كَيفَ نتميز في هذهِ الحياة الدُنيا؟..
إن هذا السؤال قَد لا يكون مهما عِندَ البعض، ولكنه سيأتينا مع جوابه في أول لحظة من لحظات الانتقال من هذهِ الدُنيا، حيث البرزخ ﴿وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، وبَعدَ البَرزَخ هناك عرصات القيامة، ولعلَ البعض يعيش آلاف السنين في تِلكَ العرصات، وبعدها الخِلود في الجَنّةِ أو النار، أو التوقف في منتصف الأعراف.
أولاً: ما معنى التميز؟..
إن التميُز هو أن يكون في الإنسان صفات تميزهُ عَن باقي الخَلق، فالبعض كالبهائم يصدق عليهم قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ: هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ: شُغْلُهَا تَقَمُّمُهَا)؛ هذا الصِنف أصلاً لا يُعدُ من جنس بني آدم، فبعض البشر الذين يعيشون في الغابات أشكالهم بشريّة، ولكنهم مُلحقونَ بالحيوانات، كذلك الأمر بالنسبة إلى قسم من البشر ممن يعيش في العواصم الكبرى: هؤلاء قَد يكون ظاهرهم أنيقاً، ولكن شأنهم شأن الحيوانات أيضاً.. فهذه الدابة المسكينة همُّها العَلَف، وبعضُ الناس همهم المأكل والمشرَب: المآكل الطيبة، والثياب الفاخرة؛ هؤلاء في زُمرة البهائم، فالناس على قسمين:
القسم الأول: غير المؤمن.. وهو القسم الملحق بالبهائم، وهذا ليس فيه انتقاص من بني آدم، لأن خالق الإنسان يستخدم هذا التعبير؛ فالأمرُ إليه: ﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا﴾؛ هذا الحيوان خُلِقَ لأجل حَملِ المَتاعِ والأثقال، وهو يعمل بتكليفه، ولكن بعض البشر لا يعمل بتكليفه؛ فهو أضلُ مِنَ الحيوان!..
القسم الثاني: المؤمن.. إن الإنسان الذي ينطقُ بالشهادتين؛ هذا إنسان يعبُدُ اللهَ عَزَّ وجل؛ ولكن -مَعَ الأسف- البعض من هؤلاء أيضاً يعيش في هذهِ الدُنيا ولا يتميزُ في حياته، فهو: يؤدي الواجبات، ويصلي، ويصوم، ويقوم بما عليه، ولكن باطنهُ غَير مُميز!.. وعلامة عَدم التميُز أنّهُ ليست لَهُ عِلاقة مُتميزة مَعَ رَبه، والمقياس هذهِ الآية ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾، فالمؤمن هو الذي إذا ذُكرَ الله وجِلَّ قلبه، وليس الذي يسمع كتابَ اللهِ عَزَّ وجل في الفواتِحِ وغيره ولا يكاد يفهم شيئاً، ولا الذي يتكلم مَعَ مَن بجانبه ويضحك أثناء تلاوة القرآن الكريم، ولا الذي يُغلق المذياع عندما يبدأ المقرئ بتلاوة القرآن الكريم؛ لئلا يسمَعَ كلامَ الله عَزَّ وجل.
ثانياً: ما هي علامة التميّز؟..
إن علامة تميز المؤمن، هي:
١. الوجل: إن وَجَل القَلب عِندَ ذِكر اللهِ عَزَّ وجل هو علامة من علامات التَميز ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾.
٢. الاطمئنان: إن اطمئنان القَلب أيضاً من علامات التَميُّز، فالإنسان هذه الأيام يعيش الاضطراب، والاكتئاب، والقَلَق؛ هذهِ الأمراض الثَلاثة تكاد لا تُغادرُ أحداً، ولكن المؤمن إذا ذُكرَ الله اطمئنَ قلبه ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.
٣. الخشوع: يقول تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾؛ ليس المصلون ولا الصائمون هم المؤمنون؛ إنما الذين يخشعون في صلاتهم، فمن لا يخشع في صلاتهِ ليسَ بمؤمن حسب هذهِ الآية.
فإذن، إن التميز هو أن يكون للإنسان: قَبلَ الصلاة وَجل واطمئنان، وحِينَ الصلاة خِشوع؛ هذهِ ثَمرة التَميُز.. وعليه، فإن الإنسان الذي لا يعيش هذهِ المعاني، ينبغي له أن يبدأ التفكير في هذا الأمر.
ثالثاً: ما هي موجبات التَميُّز؟..
أولاً: رَفع مستوى الهمّة.. إن هناك قسماً من الناس في الحياة الماديّة لَهُ هِمّة ونشاط، فقد يكون هناك موظف يعمل من الصباح إلى ما بَعد الظُهر، ومع ذلك له عمل خاص، وربما هذا العمل عبارة عن شركة مقاولات كُبرى، هذا لا يَكِل أبداً!.. البَعض من رجال الأعمال من الصباحِ إلى الليل يعمل كالنَحلة، ينام أربع ساعات، ولا يأكل إلا القليل من الطعام، ويكدَح صباحاً ومساءً؛ هذا لَهُ هِمّة في متاع الدنيا، وخير مثال على ذلك أصحاب المليارات، البَعضُ منهم كانَ من أفقر الفُقراء، واليَوم في قائمة أثرى أثرياء العالَم!.. بينما البعض يكتفي براتبه المُتعارف، ولا يُفكر في التطويرِ أبداً، حتى المنزل يبقى فيهِ إلى أن يموت!.. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحياة الروحيّة الأخرويّة، أيضاً الناس على قسمين: هناك من لَهُ هِمّة في طريق القُربِ إلى اللهِ عَزَّ وجل، وهناك من ليس له همة.. فمن عوامل ضعف الهمة:
١. القُدرة البَدنيّة: قال رسول الله (صلی الله عليه): (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ).. المؤمن من أحرص الناس على صحته، بعض المؤمنين يحتاط حتى من نسمة الهواء، لأن الهواء البارد من المُمكن أن يوقعه في المرض، وعندما يأكُل الطعام، وكأنّهُ يُقدم على أمر خَطير؛ يخاف من تناول لُقمة زائدة، لما تحتويها من دُهنيات وسُكريات، فهو يحسبُ الحِسابات الدقيقة؛ لأنه يريد أن يُبقي بدنه سالِماً.. أحد العُلماء الكِبار حافظ على صحته لمدة تسعين سَنة كي يبقى قادراً على العمل والخدمة؛ لأنه من يُبتلَ بصداع قد يُحرم من القيام لصلاة الليل، وإن قام فإنه يقوم كالسُكارى، وإن دخل المستشفى قَد لا يُصلي حتى الصلاة الواجبة، أو يُصليها بثيابٍ نجِسَة.. لذا المؤمن حَريصٌ على الصِحة، ولا بأس بعمل فحص طبي في السَنة مرة أو مرتين للمحافظة على سلامة صحته.
٢. التوغل في الاستمتاع: من يأكل ويشرَبُ كَثيراً؛ يتقاعس وينام!.. ولهذا قد يكون لدى الإنسان نشاط لا بأسَ بهِ، ولكن بمجرد أن يأكل وجبة الغَداء أو العشاء، يكادُ ينامُ وهو على المائدة.. فالاسترسال في الطعامِ والشَراب من موجبات فتور الهِمّة، لذا بعض المؤمنين عندما يأكل ينظر نظرة عدائية إلى الطعام؛ لأنه إذا تناوله ستنطفئ شمعته، فيأكل بخَوفٍ وحَذَر لئلا يُصاب بفتور الهِمّة.
٣. العيش في أجواء الغافلين: إن الشاب المستقيم الذي يُعطى منحة للدراسة في الخارج يَكادُ يطيرُ فَرَحاً، رغم أنه سيدخُل في فَم التنين، ومَن دَخَلَ في فَم الأسد: إما أن يخرج سالماً، وإما أن يُبتلَع!.. ولكن مَن الذي يخرج سالماً من فَم التنين؟!.. يَذهَبُ إلى بَلاد الغَرب، فيصبح على شفا حُفرَة، لأن إيمانه ليس قوياً، فهو لديه إيمان تقليدي مُتعارف، لذا عندما يسكن في مكان فيهِ أفسَقُ خَلق اللهِ عَزَّ وجل، وتُرتكبُ الفاحشة أمامه وهو ينظر بعينه: فمن ناحية غريزتهُ تُثار، ومن ناحية يخاف ربه؛ ولكن إلى متى يستطيع المقاومة؟!.. وما هو أشد غرابة من ذلك أن البعض يبعَثُ بابنتهِ التي قد تكون غَير مُستقرة الإيمان إلى تلك البلاد؛ فبأي اطمئنان هذهِ البنت تَذهَبُ إلى بَلاد الغَرب لتعيش وحدها؟!.. ومن الطبيعي أن الإنسان عندما يقع في مثل هكذا بيئة، أن لا يتميز، بَل يتسافَل؛ والعكس هو الصحيح!..
ثانياً: البيئة الاجتماعية..
١. حضور صلاة الجماعة: لماذا هذهِ الدعوة البليغة لحضور الجماعة؟.. إن الناس ساعة الزوال من ظُهر الجُمعة: إما في المساجد، أو في فُرش النَوم، أو في حالِ لَهوٍ ولَعِب!.. أما الذي يحضر مجالس المُتميزين والمُقربين، فإنه من الطبيعي أن هذا يُحفِزه، إذ لعلَ البَعض يكتمُ دَمعة الخَشيَة في عينيه، لا يُريد أن يُظهرها، ولكنها تسقط عندما يركع بفعل الجاذبية، عندئذ من يقف بجانبه ولو كانَ هذا الإنسان مِن كِبار رجال الأعمال، أو أُستاذاً في الجامعة؛ آلا يقولُ: لِمَّ هذا هكذا، وأنا لَستُ هكذا؟.. هذا الإنسان لم يُرائي، هو كَتَم دمعته، وفي الصلوات الكُل متوجه إلى القِبلة، ليسَ هُنالك مواجهة، لذا عندما يراه مَن بجانبه وقد سقطت منهُ دَمعة على الأرض؛ فإن هذا الأمر يحرك مشاعره؛ هذا هو أثر الجَو الجَماعي!.. والغريب أن على رأس المُستحبات هناك مستحبان على طرفي نقيض: أحدهما في الخَلوة؛ وهي صلاةُ الليل حيث لا يراه أحد، والثاني في الجَلوة؛ وهي صلاةُ الجَماعة حيث يخرج جهاراً.. فإذن، إن الأجواء الاجتماعية لَها دَور في تحفيز الهِمم وفي التَميز.
٢. ملازمة العلماء الربانيين: لماذا أُمرنا أن نُزاحِمَ العُلماء بالرُكَب؟.. إن هناك طبقة مميزة في المجتمع، ليسوا من رجال الدين، هؤلاء: الذِكر على لِسانهم، وحُب اللهِ ورسولهِ في قلوبهم، وعند البحث عَن حياتهم، وإذا بالبعض منهم كانَ مُلازماً لبعض العُلماء الربانيين، من خلال قضاء حوائجهُ، أو السفر مَعهُ؛ هذهِ المُعاشرة اللصيقة أثرت به، وجعلتهُ في طريق التَميُز!.. هذا التميُز يظهر أثرهُ في جِنان الخُلد، ألا نقرأ في دُعاء النُدبة: (وَشيعَتُكَ عَلى مَنابِرَ مِنْ نُور مُبْيَضَّةً وُجُوهُهُمْ حَوْلي فِي الْجَنَّةِ وَهُمْ جيراني)، فالبعض جيران النَبي (صلی الله عليه) والبعض في أولِ دَرجاتِ الجَنّة.
ثالثاً: الاستراتيجية.. إن البعض منا ليست لَهُ استراتيجية في هذه الحياة، ولكن بالنسبة إلى العمل الدنيوي: هل هناك إنسان يؤسس شركة دون أن يكون لديه رأس مال، وليست لَهُ خُطة عَمَل، وليسَ لَهُ مَن يُشيرُ عليه؟.. إن من يُقدم على بناء شركة لابد له من تعيين: دستور، وقانون، ومنهج، وما يُسمى هذهِ الأيام بالجدوى الاقتصادية، فهو يَدَفَعُ أموالاً طائلة لبعض الشركات كي يدرسوا المشروع ويقدموا له خِطة.. فإن كان بناءُ المَنزل يحتاجُ إلى خِطّة، وإلى مُخطط، وإلى استشاري، وإلى مال، وإلى رأس مال، ..الخ؛ فكيفَ ببناء النفس!.. المؤمن الذي يريد بناء نفسه لابُدَّ وأن يقرأَ الكِتاب المُتعلق بجِهاد النَفس من كتابِ (وسائل الشيعة)، للعالم الجليل “الحُر العاملي” المدفون عِندَ الإمام الرضا (عليه السلام)، فهو من كِبارِ العلماء، وما مِن مُجتهد إلا وهو على مائدة “الحُر العاملي”، وكتاب (وسائل الشيعة) فيه باب بعنوان: (جُهادُ النفس) تحتوي هذه الكتب على كلمات الأئمة (عليهم السلام) من دُونِ رتوش، ومن دُونِ تعليقات.. فليقرأ المؤمن هذا الكِتاب، وليفكر في المضامين، وليأخُذ دروساً في هذه الكتب، حتى لو أدى الأمر إلى دفع مَبلَغ مِنَ المال مقابل شرح الروايات الواردة فيه.
رابعاً: التعرض لدائرة الجذب الإلهي.. هُناكَ اصطلاح في كُتب الأخلاق يقول: السالكُ مجذوبٌ، أو المَجذُوبُ سالكٌ؛ أيهما صحيح؟.. البعضُ يقول: المجذوبُ سالِكٌ؛ لأن رَب العالمين جَذَبه فجعله سالكاً، هو اختاره ورَشحه، ﴿اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء﴾، رَبُ العالمين قَلبَ العِباد ظهراً لبطن فاختارَ حبيبه المصطفى محمداً (صلی الله عليه) لأن يكونَ خاتم الأنبياء، وقَلَبَ العِباد فرأى علياً جعلهُ خاتمَ الأوصياء؛ لذا يجب على المؤمن محاولة تعريض نفسه للجَذبةِ الإلهيّة!.. هذهِ الجَذَبات تقوى وتضعُف، كما يحدث عندما يُغازلُ القَمر مياه البحار والمحيطات، فيجذب الماء جَذباً وهو ما يسمى (المَد)، ففي شهرِ رمضان وموسم الحج يبلغُ الجَذبُ أوجه، والمؤمن الفطن هو الذي يحاول اغتنام الفرص، واستغلال هذهِ المواسم، فيخاطب ربه بتعابير مختلفة، كأن يقول: “يا رَب أجذبني إليك”!.. أو “اللهم اجعلني ممن غرستَ أشجار الشَوق في حدائقِ قلوبهم أو صدورهِم”!.. أو “يا رَب اجعلني من المُميزين”!.. ومن أرادَ التَميز عليهِ بمُناجاتين لا يقرأهما إلا وهو مُستعدٌ لذلك؛ لأنه لو أكثر من القراءة على نَحو اللقلقة، فإن هذا الدُعاء قَد لا يؤثر أثره!.. المناجاتان هما: مناجاة “المُحبين”، ومُناجاة “المُريدين” للإمام زَينُ العابدين (عليهِ السلام) حيث يطلبُ فيهما من الله عز وجل التميز؛ فهنيئاً لمن كانَ من الذينَ سقاهم رَب العالمين من صافي شرابِ ودهِ وحُبه!..
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.