- ThePlus Audio
من وحي النبي موسى (ع)
بسم الله الرحمن الرحيم
عناية الله عز وجل بالنبي موسى (عليه السلام) منذ نعومة أظفاره
يقول الله سبحانه في كتابه عن النبي موسى (ع): (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)[١]. وبلوغ الأشد لا يكون إلا عندما تشتد قوى الإنسان وهو في الغالب عند الثماني عشر. وإن كان هذا العمر في العرف ليس عمر النضوج وافهم والكمال الروحي إلا أنه سبحانه لا مانع من أن يختص بعض عباده بفضله وإن كان في عمر صغير جدا.
وهي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن الحكم والعلم هبة من الله سبحانه وفيض يفيضه على من يشاء من عباده ولكن ليس هذا الفيض اعتباطيا وإنما لا بد أن يكون المتلقي على مستوى يكون فيه مستحقا لهذه الهبة وهو قوله سبحانه: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).
صراع موسى (عليه السلام) وفرعون
وقد كان النبي موسى (ع) مؤهلا لتلقي الحكم والنبوة. ولعل الذي استحق به موسى هذه المنزلة والقرب الإلهي؛ صراعه العقائدي مع فرعون وهو في قصره. إذ يقال: أنه كان يقف أمام فرعون ويتكلم بوحدانية الله عز وجل. ولا ريب في أن هذا الحكم والعلم أوصلا موسى (ع) إلى وصل إليه..!
جريمة غير منتظرة..!
ثم يذكر لنا القرآن الكريم قصة موسى (ع) وقتله القبطي خطأ وهو من جماعة فرعون حيث قال: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا)[٢]. ويبدو أن دخول موسى (ع) المدينة كان في وقت خال من الحركة والناس في بيوتهم والأسواق معطلة والشوارع خالية من المارة كالظهيرة وأواسط الليل. وعند دخوله المدينة يرى نزاعا بين رجلين، قال تعالى: (فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ)[٣]، رجل إسرائيلي من منتسب إلى نبي الله يعقوب (ع) انتسابا يرتضيه موسى ويوافق توجهاته، ورجل قبطي من أزلام فرعون ومن أعوان الظلمة، (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ)[٤]؛ فعندما رأى النزاع، تدخل لنصرة الذي من شيعته، فدفعه بقبضة كفه فقتله، ولم يكن قاصداً قتله؛ لأن الآية لم تقل: فقتله، بل قالت: (فَقَضَى عَلَيْهِ)؛ أي أن القتل كان خطأ.
هل كان النبي موسى (ع) مخطئا في قتل القبطي؟
وهنا قال موسى (ع): (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ)[٥]. واختلف العلماء في هذه العبارة وهو قول موسى (ع): (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)؛ هل كان يشير إلى النزاع الذي وقع بين الإسرائيلي والقبطي؟ أم أنه يشير إلى أن هذه النتيجة التي وقعت من قتل الخطأ إنما هو عمل الشيطان في صناعة هذه الأجواء التي جعلت الرجلان يتنازعان في ساعة دخول موسى (ع) المدينة؟ ومهما يكن من أمر فإننا نعتقد بعصمة موسى (ع) وأن الفعل إنما وقع بعد أن آتاه الله الحكم والعلم. ولكن موسى (ع) في ورطة؛ فقد لجأ إلى الله سبحانه بإخراجه من ورطته تلك. والمؤمن قد يقع في بعض المآزق والورطات من حيث لا يريد وقد يورده الآخرون في ما لا يحمد عقباه وهنا لا بد من التأسي بموسى (ع) في سرعة اللجأ إلى الله والتوسل إليه.
وهنا توجه موسى (ع) إلى ربه وقال: (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ)[٦]. وقد عاهد ربه أن لا يكون عونا لمجرم سواء كان ذلك القبطي في هذه القضية أو فرعون بجبروته وطغيانه.
انتشار خبر قتل القبطي وعزم فرعون على التخلص من موسى (عليه السلام)
وقد أصبح موسى (ع) خائفا مشردا ومطلوبا للدولة وهو قوله سبحانه: (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ)[٧] وهو يعلم أن فرعون سينتصر للقبطي لا له فهم بالخروج وإذا به يتورط في قصة مشابهة أخرى. يقول تعالى: (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ * فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ)[٨]. وهنا كشف أمر موسى (ع) وأصبح مطالبا من قبل فرعون وأعوانه.
ولكن الله سبحانه لم يكن ليترك موسى (ع)؛ فقد جاء رجل يخبره بالمؤامرة التي تحاك له في قصر فرعون (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ)[٩]. ولذلك لم ير موسى (ع) بدا من الخروج ومغادرة المدينة (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[١٠]. ومن الطبيعي أن يلتجأ إلى الله موسى (ع) في هذه الحالة التي لا يعلم وجهته ولا يجد مأوى يحتويه.
تأسى بموسى (عليه السلام) في هذا الدعاء
ولذلك دعا بدعاء جميل ينبغي للمؤمنين في مثل حاله أن يدعو بمثل دعائه وما أكثرها الساعات التي لا نجد فيها ملجأ إلا الله سبحانه. فقال موسى (ع) بعد أن توجه تلقاء مدين: (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ)[١١]؛ يا رب أصبح في حيرة من أمري لا أعلم مصيري وتكليفي – ويبدو أنه لم يكن تزوج بعد فكان بحاجة إلى زوجة يشعر بالاستقرار إلى جانبها – وقد فوضت أموري كلها إليك.
الجانب الإنساني في حياة موسى (عليه السلام)
وبعد أن وصل إلى مدين واجه امرأتين تدفعان الغنم لكي لا يختلط بغنم الآخرين قال سبحانه: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ)[١٢] وهنا قام موسى (ع) بفعل إنساني وإحسان إليهما ولم ينأى بنفسه عن الاهتمام بشئون الآخرين وهو يجد امرأتين تزاحمان الرجال وترعى الغنم وهذا ليس من شأنهما.
فتقدم نحوهما وسألهما عن شأنهما (قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)[١٣] ويتبين من هذه الآية: أن على المرأة إذا اضطرت أن تقوم بمهام الرجال أن تراعي القواعد الشرعية، من عدم إزالة الحُجُب بينها وبين الرجال. ثم قالتا: (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) لدفع الإشكال عن قيامهما بأعمال يفترض أن يقوم بها الرجال لا النساء؛ فبادرتا لدفع هذا التوهم بالقول: أن الذي دعانا إلى ذلك كِبرُ سن أبينا.
دعاء آخر لموسى (عليه السلام)
ثم تقول الآية الشريفة: (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)[١٤]. وهنا درسٌ بليغ، حيث أن المؤمن عندما يقوم بعمل صالح، يحرز به رضا ربه إلى درجة من الدرجات؛ فمن المناسب أن يستغل ذلك الموقف، ويدعو ربه فإن أبواب السماء تفتح في مثل هذه الحالات. وأبواب السماء تفتح في أزمنة معينة: كساعة الزوال، ويوم الجمعة، وفي أمكنة معينة: حول البيت، وفي أرض عرفة، وفي حالات كمثل هذه الحالة، وهي قضاء حاجة مؤمن، وعيادة مريض، وتشييع ميت مؤمن.
ويقول البعض: بأن سبب دعائه في الظل؛ أن الإنسان يحتاج إلى جو مريح، فلا بأس بأن يتخذ الإنسان لنفسه جواً مريحاً؛ لأن خلوة المكان، والظل وبرودته من موجبات الإقبال. ولذلك لا يرى البعض بأسا في أن يرتاح الحاج في موسم الحج بما يعينه على الطاعة.
أثر دعاء النبي موسى (عليه السلام)
ثم يقول سبحانه: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا)[١٥]. وهنا نرى تصرف رب العالمين في القلوب كيف قضى جميع حوائج موسى (ع) من قبيل المسكن والزوجة الصالحة وأنيس على مستوى النبوة في حركة واحدة؛ فيتصرّف في قلب شعيب رغم أن شعيب لم ير موسى إلى الآن ولكن يبدو أنه أُعجب به من خلال وصف بناته له. وإذا به بين عشية وضحاها، يتحول من إنسان لاجىء، إلى إنسان آمن، ومن شاب أعزب إلى شاب متزوج ومصاهر لنبي من أنبياء الله، ومن رجلٍ خائف يترقب، إلى من يأنس بنبي كبير، وشيخ كبير، وهو شعيب، بما له من التجارب في هذه الحياة. فاستقر موسى (ع) بعد أن قام بهذا العمل الصالح وبذلك الدعاء.
القوة والأمانة صفتان لكل مسؤول
ثم تذكر الآية الشريفة عن لسان إحداهما الصفات التي لا بد أن تكون في العامل أو الموظف أو الوزير أو الحاكم أو كل من يتصدى لمسئولية وهو قوله سبحانه: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)[١٦]. وهاتان الصفتان هما القوة والأمانة؛ فينبغي للذي يريد أن يسقي الغنم، أو أن يزرع أن يكون قويا وينبغي له أن يكون أمينا على ما تحت يده.
شعيب وموسى (عليهما السلام) والمعاملة النافعة للطرفين
وغالبا ما يظلم صاحب العمل أو المؤجر العمال والمستأجرين بالتعدي على حقوقهم ولذلك أكد شعيب للنبي موسى (ع) أنه خدمته لهم إنما هو مهر ابنته ليس إلا ولا يريد أن يظلمه في ذلك (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)[١٧]. وقال له: تأكد من أنك تعامل رجل صالح لا مجال للظلم في معاملته. وفي الحقيقة إذا كانت المعاملة مع الصالحين فليس ثمة خوف عليك ولا حزن.
كم نحن بحاجة إلى هذه الكلمة..!
ثم يختمان معاملتهما وحوارهما بكلمة ليتها تتصدر جميع عقود البيع والشراء والإجارة والمضاربة وما شابهها من معاملات تتم بين المسلمين وهو قوله سبحانه: (وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ)[١٨]. فلو حكمنا هذا المبدأ في أسواقنا ومعاملاتنا؛ لما بقي ظلم في حياتنا الاقتصادية وغير ذلك.
[٢] سورة القصص: ١٥.
[٣] سورة القصص: ١٥.
[٤] سورة القصص: ١٥.
[٥] سورة القصص: ١٥.
[٦] سورة القصص: ١٦-١٧.
[٧] سورة القصص: ١٨.
[٨] سورة القصص: ١٩-١٨.
[٩] سورة القصص: ٢٠.
[١٠] سورة القصص: ٢١.
[١١] سورة القصص: ٢٢.
[١٢] سورة القصص: ٢٣.
[١٣] سورة القصص: ٢٣.
[١٤] سورة القصص: ٢٤.
[١٥] سورة القصص: ٢٥.
[١٦] سورة القصص: ٢٦.
[١٧] سورة القصص: ٢٧.
[١٨] سورة القصص: ٢٨.
خلاصة المحاضرة
- لقد عانى موسى ع كثيرا من أجل إنقاذ بني إسرائيل من براثن الجور الفرعوني فواجه طاغية من أعتى الطغاة وصبر على ظلم شعبه ثم خرج من مصر خائفا بعد قتله القبطي حتى وصل إلى مدين وما كان منه إلا دعاء واحد أعقبه بعد الخوف أمنا وبعد التشريد سكنا وزوجة قال: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير.
- في ختام الحوار الذي دار بين موسى وشعيب والمعاملة التي تمت بينهما قالا: (والله عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) وليت هذه الكلمة تتصدر جميع عقود البيع والشراء والإجارة والمضاربة وسائر معاملات المسلمين فلو حكمنا هذا المبدأ في أسواقنا ومعاملاتنا لما بقي ظلم في حياتنا الاقتصادية وغير ذلك.