- ThePlus Audio
من وحي قصة النبي لوط (عليه السلام)
بسم الله الرحمن الرحيم
النبي لوط (عليه السلام) ومعاناته مع قومه
يمكن القول أن النبي لوط (ع) كان في قوم لم يشهد التاريخ أمة بفسقهم وسخفهم في الأزمنة الغابرة. ولذلك لاقى لوط (ع) الأمرين منهم ومن شذوذهم. فقد تميزوا بإتيان الرجال شهوة من دون النساء ويبدو من الآيات الشريفة أنهم كانوا أول من ارتكب هذه الفاحشة حيث قال لهم نبيهم لوط (ع) كما ذكر ذلك القرآن الكريم حيث قال: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ)[١]
لماذا لا يعذب الله عز وجل من هم على شاكلة قوم لوط (عليه السلام) في هذا الزمان؟
وعجباً لحلم الله جل جلاله على أهل هذا الزمان، ففي الأزمنة الغابرة، وفي زاوية من زوايا الأرض، وجدت طائفة تمارس هذا العمل القبيـح، وبلا دعوةٍ لباقي الأمـم، فعجّل الله عز وجل لهم العقوبة، ولكن في زماننا هذا قد أخر الله عز وجل انتقامه إلى يوم الوقت المعلوم، على الرغم من أننا نرى بأن هذا العمل أصبح من ينظر له، وله دعاة، وأحزاب، وله جماعات يتبجّحون بذلك من دون أدنى درجةٍ من درجاتِ الخجل.
والذي سيحيي آمال الأنبياء والمرسلين، ويقيم أحكام الشريعة بعد أفولها، هو الإمام المهدي (عج) فلا أمل في الذين رفعوا شعار الدفاع عن الإنسان والمُثُل وهم أول من ضحى بهذه المثلِ والقيم. فلا بد من يد غيبية تتمثل بالمهدي (ع) وسيأتي معه ذلك النبي الصالح المسيح (ع) ليقيما العدل في جميع أنحاء العالم.
النبي إبراهيم (عليه السلام) مع الملائكة
يقول سبحانه في بداية قصة النبي لوط (ع): (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)[٢]، وهذه الآية تؤكد على حسن الضيافة وكيف أن إبراهيم (ع) هيأ لضيوفه عجلا مشويا بسرعة كبيرة، ولكنه أحس بشيء من الخوف والغرابة في تصرف هؤلاء الضيوف عندما امتنعوا عن الطعام، قال تعالى: (فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً)[٣].
خوف النبي إبراهيم (عليه السلام) من ضيوفه المنكرين
وهنا بیَّن الضيوف أنهم ليسوا ضيوفا عاديين وإنما هم رسل من الله عز وجل إلى قوم لوط، قال تعالى: (قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ). وفي هذه الآية الشريفة إشارة إلى أن علوم الأنبياء مستندة إلى تعليم الله عز وجـل، فالملائكة تنزل في بيت إبراهيم (ع)وهو لا يعلم بأن هؤلاء ملائكة ولم يكن ليعرفهم وهم في زي البشر إلا بتعليم من الله عز وجل ولو كان يعلم ماهيتهم لوفر على نفسه عناء تحضير العجل وشويه..! وهكذا الأمر في فقدان يعقوب (ع) ليوسف (ع) فهو لا يعلم أن ولده في بئر قريبة يعاني من الجوع والعطش ولكنه يشم رائحته من مسافات شاسعة حتى أنكر عليه أولاده قوله هذا حيث قال: (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ)[٤] بفض الإخبار الغيبي الذي تلقاه يعقوب (ع) كما تلقاه قبله إبراهيم (ع).
بشارة الملائكة لزوجة النبي إبراهيم (عليه السلام)
ويبدو أن زوجة النبي إبراهيم (ع) كانت واقفة وترى ما يحدث من حوار بين زوجها وبين هؤلاء الضيوف، تقول الآية: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ)[٥]، ويقول المفسرون: أن الضحك هنا ليس ما يقابل البكاء وإنما يعني أنها حاضت واعتراها ما يعتري النساء، ولذلك كانت هذه علامة لتلقي البشارة من الملائكة.
ثم سألت الملائكة في تعجب شديد، (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ)[٦]، فتعجبت من ولادة طفل من عجوز عقيم وشيخ كبير لم يعهد لمثلهما هذا بالإضافة إلى أنها تصورت نظرة الناس لهم وما سيدعو ذلك من السخرية والاستهزاء بهم.
وقد بينت الملائكة لها أن لا داعي لهذا العجب: (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)[٧]، ولا عجب من أمر الله عز وجل وهو القادر على فعل أي شيء وإنما يرى سبحانه الزمان والمكان المناسبين لتنفيذ مشيئته وكما بارك على إبراهيم (ع) في كبر سنه يبارك في زوجته و يؤهلها لهذا الحمل ويهيئ لها الأسباب.
جدال النبي إبراهيم (عليه السلام) مع الملائكة وعلة نعته بالأواه والحليم من قبل الله عز وجل
وبعد أن علم النبي إبراهيم (ع) مهمة الملائكة في إهلاك قوم لوط (ع) حاول أن يجادل الملائكة في إمهال هؤلاء الفسقة، تقول الآية: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ)[٨]، ويا لغرابة هذا النبي ويا لسماحته وحنانه وعطفه وإنسانيته حيث يجادل الملائكة حرصا على نجاة عباد الله ورجاء أن يهتدي منهم مهتد إلى صراط الإيمان. ولذلك وصفه القرآن الكريم بقوله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ)[٩].
ويتبادر إلى الأذهان أن الأواه هو الذي يتأوه كثيرا خوفا من العذاب والنار في مناجاته مع رب العالمين ولكن للمفسرين التفاتة جميلة حول هذه الكلمة حيث قالوا: إن الأواه هو الذي يتأفف كثيرا ويشعر بالحزن والأسى ويتألم كثيرا سواء في مناجاته مع رب العالمين وخشيته من الله عز وجل أو لمشاهدته الانحرافات في المجتمع وتألمه على مصير المنحرفين. وكم يجدر بالمؤمن كما يتأوه من كثرة الذنوب والخشية من الله عز وجل في مناجاته مع رب العالمين في منتصف الليل أن يتأوه كذلك للمنكرات التي يراها في قومه ومجتمعه ويحمل هم النبي إبراهيم (ع) في الإصلاح ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وهذه العلاقة المتكاملة والجامعة في النبي إبراهيم (ع) فهو منيب مع رب العالمين وحليم في نفسه وأواه مع مجتمعه، فقد كان بحق خليل الرحمن.
يمهل ولا يهمل..!
ولكن الأمر الإلهي إذا جاء لا يؤخر قال تعالى: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)[١٠]، ويأمر الله عز وجل إبراهيم (ع) بالكف عن هؤلاء والإعراض عنهم فقد انتهى الإمهال الإلهي لهم. وهنا لا بد من الالتفات إلى نقطة مهمة وهي: أنه سبحانه يهمل العبد ويتجاوز عن سيئاته ويعفو عنه ويؤخر العذاب فترة من الزمان إلى أن يصل إلى درجة لا تنفع فيه شفاعة نبي كإبراهيم (ع) خليل الرحمن..!
هل أصابنا في الدعوة إلى الله عز وجل شيئا مما أصاب الأنبياء؟
وقد ودعت الملائكة إبراهيم (ع) لتحل ضيوفا على لوط (ع) وتخبره بالقرار الصادر من الله عز وجل، قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ)[١١]، وقد دخل الملائكة عليه بصورة شباب مرد[١٢] صِباح الوجوه ولما رأى ذلك النبي لوط (ع) علم أن قومه سيهجمون على داره طلبا للمنكر فقال: (هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ). ولو تأمل متأمل سيرة الأنبياء (ع) لرأى شدة ما أصابهم في ذات الله عز وجل وكثرة ما تحملوه من الأذى في جنبه ولترويج شريعته، وينبغي أن يسأل كل فرد منا نفسه عما قدمه هو في سبيل الله عز وجل وعما أصابه في ذلك من البلاء. وانظر إلى لوط وهو نبي يدعو الناس إلى الله عز وجل ليل صبح مساء وهو على ما عليه من شدة الارتباط بالله سبحانه والملكات العظيمة التي يحملها تعرض إلى هذا البلاء من هجمو القوم على بيته لارتكاب الفاحشة مع ضيفه..!
إصرار قوم لوط (عليه السلام) على ارتكاب الفاحشة
وقال لهم ابعادا لهم عن المنكر: (قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ)[١٣]، أي إذا أردتم قضاء وطركم وتفريغ شهواتكم فهؤلاء بناتي فتزوجهن. فطبيعي لمن له شهوة وله غريزة أن يأتي الأمر من بابه فيتزوج من النساء لا أن يهجم على دار النبي لوط (ع) طلبا للمنكر مع الذكران، وحاول أن يستثير فيهم الفتوة بقوله: (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) ويبدو أنه لم يكن فيهم رجل رشيد بل كانوا على العكس تماما.، فقد وصلت بهم الوقاحة وقلة الحياء إلى رد هذا الطلب من لوط (ع) وتأكيدهم على أنهم لا يريدون إلا هؤلاء الغلمان.
قرب نزول العذاب وشموله لامرأة لوط (عليه السلام)
وتمنى النبي لوط (ع) أن تكون له جماعة أو عشيرة يأوي إليها في دفع هؤلاء الفسقة والتقوي بها عليهم فقال: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)[١٤]، وقد هدأت الملائكة من روعه وقالوا له: (يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ)[١٥] ويبدو من هذه الآية أن لوطا (ع) لم يكن يعلم بهم أنهم رسل الله من الملائكة. وقد أصاب امرأة لوط من العذاب ما أصابهم، ولم تشر الآيات إلى دورها في هذه المنكرات إلا أنها بصورة عامة لم تكن على منهج النبي لوط (ع) وذلك قوله سبحانه: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ)[١٦]. ولله سبحانه يمهل ولا يهمل وصبح الفرج بالنسبة إلى ليل الغيبة قريب كذلك جدا.
نزول العذاب الفظيع
وقد آن للعذاب أن ينزل بعد الإعذار والإمهال قال سبحانه: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ)[١٧] وهذا عذاب مميز لم نعهد في الأمم قبلهم من عذبه الله بأن يقلب مدينتهم رأسا على عقب، ويبدو أن هذه البقعة من الأرض أصبحت مغضوبة من قبل الله سبحانه.
وهكذا يمحو الله سبحانه أقواما من الوجود إذا غضب عليهم، فكم من دولة من دول الظلم والجور اندثرت كأن لم تغن بالأمس، وأصبحت أثرا بعد عين بعد أن حكموا الدنيا باسم الإسلام. وهذه سنة الله عز وجل في الظالمين إلى يوم القيامة، وهو إن يخسف ببعض هؤلاء خسفا ظاهريا يخسف بغيرهم خسفا تاريخيا كبني أمية الذين حكموا ما حكموا وأجرموا بحق أهل البيت (ع) وعلى رأسهم الحسين (ع) ولكن انتهى بهم المطاف في مزبلة التاريخ بعد سنوات قليلة حتى كان الرجل من بني أمية يتبرأ من نسبه صونا لدمه وماله.
[٢] سورة هود: ٦٩.
[٣] سورة هود: ٧٠.
[٤] سورة يوسف: ٩٤.
[٥] سورة هود: ٧١.
[٦] سورة هود: ٧٢.
[٧] سورة هود: ٧٣.
[٨] سورة هود: ٧٤.
[٩] سورة هود: ٧٥.
[١٠] سورة هود: ٧٦.
[١١] سورة هود: ٧٧.
[١٢] جمع أمرد: الشاب الذي لم تنبت لحيته. وصباح جمع صبيح وهو حسن الوجه الجميل.
[١٣] سورة هود: ٧٨
[١٤] سورة هود: ٨٠.
[١٥] سورة هود: ٨١.
[١٦] سورة هود: ٨١.
[١٧] سورة هود: ٨٢.
خلاصة المحاضرة
- عجبا لحلم الله على أهل هذا الزمان، ففي الأزمنة الغابرة، وفي زاوية من زوايا الأرض، وجدت طائفة تأتي الذكران دون النساء، بلا دعوة لباقي الأمـم، فعجل الله لهم العقوبة، ولكننا نرى اليوم من ينظر لهذا المنكر، وله دعاة، وأحزاب، وجماعات يتبجحون بذلك من دون أدنى درجة من درجات الخجل.
- وبعد أن علم إبراهيم (ع) مهمة الملائكة في إهلاك قوم لوط (ع) حاول أن يجادل الملائكة في إمهال هؤلاء الفسقة، (فَلما ذَهبَ عَن إِبراهيمَ الرَّوعُ وجَاءَتهُ البُشرى يُجادلُنا في قَومِ لوط)، ويا لغرابة هذا النبي ويا لسماحته وحنانه وإنسانيته حيث يجادل الملائكة حرصا على نجاة عباد الله.