﴿فَيَوْمَئِذٍ لّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ﴾.. هذه الآية فيها مضمون ملفت وغريب!.. إن كان لا أحد يُسأل عن ذنبه يوم القيامة؛ فأين الحساب؟.. وفي آية أخرى يقول: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾.. بعض المنحرفين هذه الأيام في المواقع والفضائيات من الكفار يروّجون لهذا المعنى: أن القرآن فيه اختلاف!.. لذا لابد أن نلّم بهذه الأمور.. والجواب على هذا التساؤل بكل بساطة هو:
أن يوم القيامة فيه مواقف مختلفة، وقد ورد في بعض الروايات، أن هناك خمسين موقفاً في القيامة.. قال الصادق -عليه السلام-: «ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، فإنّ في القيامة خمسين موقفاً، كلّ موقف مثل ألف سنة ممّا تعدون» ثمّ تلا هذه الآية: ﴿في يوم كانَ مِقدارهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة﴾.. ولكل موقف خصوصية، ومن مواقف القيامة: المساءلة؛ ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾.. والختم على الأفواه؛ ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ﴾؛ في هذا الموقف الأعضاء هي التي تشهد على صاحبها، ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾؛ هذا الجلد المدلل، الذي كان يهتم به الإنسان في الدنيا، وإذا به يوم القيامة يشهد على إجرام صاحبه.. وعندما يُعاتب على ذلك؛ يأتي الجواب: ﴿أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ يا له من خزي!.. ليس الجلد فقط هو الذي يشهد، بل كل أعضاء الإنسان، ومنها: العين التي هي بمثابة كاميرا مسجلة، ويوم القيامة تكشف كل الأسرار ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾!..
فإذن، هناك مواقف رهيبة ومختلفة في ذلك اليوم: يسأل في بعضها، ويختم على الأفواه في بعضها، ولا يُسأل في بعضها.. ولكن كيف يعرف المجرم من غير المجرم إذا لم تكن هناك مساءلة؟.. الجواب في الآية اللاحقة:
﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ…﴾.. المؤمنون سيماهم في وجوههم من أثر السجود، وهؤلاء وجوههم بشعة ومظلمة من أثر الإجرام.. فوجوه الناس يوم القيامة على أشكال وألوان:
١. وجوه بيضاء: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾؛ وبياض الوجه نستطيع الحصول عليه في الدنيا عند الوضوء، عندما نصب الماء على الوجه نقول: (اللهم!.. بيض وجهي يوم تسوّد فيه الوجوه، ولا تسوّد وجهي يوم تبيض الوجوه).
٢. وجوه مسودة: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌٌ﴾.
٣. وجوه ناعمة: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ﴾؛ منعمة في أنواع اللذات، وظاهر عليها أثر النعمة والسرور.. فالنعومة شيء، والجمال المادي شيء آخر.
٤. وجوه خاشعة: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾؛ أي ذليلة بسبب ما عملت من الكفر والآثام.
٥. وجوه ناضرة: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ﴾؛ أي ناعمة، بهيجة، حسنة.. فيها نشاط، وفيها جاذبية.
٦. وجوه باسرة: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ﴾؛ شديدة العبوس والتقطيب من الهم والغم، فتوحي بالحزن والكآبة.
٧. وجوه مسفرة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ}؛ أي مشرقة مضيئة، تظهر عليها آثار الفرح والسرور.. هذه الوجوه تضحك فرحاً لحسن العاقبة، وليس من باب الغفلة، ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ﴾.
٨. وجوه مغبرة: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ﴾؛ أي سواد وكآبة وحزن.
﴿…فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ﴾.. النواصي: جمع ناصية، وهي شعر مقدم الرأس.. في ذلك اليوم يؤخذ بشعر رأسه، ويؤخذ بقدميه، فيصبح متكوراً!.. وهذا الوضع هو منتهى الذل والهوان!.. ثم يُرمى به في نار جهنم، كأنه قطعة قذرة، بل أشد!.. فهؤلاء ليسوا فقط معذّبين في نار جهنم، بل هم حصب جهنم.. حيث أن بعض الناس يكونون أداةً لتعذيب الآخرين، فهم الحجارة التي يعذب بها الغير.
﴿فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.. إن ذكر هذه الآية يتناسب مع الحور والجنان والنعيم، وأيضاً مع ذكر جهنم ﴿فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾؛ فهذا تحذير، والوقاية خير من العلاج!..
﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾.. كلمة “الطواف” أيضاً فيها إشعار بالإذلال.. هناك طوافان في القيامة: طواف أهل النار، فهؤلاء يطوفون بين جهنم وبين المياه الحارة التي تقطع الأمعاء.. وطواف أهل الجنة، الذي هو عكسهم تماماً؛ فهؤلاء يُطاف عليهم ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ﴾، ﴿يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ﴾؛ وأوانيهم من الذهب.. ﴿يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ﴾؛ وهذه الكؤوس الله يعلم ما فيها من النعيم، ومنها الخمر الذي لا يسلب الإنسان عقله، بل يزيده عقلاً وإدراكاً؛ لأن خمر الجنة يجعل الإنسان يستوعب المعاني أكثر!.. فخمر الدنيا يزيل، وخمر الآخرة يزيد!..
الدرس العملي:
هذا المستقبل الموحش، وهذا المستقبل المشرق!.. وأيام الدنيا قصيرة جداً، بالنسبة إلى هذا النعيم.. فهذه المعادلة الرياضية الكل يعتقد بها: اللانهاية عندما تُقسّم على عدد محدود، يكون الجواب: اللانهاية.. أي كل ساعة، وكل دقيقة من أعمارنا الآن؛ يوازيها اللانهاية في ذلك العالم.. ومن هنا المؤمن دائماً في استغفار، وفي خوف وقلق!.. فمن منا يقسم بالله -عز وجل- أنه أمضى نهاره كما ينبغي؟.. أو أمضى ليله كما ينبغي؟.. نحن على أحسن التقادير لا نعصي، ولكن هل عدم المعصية والغفلة هذا مكسب؟!.. هل نومنا بالمقدار اللازم؟.. هل طعامنا بالمقدار اللازم؟.. هل حديثنا بالمقدار اللازم؟.. كله حسرة في حسرة!.. ولهذا المؤمن لا ينفك عن الاستغفار؛ تأسيا بالنبي (صلی الله عليه) قال الصادق -عليه السلام-: (إنّ رسول الله (صلی الله عليه) كان لا يقوم من مجلس -وإن خفَّ- حتى يستغفر الله -عزّ وجلّ- خمساً وعشرين مرة).. رسول الله (صلی الله عليه) معدن الذكر، ومعدن الالتفات؛ ولكن ما قام من مجلس وإن خف، إلا واستغفر الله -عز وجل-.. لذا، علينا أن نكثر الاستغفار؛ لئلا تزداد حسرتنا في عرصات القيامة.
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾.. هذه الآية في سورة “الرحمن” من أهم الآيات!.. فلمَ الخوف ليس من الله -عز وجل- بل من مقامه؟.. وما معنى هذا الخوف؟.. وما هما الجنتان؟.. قال صاحب تفسير الميزان: “فتبين مما تقدم أن الذين أشار إليهم بقوله: ﴿وَلِمَنْ خَافَ﴾ أهل الإخلاص، الخاضعون لجلاله تعالى، العابدون له؛ لأنه الله عز اسمه لا خوفاً من عقابه، ولا طمعاً في ثوابه.. ولا يبعد أن يكونوا هم الذين سموا سابقين في قوله: ﴿وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً﴾ -إلى أن قال- ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾.. وقوله: ﴿جنتان﴾ قيل: إحداهما منزله ومحل زيارة أحبابه له، والأخرى منزل أزواجه وخدمه.. وقيل: بستانان: بستان داخل قصره، وبستان خارجه.. وقيل: منزلان ينتقل من أحدهما إلى الآخر ليكمل به التذاذه.. وقيل: جنة لعقيدته، وجنة لعمله.. وقيل: جنة لفعل الطاعات، وجنة لترك المعاصي.. وقيل: جنة جسمانية، وجنة روحانية.. وهذه الأقوال -كما ترى- لا دليل على شيء منها.. وقيل: جنة يثاب بها، وجنة يتفضل بها عليه، ويمكن أن يستشعر ذلك من قوله تعالى: ﴿لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ على ما مر في تفسيره”.. قال الصادق -عليه السلام-: (من علم أن الله يراه، ويسمع ما يقول من خير وشر، فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال؛ فله ﴿جنتان﴾؛ أي: جنة عدن، وجنة النعيم).
﴿وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾.. هناك جنتان مستواهما أقل من هذه الجنة، فلمن هذه الجنة، ولمن هذه الجنة؟.. لابد أن نستوعب خارطة الجنة، وكيف توزع القسائم في دار الدنيا؟.. بني آدم يتكالب على قسيمة في صحراء، ولا يتكالب على هذه القسائم الكبرى في جنان الخلد!.. جاء في تفسير الميزان: “﴿وَمِن دُونِهِمَا﴾: أي أنزل درجة وأحط فضلاً وشرفاً منهما، وإن كانتا شبيهتين بالجنتين السابقتين في نعمهما وآلائهما.. وقد تقدم أن الجنتين السابقتين لأهل الإخلاص الخائفين مقام ربهم، فهاتان الجنتان لمن دونهم من المؤمنين العابدين لله -سبحانه- خوفاً من النار، أو طمعاً في الجنة؛ وهم أصحاب اليمين.. وقيل: معنى ﴿وَمِن دُونِهِمَا﴾ بالقرب منهما، ويستفاد من السياق حينئذ أن هاتين الجنتين أيضاً لأهل الجنتين المذكورتين قبلاً، بل ادّعى بعضهم أن هاتين الجنتين أفضل من السابقتين، والصفات المذكورة فيهما أمدح.. وأنت بالتدبر فيما قدمناه في معنى ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾.. وما يستفاد من كلامه -تعالى- أن أهل الجنة صنفان: المقربون أهل الإخلاص، وأصحاب اليمين، تعرف قوة الوجه السابق”.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.