- ThePlus Audio
من قواعد البحث والمناظرة
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أصبح عصرنا هذا بفضل التقدم التكنولوجي في مجال وسائل التواصل وفي مجال الإعلام؛ من قبيل الإنترنت والقنوات الفضائية ومنصات التواصل الاجتماعي عصر حوار الحضارات وفي الوقت نفسه عصر صراع الحضارات..! حيث لم يبقى للمدارس الفكرية والدينية المختلفة سرا خافيا وقد أتيح للجميع أن يدخلوا في النقاش والبحث حول متبنياتها. وفي خضم هذه المناظرات الثقافية والدينية؛ نرى من الضرورى جدا وضع قواعد علمية وعملية؛ ليكون أي حوار ثقافي حوارا بناء له أهدافه وآدابه؛ بعيدا عن الجدال الفارغ المضيع للوقت والجهد.
أصناف المجادلين في القرآن الكريم
إن القرآن الكريم قد بين لنا أصناف المجادلين وأخبر عن صفاتهم. فهناك المجادلون بغير علم وعن جهل والذين يتبعون الآباء اتباعا أعمى ويتبعون شياطين الإنس والجن، وهو قوله سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ)[١]. وهناك المجادلون عن كبر وتعال على الآخرين، وذلك قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۙ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ)[٢]. وهناك المجادلون لأهداف مقدسة وهي الدعوة إلى الله عز وجل وذلك قوله سبحانه: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[٣].
التخصص في الحوار
إن أول قواعد الحوار السليم والهادف هو: التخصص في موضوع الحوار. فمن المؤسف حقا أنه في الوقت الذي يحترم فيه جميع العقلاء المتخصصون فى الطب والهندسة وغير ذلك من فروع المعرفة؛ فإننا نرى فى المقابل أن الكثيرين مستعدون للإدلاء بدلوهم في أمور الدين من دون سلطان مبين! فنرى تارة صحفيا يتكلم في الشريعة، أو شخصا لا يتقن العربية أو فهم ظواهر الكلمات الواردة فى الدين، إلا أنه يأول الآيات والروايات ويستخرج منها الأحكام ويتحدث باسم القرآن والرسول (ص). بينما نرى علماء الدين يبذلون جهود كبيرة لسنوات طويلة، لفهم ما ورد في سنة النبي وآله (ع)، وتقسيمها إلى صحيح وحسن وموثق ومرسل ومسند؛ كل ذلك خوفا من الوقوع فى الظن الذى لا يغني من الحق شيئا .ومع ذلك؛ يحتاطون أشد الاحتياط في صدور الفتوى والجزم بمقاصد الشريعة.
التخصص في أمور الدين والشريعة
ومما يؤكد الحاجة إلى التخصص؛ وجود الكم الكبير من المصطلحات الهلامية التي توجد بوفور في أسواق الفكر هذه الأيام. وهي مصطلحات تم استغلالها نظرا لعدم وضوح معانيها وتحديد مداليلها بدقة منها: الحرية والديمقراطية والشورى، وحرية المرأة، والانفتاح على الآخرين، والتقليد، والتحديث، والعولمة وغير ذلك. ومن الواضح أن هذه المفاهيم تتوقف عليها مواقف عملية؛ تغير مجرى حياة الفرد والأمة سلبا أو إيجابا.
الخروج من أسر الأنا
إن من أساسيات الحوار؛ نفي الأنوية وحب الإفحام والغلبة الفكرية. وهي من أصعب الأمور على المحاور الذي لم يخرج من أسر الأنا ويحب أن يخرج بمظهر المنتصر في كل حوار ولو كان ذلك على حساب الحقيقة وتجليها. وقد قيل: إن آخر ما يخرج من قلوب الصديقين حب الرئاسة! وبالتأكيد إن المحاور والمناقش المثالي هو الذي يعترف بالهزيمة الفكرية أمام خصمه بعد إتمام الحجة عليه؛ قبل الوقوف أمام الرب في محكمته ومحاجته.
حب الجدال أو البحث عن الحقيقة؟!
ومن قواعد الحوار؛ اجتناب الحوار مع يريد الحوار لأجل الحوار والجدال الفارغ لا لأجل الوصول إلى الحقيقة وتجليها. فترى هؤلاء يخوضون في كل ما هب ودب، وليس لهم هم إلا السمعة والشهرة. وشتان بين هؤلاء وبين قضوا أعمارهم بحثا عن الحقيقة حتى وصلوا إليها؛ كسلمان المحمدي الذي قضى شطرا كبيرا من حياته وهو يتقلب في البلدان ويتنقل في الأمصار حتى وصل إلى مصدر العلم ومنبعه؛ فنهل من نمير الوحي حتى عُد من أهل البيت (ع).
ثبت العرش ثم انقش..!
ومن القواعد: الابتعاد عن النقاش في الفروع، قبل تثبيت الأصول. فلا بد من التركيز على القواسم المشتركة، ليكون النقاش مبنيا على أساس علمى ومنطقي سليم. فهل من المعقول أن نقنع المنكر لوجود الله تعالى بعدالته مثلا؟ أو نقنع المنكر لنبوة النبي الخاتم (ص) بعصمته مثلا؟ أو نقنع المنكر لمبدأ الإمامة واستمرارية التشريع من خلالها، بفروع المذهب الثابتة من خلال كلمات أئمة الهدى (ع)، كالتقية والتبرك بالمراقد المقدسة والزواج المؤقت، وغير ذلك من التفريعات الفقهية؟
ومن القواعد المهمة: التحبب إلى الطرف الآخر، واحترامه، وملاطفته؛ خصوصا إذا كان من المستضعفين الذين ليس لهم غرض مشبوه من وراء النقاش. فالمناظر الناجح هو الذي يتكلم بثقة واطمئنان بما يعتقد به، ملتزما حدود الأدب، متورعا عن أسلوب التجريح والسباب والغوغائية؛ إذ أنه بذلك يدخل فى قلب الطرف المقابل، ليكون ذلك مقدمة لإدخال الفكرة إلى ذهنه.
في الوقت الذي نهى فيه أئمة أهل البيت (ع) عن الجدال مع الخصوم بغير أدلة دامغة – لأن ذلك يزيد من عداوتهم وتعصبهم – فإنهم فى الوقت نفسه يفرحون بوجود طبقة مثقفة متفقهة فى الدين؛ تعرف ما هو مطروح في الساحة من أفكار وشبهات، وتستطيع أن تتصدى لها بكل جدارة وحرفية؛ إعزازا لكلمة الحق فى عصر عاد فيه الدين غريبا؛ كأمثال هشام بن الحكم وبن الطيار الذين نالا أكبر الثناء من الإمام الصادق (ع). أفلا يحسن بنا – ونحن ننتمي إلى مدرستهم التي تمثل أقوى تيار فكري متماسك ومتوازن فى تاريخ الإسلام – أن نكون من محاورين الأشداء في الدفاع عنهم وعن مبادئهم؟
خلاصة المحاضرة
- إن أول قواعد الحوار السليم والهادف هو: التخصص في موضوع الحوار. فمن المؤسف حقا أنه في الوقت الذي يحترم فيه جميع العقلاء المتخصصون فى الطب والهندسة وغير ذلك من فروع المعرفة؛ فإننا نرى فى المقابل أن الكثيرين مستعدون للإدلاء بدلوهم في أمور الدين من دون سلطان مبين.
- في الوقت الذي نهى فيه أئمة أهل البيت (ع) عن الجدال مع الخصوم بغير أدلة دامغة – لأن ذلك يزيد من عداوتهم وتعصبهم – فإنهم فى الوقت نفسه يفرحون بوجود طبقة مثقفة متفقهة فى الدين؛ تعرف ما هو مطروح في الساحة من أفكار وشبهات، وتستطيع أن تتصدى لها بكل جدارة وحرفية.