. ولكن -مع الأسف- البعض عندما يكفّر، ويقضي ما عليه، ينسى الاستغفار.
ثانياً: يقضي ما عليه.
ثالثاً: يدفع الكفارة!..
فإذن، إن رب العالمين يغفر ما يتعلق به، وما يتعلق بالناس أيضاً وضع له حلاً، وهو: رد المظالم، ومجهول المالك، وغيره.
بالنسبة إلى المستقبل: إن الحوادث لم تأت بعد، وهنا الأمر أسهل!.. ما على المؤمن إلا أن يسأل الله -عز وجل- أن يقيه مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.. كما نقرأ في الدعاء: “يا خفي الألطاف!.. نجنا مما نحذر ونخاف”.
﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾.. هذه الآية آية مطمئنة جداً!.. فكل ما عدا بني آدم، في قبضة الله -عز وجل- يحركه كيفما يشاء.. أما بني آدم، فإنه مخير: يتحرك من مكان إلى مكان باختياره، فعن الإمام الصادق -عليه السلام- أنه قال: (لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين).. فالسحاب يتكوّن بأمره، ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا﴾، وهو الذي يرسل الرياح لواقح ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾، وكذلك البراكين، والزلازل، حتى الجراثيم كلها بيد الله -عز وجل- يسلطها على من يشاء، ويصرفها عمن يشاء.. وهذا المرض الخبيث، هو عبارة عن خلايا تنمو بشكل غير متوازن، لذا المؤمن يسأل الله -عز وجل- العافية!.. قائلاً: (ولي العافية!.. نسألك العافية؛ عافية الدين والدنيا والآخرة).
﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾.. إن الذين خرجوا مع النبي (ص) في صلح الحديبية، ذهبوا إلى مكة، ودماء بدر وأحد لم تجف بعد؛ ولكنهم استسلموا لأمر الله -عز وجل-.. فهؤلاء كانوا مؤمنين؛ ولكن رب العالمين زادهم إيماناً، وفتح لهم مكة بعد سنتين.. ولكن ما معنى زيادة الإيمان؟.. وهل الإيمان يقبل الزيادة؟..
الجواب: إن العلم يختلف عن الإيمان: فالعلم لا يوجب الإيمان، أو يلازمه.. مثلاً: الكافر قد يكون عالماً؛ ولكنه غير مؤمن، والآيات التي تشير إلى هذه الحقيقة كثيرة، منها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾.. هؤلاء عرفوا الهدى، ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾، وصلوا إلى مرحلة اليقين؛ ولكنه يقين علمي!.. أما نفوسهم فغير مطمئنة؛ نفوس جاحدة.
ما الفارق بين الإيمان وبين العلم؟..
إن العلم مجموعة نظريات وأفكار في مرحلة التصور والتصديق، ولكن الإيمان هو ذلك العلم الذي يكون مع عنصرين:
أولاً: الاطمئنان القلبي.. أي الارتياح القلبي لهذه الفكرة، مثلاً: البعض من الشباب يؤمن بالتوحيد، ولكن -أحياناً- يدخل الشيطان على الخط، ويشككهم في المبدأ والميعاد.. فأين هؤلاء من الذي يناجي ربه قائلاً: (إلهي!.. ماذا وجد من فقدك؟.. وماذا فقد من وجدك)؟.. نحن نعتقد بقانون العلية، فالعلية تدلنا على الله -عز وجل- ولكن سيد الشهداء -عليه السلام- يناجي ربه يوم عرفة قائلاً: (ألغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟.. متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك)؟..
ثانياً: العمل.. إن العلم الذي لا عمل معه؛ هذا ليس بإيمان.. حيث أنه لا يمكن أن ينفك الإيمان عن العمل: فالذي يرى النار ويقترب منها، وتحترق يده فيها؛ من الطبيعي أن يبتعد عنها، ويهرب منها.. والذي يرى المعاصي وحريقيتها، كما يرى النار وإحراقها؛ هذا لا يحتاج إلى كثير وعظ، إنما يهرب من المعصية كهروبه من النار؛ لأن عاقبة المعاصي هي النار.. سئل الإمام الصادق -عليه السلام-: إنّ الإيمان ليتمّ وينقص ويزيد؟.. قال: نعم، سئل: كيف ذلك؟.. قال: (لأنّ الله -تبارك وتعالى- فرض الإيمان على جوارح ابن آدم، وقسّمه عليها وفرّقه فيها، فليس من جوارحه جارحة إلاّ وقد وُكلت من الإيمان، بغير ما وُكلت به أُختها: فمنها قلبه الذي به يعقل ويفقه ويفهم، وهو أمير بدنه الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلاّ عن رأيه وأمره.. ومنها عيناه اللّتان يبصر بهما، وأذناه اللّتان يسمع بهما، ويداه اللّتان يبطش بهما، ورجلاه اللّتان يمشي بهما، وفرجه الذي الباه من قِبَله، ولسانه الذي ينطق به، ورأسه الذي فيه وجهه.. فليس من هذه جارحةٌ إلاّ وقد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به أُختها بفرض من الله تبارك وتعالى اسمه، ينطق به الكتاب لها، ويشهد به عليها).. كل جارحة لها وظيفة، والمؤمن هو الذي يستخدم كل جارحة فيما أمره الله -عز وجل-.. (فمن لقى الله -عز وجل- حافظاً لجوارحه، موفياً كل جارحة من جوارحه ما فرض الله -عز وجل- عليه؛ لقي الله مستكملاً لإيمانه، وهو من أهل الجنة.. ومن خان في شيء منها، أو تعدى ما أمر الله -عز وجل- فيها؛ لقي الله ناقص الإيمان).
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.