﴿يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾.. كيف يسأله من في السموات والأرض؟.. هل المؤمنون هم الذين يسألون الله -عز وجل-؟.. وهل كل المؤمنين يسألون أم البعض؟!.. الجواب على ذلك هو: أن السؤال هنا يعمّ السؤال الطبعي، والسؤال القولي.. وبعبارة أخرى: السؤال بلسان الحال، والسؤال بلسان المقال.. ﴿يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾، كل موجود في هذه الدنيا مفتقر في وجوده إلى الله -عز وجل-، ويسأل الله المدد، حتى فراعنة الزمان طبعهم يقول: يا رب، أعطنا الحياة!.. لأن تكوينهم المادي يطلب من الله -عز وجل- مستلزمات الحياة: كالماء، والهواء، و..الخ.. فطبع الإنسان، وجسمه، وتكوينه يسأل الله -عز وجل- ذلك.. فإذن، إن السؤال أعم من أن يكون باللسان، أو يكون بالطبع.. ولهذا بعض الأوقات الإنسان لا يعدد طلبته.
هل المطلوب تعداد الطلبات أو إهمالها؟..
هل المؤمن مطلوب منه أن يسأل الله -عز وجل- الجزئيات؛ أي يقول: يا رب!.. أعطني كذا، وأعطني كذا، كما في الحديث القدسي: (يا موسى!.. سلني كلّ ما تحتاج إليه حتّى علف شاتك، وملح عجينك)؟.. أو يقول: (علمك بحالي، يغني عن سؤالي)؛ أي لا يسأل ربه، بل يقول: يا رب!.. فوّضت الأمر إليك؟!..
إن الإنسان يعيش حالات مختلفة، مثلاً: الإنسان الذي عليه دين، ويُوفق للذهاب إلى الكعبة، أو إلى حائر الحسين -عليه السلام-، وهو في قمة التفاعل، يخجل من طلب المال؛ لأن المقام هنا لا يحسن فيه تعداد الحوائج الصغيرة.. فينشغل في المناجاة مع الله -عز وجل-، وعند الانتهاء يقول: يا رب، علمك بحالي يُغني عن سؤالي.. لأن العبد مأمور بالسؤال!.. فإذن، إن حالات الإنسان تختلف.
﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾.. في كل زمان رب العالمين له شأن، وهذه آية مهمة، وتترتب عليها آثار!.. في الخبر هكذا نقرأ في رواية لأمير المؤمنين -عليه السلام- أنّه قال في أحد خطبه: «الحمد لله الذي لا يموت، ولا تنقضي عجائبه؛ لأنّه كلّ يوم هو في شأن، من إحداث بديع لم يكن».. لذا، على العبد أن لا ييأس من روح الله -عز وجل- كما في الآية المعروفة ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾.. فلعل الله -عز وجل- كتب له عدم الاستجابة في هذا الشهر؛ لمصلحة هو يراها.. أو لسوء فعله، مثلاً: هذا الإنسان له هفوة مستمرة في هذا الشهر، ولكن في الشهر اللاحق يتركها؛ عندئذ رب العالمين يحب أن يستجيب له.. وعليه، فإنه يجب الدعاء دائماً، وعدم اليأس من الاستجابة!.. ﴿كُلَّ يَوْمٍ﴾؛ قيل هنا: ليس المراد به الأيام، إنما يعني في شأن متغير.. وفي بعض الروايات، عن أبي الدرداء عن النبي (صلی الله عليه): في قوله: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ قال: (من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً.. ويرفع قوماً، ويضع آخرين).. له تصرفاته في عالم التكوين.
﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ﴾.. عندما نقول: نتفرغ لك؛ أي كان عندي شغل، والآن لا شغل عندي، فأنا متفرغ لك.. فهل معنى هذه الآية: بأن الله -عز وجل- يوم القيامة لا شغل له، حتى يتفرّغ لبني آدم وحسابهم؟.. إن البعض هكذا يظن: أن دار الدنيا دار عمل، فرب العالمين يرزق، ويرفع، و..الخ؛ وإذا جاء يوم القيامة تفرّغ للحساب.. هذا المعنى غير صحيح!.. إنما المقصود: أن رب العالمين له التفاتته للبشر بحسب كل نشأة، فهنا دار عمل ولا جزاء، وغداً دار جزاء ولا عمل، كما يشير إلى ذلك الحديث الشريف: (اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل).. يقول صاحب تفسير الميزان: “فمعنى «سنفرغ لكم»: سنطوي بساط النشأة الأولى، ونشتغل بكم.. وتبين الآيات التالية أن المراد بالاشتغال بهم: بعثهم، وحسابهم، ومجازاتهم بأعمالهم خيراً أو شراً.. فالفراغ لهم: استعارة بالكناية عن تبدل النشأة.. ولا ينافي الفراغ لهم كونه تعالى لا يشغله شأن عن شأن، فإن الفراغ المذكور ناظر إلى تبدل النشأة، وكونه لا يشغله شأن عن شأن ناظر إلى إطلاق القدرة وسعتها.. كما لا ينافي كونه تعالى كل يوم هو في شأن الناظر إلى اختلاف الشئون كونه تعالى لا يشغله شأن عن شأن”.
﴿فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.. قد يقول قائل: بعد كل هذه التهديدات الإلهية، يقول مباشرة: ﴿فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾؛ فكيف يجتمع ذكر العذاب مع النعم الإلهية؟.. الجواب هو: إن التحذيرات التي توضع على جوانب الطرق مخيفة، ولكنها عين النعمة؛ لأنها تُنبّه السائق من الوقوع في الأخطار والمشاكل.. وكذلك في سورة “الرحمن” الحكيم يُنبّه الإنسان، ويذكّره بأهوال القيامة وعقباتها؛ فذلك التذكير يوجب له عدم الغفلة.
﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ﴾.. أي هذا الكون، وهذا الوجود، وهذه السموات مقفلة؛ ولكن من الممكن -والله العالم- أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض باستعانة السلطان.. وليس المراد بالسلطان هنا الملك؛ إنما ببرهان، وقدرة.. البعض فسر هذه الآية؛ بغزو الفضاء، يقول: أن هذه السموات من الممكن أن تنفذوا في أقطارها، بوسيلة علمية كهذه المراكب الفضائية.. فهذا معنى من المعاني.. وقد قدّم الجن على الإنس؛ لأن الجن أسرع في التحرك من الإنسان، فهو غير متقيد بقوانين التحرك الآدمي.
الدرس العملي:
إن الإنسان عندما يتأمل في وضعه، يرى أن العالم سجن كبير، وهو سيخرج في يوم من الأيام من هذا السجن إلى عالم أرحب!.. لذا، عليه أن يعطي هذا السجن بمقدار ما يستحق!.. بعبارة أخرى: الإنسان بمثابة مسافر استظل في ظل شجرة ساعة ثم ارتحل عنها!.. فلو أن هناك جماعة في سفر إلى الكعبة المشرفة -مثلاً- وفي أثناء الطريق وصلوا إلى شجرة ليستظلوا تحتها، ثم قامت الجماعة لإكمال المسير، ولكن أحدهم بقي جالساً ولم يذهب معهم، لأنه مشغول بقطف ثمار تلك الشجرة، أو بتشذيب أغصانها؛ ألا يقال: هذا إنسان مجنون!.. نحن هكذا جئنا إلى هذه الحياة، لنستظل تحت ظل هذه الشجرة ساعة ثم نرتحل، وإذا بنا ننشغل في هذه الدنيا بما يشغلنا عما خلقنا لأجله!.. (دخل عمر على رسول الله(صلی الله عليه) وهو على حصير قد أثّر في جنبيه، فقال: يا نبي الله!.. لو اتخذت فراشاً، فقال: ما لي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظلّ تحت شجرة ساعةً من نهار ثم راح وتركها).
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.