﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا﴾.. إن الآيات الأولى من هذه السورة، آيات محيرة، والأقوال فيها متضاربة.. ولعل أغلب المسلمين، إلا ما ندر، لا يعلم معنى هذه الآية!..
ما معنى غفران ذنب النبي (ص)؟..
إن الذي عليه الإمامية: أن النبي (ص) لا يمكن أن يكون مذنباً؛ فإذن كيف نفسر ذنب النبي (ص)؟..
إن هناك عدة تفسيرات، منها:
1. ترك الأَولى: أي هناك معصية، وهناك مخالفة لأمر؛ ولكنه ليس أمراً مولوياً.
2. بلحاظ الأمة: أي غفران ذنوب الأمة، باعتبار أن النبي (ص) يمثل الأمة.
3. الذنب الذي في بال الناس: إن التفسيرين السابقين يحلان مسألة غفران الذنب، ولكن ما علاقة المغفرة بالفتح؟.. ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾؛ هنا وقع المُفسّرون في اضطراب كثير!.. وقد فُسّر الفتح بفتح مكة تارة، وبصلح الحديبية تارة أخرى.. فالمعاني والتفاسير مختلفة، والمعنى الذي يجعل هذه الآية مرتبطاً بالفتح، ويمكن بيانه بشكل بسيط، -وإن كانت الفكرة معقدة إجمالاً- هو: أن المشركين كانوا يرون أن النبي (ص) له ذنب!.. وذنب النبي (ص) هو: قيامه عليهم، وتمرده على آلهتهم، وهجرته إلى المدينة، وتجيش الجيوش عليهم.. فالمشركون كانوا يرون أن النبي (ص) له ذنب، وله تبعات.. وإذا بهذا الأمّيّ اليتيم -الذي لم يكن له ناصر إلا أمير المؤمنين وهو صبي، وامرأة كخديجة-؛ يرتفع صيته في الآفاق.. فإذن، هذا كان يُعدّ ذنباً في نظر المشركين، لعتوهم واستكبارهم، وكأنهم هم أصحاب الحق الطبيعي.. أما بعد فتح مكة، أو بعد صلح الحديبية، كأن رب العالمين غفر هذا الذنب، فهذه التبعات محاها بإذهاب شوكتهم.. حيث أنه بعد فتح مكة، انتهى تاريخ الوثنية في جزيرة العرب.. فيكون المعنى: أن هذه المؤاخذات التي كانت عليك يا رسول الله، انتفت بذهاب الوثنية برأسها.
ما هو هذا الفتح المبين؟..
إذا كان المراد به فتح مكة، فالأمر واضح!.. حيث أن النبي (ص) دخل مكة فاتحاً في السنة الثامنة من الهجرة.. وأما إذا فسرنا الفتح: بصلح الحديبية، وهذا الذي عليه الكثيرون من المفسرين، فهو أيضاً فتح، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: ذهب النبي (ص) بألف ومائتي رجل، أو ألف وأربعمائة رجل، ليحج بيت الله الحرام.. انظروا إلى جرأة المسلمين، لا زال الدم يسيل فيما بينهم، وإذا بالنبي (ص) يأخذ قومه لحج بيت الله الحرام!.. وهنا وقع الصلح: على أن لا يقاتلوا عشر سنوات، وعلى أن يدخل النبي (ص) مكة في السنوات القادمة لمدة ثلاثة أيام.. وهذا تحوّلٌ في تاريخ المسلمين، وبتعبير اليوم: صار هناك اعتراف رسمي بالمسلمين.. فالمسلمون كانوا -في نظر المشركين- متمردين، أما الآن أصبحوا طرفاً في المفاوضات؛ ولهذا سمي بالفتح المبين.
ثانياً: رأى المشركون في صلح الحديبية عظمة النبي (ص)!.. فهؤلاء كان لهم أمل في فصل القيادة عن المسلمين؛ ولكن عندما كانوا يراقبون تصرفات المسلمين، رأوا أمراً عجيباً: رأوا النبي (ص) يتوضأ، والمسلمون يتسابقون لأخذ الماء المتناثر منه!.. فقالوا: إذا كان هذا حب أصحابه له، فأنى لنا بمقارعته؟.. وأنى لنا بفصل القيادة عن الأمة؟!.. فكان هذا سبباً لفتح مكة فيما بعد.
ثالثاً: إن صلح الحديبية، كان مقدمةً لفتح مكة!.. حيث أن صلح الحديبية كان في السنة السادسة، ولم يكن مع النبي سوى ألف ومائتي أو أربعمائة مقاتل، بينما في السنة الثامنة دخل النبي (ص) مكة، باثني عشر ألف مقاتل.. هكذا امتد النصر الإلهي للمسلمين!..
الدرس العملي:
إن النبي (ص) ذهب حاجاً، والمسلمون كانوا محرمين؛ ولكن عندما حال المشركون بينهم وبين هدفهم؛ تحلل النبي (ص) من إحرامه، وذبح أضحياته ورجع إلى المدينة؛ أي عمل بتكليفه.. خرج حاجاً كخروج ولده الحسين -عليه السلام- في السنة التي استشهد فيها، حيث ذهب إلى بيت الله الحرام ليحج، ولكن حيل بينه وبين الحج.. فإذن، إن الإنسان عليه أن يسعى، يقول تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾.. أي يجب أن يكون في هيئة العبودية؛ عندئذ رب العالمين يهيئ له الأسباب، ويفتح له الأبواب؛ فهو صاحب الأسباب!..
﴿وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾.. إن البعض يقول: بأن إتمام النعمة، إشارة إلى السنة العاشرة.. نعم، فتح مكة كان فتحاً مبيناً، ولكن النعمة تمت في حجة الوداع ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾.. ففتح مكة، وصلح الحديبية، ومعركتي بدر وأُحد؛ كلها في كفة، ومسألة الولاية التي تمت في يوم الغدير في كفة أخرى!..
﴿وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾.. انظروا إلى كثرة الضمائر التي تعود إلى الله -عز وجل-: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا﴾، ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ﴾، ﴿وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ﴾، ﴿وَيَهْدِيَكَ﴾، ﴿وَيَنصُرَكَ اللَّهُ﴾.. أي الأمور بيده: فهو الناصر، وهو المعين.. من الممكن أن يعتمد الإنسان على قوة الغير: على قوى الباطل، وعلى طواغيت العصور؛ فينتصر.. ولكن هذا النصر ليس بنصر عزيز!.. حيث أن هناك فرقاً بين النصر المرحلي والمقطعي، وبين النصر الذي يكون من الله -عز وجل- ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ﴾.. فإذن، من أراد أن ينصره الله في نفسه، وفي أسرته، وفي مجتمعه، وفي قتاله مع الأعداء؛ عليه أن ينظر إلى ذلك المدد الذي كل ما في الوجود بين يدي قدرته!.. فهذه الأيام تفتخر القوى الكبرى بطاقاتها الذرية، الذي هو خلقٌ من خلقِ الله -عز وجل-!.. فمن الذي جعل خاصية الانشطار النووي في هذه الكتلة البسيطة؟.. أليس من له ﴿..ِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.