بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}.
{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}.. النعيم: النعمة الكثيرة، وفي تنكيره دلالة على فخامة قدره.. والمعنى: أن الأبرار لفي نعمة كثيرة، لا يحيط بها الوصف.. ظاهر الآية الوصف لحال الأبرار في الجنة!.. ولكن من باب التساؤل: ما المانع أن نقول: أن الأبرار لفي نعيم بشكل مطلق، لا في الجنة فحسب، بل وهم في الدنيا في نعيم؟!.. فالآية لم تقل: إن الأبرار في الجنة لفي نعيم؛ أي أن المؤمن في هذه الدنيا أيضاً في نعيم!.. قد يقول قائل: ولكن المؤمن مبتلى، فـ(الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر)، ويقول تعالى في كتابه الكريم: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}.. فإذن، أين النعيم؟.. إن نعيم المؤمن في باطنه، حيث أن قلبه مطمئن دائماً.. فالإنسان يتمنى الأموال؛ ليطمئن أن له دخلاً.. ويتزوج، لينعم بالسكينة والهدوء.. ويسافر إلى البلاد البعيدة؛ ليستأنس في تلك البلاد.. ولكن كل هذه النتائج، وكل هذه الثمار؛ موجودة في قلب المؤمن؛ لذا هو في نعيم دائم!.. لهذا كان الإمام الكاظم (ع) في السجن، يعيش الشكر الإلهي، لنعمة التفرغ للعبادة!.. ويوسف الصديق (ع) أما {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ}؛ أي قصر زليخا في كفة، وهذا السجن الموحش في كفة.. يقول: هذا السجن أحب إلي من قصر زليخا.. نعم المؤمنون في نعيم دائم، هذا النعيم يتضاعف، ويتضاعف في جنة الخلد!..
{عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ}.. {الأَرَائِكِ}: جمع أريكة، والأريكة السرير، وهي البيت المزين للعروس.. {يَنظُرُونَ}: إلام ينظرون: إلى الحور، أو إلى الغلمان، أو إلى ما وراء ذلك {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}؟.. فدرجات أهل الجنة مختلفة: البعض ينظر للحور، والبعض ينظر لخالق الحور.. فإذن، إطلاق قوله: {يَنظُرُونَ} من غير تقييد، يؤيد أن يكون المراد نظرهم إلى مناظر الجنة البهجة، وما فيها من النعيم المقيم.
{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ}.. النضرة: البهجة والرونق.. والمعنى: كل من نظر إلى وجوههم، يعرف فيها بهجة النعيم الذي هم فيه.. فهؤلاء وجوههم منعمة، مثلاً: في يوم عاشوراء كان الإمام الحسين (ع)، كلما اشتد عليه البلاء؛ أشرق لونه الشريف؛ لأنه يقترب من رضوان الله -عز وجل- أكثر!.. وفي ليلة عاشوراء، كان أصحاب الحسين (ع) يتسامرون ويتمازحون، لأنهم سيصبحون في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
{يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ}.. الرحيق: الشراب الصافي، الخالص من الغش.. ويناسبه وصفه بأنه مختوم، فإنه إنما يختم على الشيء النفيس الخالص، ليسلم من الغش، والخلط، وإدخال ما يفسده فيه.. فهذه الأيام عندما يتم إنتاج شيء له قيمة، فإنه يختم بالشمع أو بأي مادة أخرى؛ كي يعرف بأن هذا المنتج غير مغشوش.. الإنسان ينتابه العجب عندما يصل إلى هذه الآية، كيف أن رب العالمين يصف جزئيات النعيم؟.. ولماذا؟.. يقول: هؤلاء {يُسْقَوْنَ}، ما قال: يشربون.. فالإنسان عندما يشرب، هو الذي يختار.. أما عندما يُسقى، فإن الساقي هو الذي يختار له، ولكن من الذي يسقيهم؟.. يقول تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}.. ورد عن الإمام الصادق (ع) في ذيل قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}: (يطهرهم عن كل شيء سوى الله.. إذ لا طاهر من تدنس بشيء من الأكوان إلا الله)..
{خِتَامُهُ مِسْكٌ}.. قيل: الختام بمعنى: ما يختم به؛ أي إن الذي يختم به مسك، بدلاً من الطين ونحوه، الذي يختم به في الدنيا.. وقيل: أي آخر طعمه الذي يجده شاربه، رائحة المسك.
{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}.. التنافس: التغالب على الشيء، ويفيد بحسب المقام معنى التسابق.. قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}، وقال: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ}؛ ففيه ترغيب إلى ما وصف من الرحيق المختوم.. والمعنى: فليتنافس المتنافسون في نعيم الجنة عامة، وفي الرحيق المختوم الذي يسقونه خاصة.. يا أهل الدنيا، ألا تريدون الشرب والسكر والنعيم والرحيق، وهكذا نعيم؟.. إذن، تسابقوا للحصول عليه!..
{وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ}.. {وَمِزَاجُهُ}: المزاج؛ ما يمزج به.. {تَسْنِيمٍ}: على ما تفسره الآية التالية، عين في الجنة، سماه الله “تسنيماً”.. هذا الشراب عليه ختم من المسك، وداخله أيضاً فيه مزيج؛ فيه ماء سائل آخر.. فرب العالمين خلط شراب الجنة، بماء التسنيم.. يبدو أن أنهار الجنة عجيبة غريبة؛ هناك أنهار من لبن، وأنهار من عسل، وأنهار من خمر، وهناك أنهار من تسنيم!.. ولعل هذه التسمية أتت، لأن هذا النهر ينزل من مكان مرتفع، كسنام الإبل.. ويبدو أن “التسنيم” نبع إلهي خالص، وليس كل مؤمن يُسقى من ذلك النبع، وإنما يُخلط له شراب الجنة بذلك الماء.. والبعض فقط، يشرب من التسنيم.
{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}.. ومفاد الآية: أن المقربين يشربون التسنيم صرفاً، كما أن مفاد قوله: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ}؛ أنه يمزج بها ما في كأس الأبرار من الرحيق المختوم.. ويدل ذلك أولاً على أن التسنيم أفضل من الرحيق المختوم، الذي يزيد لذة بمزجها.. وثانياً أن المقربين أعلى درجة من الأبرار الذين تصفهم الآيات.. فإذن، هناك درجات للنعيم في الجنة!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.