إن المؤمن يحتاج في حياته إلى عنصرين:
العنصر الأول: الشريعة.. إن حاجة الإنسان إلى الشريعة، هي لمعرفة الحلال من الحرام.. وطرق العمل بالشرعية هي: الاجتهاد، والتقليد، والاحتياط.
العنصر الثاني: الحكمة.. إن الإنسان بالإضافة إلى تعلم الأحكام الشرعية؛ يحتاج إلى حكمة يمشي بها في الحياة.
إن الشريعة تقول: هذا حلال وهذا حرام، هذا مكروه وهذا مستحب وهذا واجب.. ولكن في مقام العمل، لا يدري هل من الراجح أن يرتكب هذا المباح أم لا؟!.. مثلاً: هناك مستحبان: عيادة مريض، أو صلاة ركعتين صلاة جماعة؛ لا يدري أيهما يختار!.. أما بالنسبة للاختيار بين الحرام وبين المباح؛ فإنه ليس هناك ما يدعو للحيرة!.. فإذن، إن المؤمن يحتاج إلى حكمة، يعلم بها طريقه إلى أين!..
منشأ الحكمة..
أولاً: القلب السليم.. بما أن محل الحكمة هو القلب؛ فلابد من تصفية القلب.. أما العبادات الكثيرة؛ فإنها لا تورث الحكمة، وفي التاريخ هناك طبقة يسمون بالعباد والزهاد؛ هؤلاء بعض الأوقات يرتكبون أموراً فظيعة!.. فإذن، إن الحكمة تحتاج إلى طبع سليم، وإلى قلب سليم.. لذا، فإنه يجب أن يعمل الإنسان على تصفية باطنه، يقول الإمام الهادي (عليه السلام): (الحِكمَـةُ لا تَنْجَـعُ في الطِّباعِ الفاسِدَةِ)؛ كأن الحكمة بذرة أو نبتة تحتاج إلى أرض خصبة، أما الأرض السبخة فلا تُنبت الحكمة!..
ثانياً: مراقبة الروافد.. إن الحكمة تحتاج إلى قلب خال من المشوشات، فالذي ينظر كثيراً إلى ما لا فائدة فيه، يصبح عنده الكثير من المشوشات.. لذا، فإن المؤمن لديه مراقبة لفضول: النظر، والقول، والسمع.. فهذه الروافد: العين، واللسان، والأذن؛ يجب مراقبتها.. والذي يراقب ويحكم السيطرة على هذه الروافد؛ يرجى أن يُعطى الحكمة.
موجبات إعطاء الحكمة..
يقول تعالى في سورة “البقرة”: ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾!.. وأشهر الحكماء في العالم، هو لقمان الذي له سورة كاملة باسمه في القرآن الكريم.. قيل للقمان: (ألست عبد آل فلان؟.. قال: بلى، قيل: فما بلغ بك ما نرى؟.. قال: صدْقُ الحديث، وأداء الأمانة، وتركي ما لا يعنيني، وغضي بصري، وكفّي لساني، وعفتي في طعمتي.. فمن نقص عن هذا فهو دوني، ومن زاد عليه فهو فوقي، ومن عمله فهو مثلي).. هذه هي الأمور التي أوجبت الحكمة للقمان:
١. صدق الحديث: إن الإنسان الذي يكذب، هذا إنسان ممقوت عند الله عز وجل، ومن الطبيعي أن رب العالمين لا يعطي الحكمة لمن يبغضه!..
٢. أداء الأمانة: إن الله عز وجل إذا رأى عبده في موضع المعصية، هذا لا يعطيه من حكمته شيئاً.
٣. ترك الفضول: أي ترك الفضول من كل شيء، كـ: القول، والنظر، والسماع..الخ.
٤. غض البصر: والله العالم أن لقمان لا يقصد بالضرورة هنا النظر إلى النساء والمحرمات، إنما غض البصر عما لا يستفاد منه.. فمثلاً: الذي يأتي إلى المسجد وعينه في الطريق على مساكن المترفين، ويتمنى ما لهم؛ فهو عندما يقيم الصلاة، يصلي صلاة غير خاشعة؛ لأن ذهنه فيما رآه قبل قليل.. ومن يقرأ صحيفة بما فيها من رطب ويابس، ثم يقول: الله أكبر!.. هذه المعاني تأتي إلى قلبه.
٥. كف اللسان: من وصية النبي (صلی الله عليه) لأبي ذر: (يا أباذر!.. اترك فضول الكلام، وحسبك من الكلام ما تبلغ به حاجتك.. يا أباذر!.. كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما يسمع).
٦. عفة المطعم: عفة المطعم قد يكون لها معنيان:
المعنى الأول: الأكل الحلال.
المعنى الثاني: آداب الأكل الحلال.
إن الإنسان الذي يأكل طعاماً حلالاً ويتخم منه، هذا أيضاً لا يرشح للحكمة.. إنما يجب تناول الطعام الحلال، بالنحو المستحب شرعاً.
-(فمن نقص عن هذا فهو دوني، ومن زاد عليه فهو فوقي، ومن عمله فهو مثلي).. أي من عمل بهذه الأمور؛ يصير حكيماً مثل لقمان!..
موجبات سلب الحكمة..
أولاً: الغضب.. قال أبو عبدالله (عليه السلام): (الغضب ممحقة لقلب الحكيم).. قد يعطى الإنسان شيئاً من الحكمة كجائزة له من رب العالمين على عمل وفق له؛ فيرى في قلبه شرح صدر، أو يرى في قلبه نوراً ولو كان بسيطاً.. ولكن هناك شيئاً يأتي يسلب هذا النور الذي أعطيه، ومن تلك الأشياء الغضب.. ولهذا حتى العالم أو الحكيم عندما يغضب، فإنه يتكلم بلا حكمة، وبلا وعي؛ وكأن هذه الحكمة لا تنفعه!.. فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (من لم يملك غضبه، لم يملك عقله).
ثانياً: التعلق بالدنيا.. إن لقمان (عليه السلام) وضع مواصفات معينة لاكتساب الحكمة، ولكن النبي (صلی الله عليه) وهو نبي الحكماء، وأحكم الحكماء -أين حكمة لقمان من حكمة نبينا (صلی الله عليه)؟!..- قال جملة واحدة: (ومَن زهد في الدنيا: أثبت الله الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه، وبصّره عيوب الدّنيا داءها ودواءها، وأخرجه من الدنيا سالماً إلى دار القرار).. بعض الناس عندهم حكمة، ولكن لسانه غير طليق، أما الذي يزهد في الدنيا، فإن لسانه أيضاً يسدد.. لذا، فمن أراد الحكمة عليه أن يرفع تعلق قلبه بشهوات الدنيا، فالإنسان الذي له صنم في باطنه، هذا يعبد هواه!.. ليس بالضرورة كل أنواع الهوى، إنما هوى واحد يكفي لجعل القلب معبداً لغير الله عز وجل!..
ثالثاً: الشهوة.. روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (اغلب الشهوة؛ تكمل لك الحكمة)!.. أي من غلب الشهوة، أيضاً يعطى ما أعطي لقمان الحكيم.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.