- ThePlus Audio
من شروط الدعاء والداعين
بسم الله الرحمن الرحيم
سيرة أمير المؤمنين (ع) في الدعاء
عندما نراجع حياة الإمام علي (ع) الشريفة بدءاً من ولادته في الكعبة، وانتهاء باستشهاده في مسجد الكوفة، نلاحظ وجود ارتباط وثيق بينه وبين الدعاء. كان أنس أمير المؤمنين (ع) وراحته بالدعاء. وكان يستمد قوته من الدعاء بين يدي الله عزوجل، وما وصل إلينا من دعاء أمير المؤمنين (ع) كما رواه كميل، أو دعاء الصباح، أو غيرها من الأدعية التي جمعت في كتاب الصحيفة العلوية المطبوعة هذه الأيام؛ إنما تعكس جزءا من تراث علي (ع) في حديثه مع الله سبحانه وتعالى. وسر عظمة الإمام علي (ع) في أنه حول الدعاء إلى عنصر فعَّال في الحياة، فالدعاء المبتور الذي لا يرتبط بحركة الحياة، ما هو إلا رهبانية قام بها النصارى في أديرتهم، وجاء النبي (ص) ليُعلن بفعله أن: (لاَ رَهْبَانِيَّةَ فِي اَلْإِسْلاَمِ)[١].
الدعاء إلى جانب العمل والجهاد
الداعي هو بمثابة مُقاتل في ميدان القتال يقاتل ويحمل بيده سلاحا وبالأخرى جهازا يتصل من خلاله بالقيادة لتلقي الأوامر ولمعرفة الوجهة التي ينبغي التوجه إليها. الدعاء في حياة المؤمن بمثابة ذلك الجهاز الذي يوجه المؤمن في الحياة. والذي لا يُقاتل ولا يُجاهد، ما قيمة دعائه الذي يتحول إلى أنين في جوف الليل من دون أن ينعكس إلى سلوك في النهار. بل رهبان في الليل، وليوث في النهار هذه صفة أصحاب الإمام المهدي (ع) .
سلبيات الدعاء أم الداعين؟!
إن العادة هي التحدث عن إيجابيات الدعاء ولكننا سوف نتحدث عن سلبيات الدعاء وهي مجموعة من السلبيات يمكن حصرها في هذه النقاط التسعة. وقد يسأل السائل هل للدعاء من سلبيات؟ ونقول: ليس للدعاء أي جانب سلبي وإنما تأتي السلبية من كيفية تعاملنا مع الدعاء.
النقطة الأولى: اتخاذ الدعاء أداة لتفريج الهموم، فهناك الكثير من الناس خصوصا النساء يعتبرون الدعاء وسيلة من وسائل تفريج الهم لا وسيلة من وسائل التربية. فلا يذهب إلى المسجد أو إلى مساجد الذكر إلا عندما يعتريه هم أو غم أو تعرض له حاجة؛ فإذا قضيت أعرض عن المساجد والمآتم. ولا ريب في أن الدعاء يفرج الكرب وهو أثر من آثاره المطلوبة، ولكن اعتبار الدعاء لأجل هذا الهدف بالذات سلبية من هذه السلبيات. فعلى سبيل المثال: لو أن إنسانا يتصل بك يوميا، ويأتي إلى بيتك، ويُتحفك بالهدايا القيمة، ويتواصل معك في أثناء ذلك، ولكنك تعلم ما في قرارة نفسه، وأنه لا يفعل ذلك إلا طمعا في مالك أو جاهك، أو يبحث عن وساطة من خلالك، هل تُقربه إليك وتتخذه خليلا؟ هل سترد إحسانه بالإحسان؟ أم أنك تنظر إليه على أنه إنسان نفعي لا يُريد منك إلا المال وقضاء الأوطار[٢]؟
النقطة الثانية: الاسترخاء بعد الدعاء. فيلاحظ أن البعض للأسف الشديد بعد ليالي القدر أو بعد الحج والعمرة يشعر بالاسترخاء وكأنه أصبح من المقربين وممن تربطهم بالله علاقة متينة ومتميزة وهذا أمر خطير بالنسبة للمؤمن أن يركن إلى بعض الحسنات والحال أن المؤمن خائف وجل دائما. وقد يكون أنين المذنبين أحب إلى الله عز وجل من تسبيح المسبحين؛ إذ أن المذنب يشعر بحالة من الانكسار ويعترف بين يدي الله عز وجل بحقارته وصغره وعظيم جرمه بخلاف الذي قد يصيبه العجب من عباداته وأوراده وأذكاره. وقد يكون هذا الاسترخاء وهذا الشعور بأن الصحائف قد أصبحت بيضاء مما يجرئ الشيطان عليه ويدعوه إلى ارتكاب المعاصي ويزين له ذلك بأنك قد خرجت من الذنوب للتو فما تضرك معصية صغيرة لو ارتكبتها؟ ثم تحدث كل معصية نكتة سوداء في القلب ثم تتوالى المعاصي حتى يعم السواد جميع القلب.
وقد رأينا بعض النماذج الواقعية لهذه الحالة وهي أن بعض الحجاج لمجرد انتهاء موسم الحج في اليوم الثاني عشر أو الثالث عشر من شهر ذي الحجة قد انقلب رأسا على عقب، وهو في مطار جِدَّة، وقبل أن يصل إلى وطنه، يتغير سلوكه، وكأنه يريد أن يودع الكعبة وصاحبها..! وهنا مكمن الشيطان. وقد يشعر الإنسان برقة في مجلس حسيني أو مجلس من مجالس الذكر والموعظة ثم يعصي الله عز وجل بعد ذلك ولا يقدر هذه النعمة التي منحها الله إياه. ثم يوفق مرة أخرى في مجلس آخر لهذه الرقة والخشوع ثم يعصي الله عز وجل كذلك كافرا لهذه النعمة إلى أن يغلق عليه الباب وتتعذر عليه الرقة ويهجره الخشوع. ثم يشعر بالحسرة ويتذكر أيامه الماضية حيث كانت تأتيه الرقة وقد حرم منها الآن ولكن بعد فوات الأوان. وجل جناب الحق أن يكون شريعة لكل وارد. فقد منحك هذا الإقبال ليرى فيك الصدق والإخلاص، ولكنك أذنبت بعد ذلك، فيقول سبحانه: اذهب واسه مع الساهين، ولا تتمنى أن تكون من خواص عبادي مرة أخرى، وأنت الخؤون بعد كل عهد.
النقطة الثالثة: الإحساس بالتفوق والتغيير الكاذب، وهذه السلبية تقصم الظهر. فقد يشعر المؤمن بالتغيير والتحسن والحال أنه لم يتغير فيه ولا في سلوكه شيء سوى بضع قطرات من الدمع أو صرخة أو اثنتين من خشية الله عز وجل. وهي وإن كانت تدل على بداية تغيير وعلامة قبول إلا أنها تحتاج إلى استمرار ومجاهدة. ويقال: أن الذنب بعد الذنب علامة الخذلان، والطاعة بعد الذنب علامة التوبة، والذنب بعد الطاعة علامة الرد، والطاعة بعد الطاعة علامة القبول.
فلا ينعجب المؤمن ولا يفرح بمجرد صلاة أو قراءة قرآن أو دعاء أو إقبال؛ إذ أن الفلاح لا يفرح بنزول المطر إلا بعد تهيئة الأرض من زرع البذور والحراثة وغير ذلك. والذي لا عمل له، ولا قوام لشخصيته، ولا برنامج له في حياته؛ عليه ألا يفرح بهذه الإقبالات الكاذبة.
ويلاحظ أيضا في المشاهد المشرفة، وفي الحج والعمرة ، وجود من يعيش حالة من التفوق على العباد. ولهذا نلاحظ أن بعض الدعاة وبعض المؤمنين يزداد إيمانا فيزداد سوء خُلقٍ مع أهله، وعندما كان عاصيا كان على خُلق عال وبشوشا مع المؤمنين وغيرهم، وبمجرد أن دخل حقل الشريعة، وتخصص في بعض العبادات والأعمال، وفتحت له أبواب التوفيق والإقبال؛ تكبر وترفع على الناس وحكم عليهم حكما باطلا.
ومن الأمور المهلكة أيضا بعض الصور الكاذبة التي يراها الناس في مناماتهم خصوصا العصاة منهم. فترى العاصي يرى معصوما يُسلم عليه في المنام، وقد يبارك له، وقد يتكلم معه، فيظن أنه قد اجتاز أهوال القيامة وتجاوز عقباتها، والحال أن الاعتماد على هذه الحالات وعلى المنامات – إن صحَّت – لا تجعل الإنسان يشعر بحالة من التفوق الكاذب على العباد. والبعض يسأل: هل قُبل توسلي ليلة القدر؟ وهو ينتظر مناما أو وحيا أو كشفا يبين له يطلعه على قبول عمله. بالطبع لا يحصل ذلك؛ انظر إلى سلوكك هل تغير عن الأمس؟ إذا كنت اليوم تعيش حالة من الشفافية الروحية وحالة من القرب والخفة فلا بد أن تختلف صلاتك عن الأمس فإذا كانت كذلك فاعلم أن ليلة القدر قد قبلت وإلا فلا.
النقطة الرابعة: البحث عن اللذة الروحية. فالبعض يبحث عن اللذة الروحية في الدعاء كما يبحث غيره عن اللذة المادية في المتع المادية، ويُقال في اصطلاح أهل العرفان والأخلاق البحث عن حظوظ النفس. فهو يتلذذ بالدعاء من دون أن يبحث عن شيء آخر ما وراء الدعاء، فإذا دعا ولم يخشع ولم يتلذذ يرى أن هذا الدعاء دعاءً باطلا. على المؤمن يكون في هيئة الخاشعين ويدعو الله عز وجل تلذذ بذلك أم يتلذذ. فهل إذا قام لصلاة الليل ثم لم يرزق الخشوع هل سيدعها؟ لا بد من الاستمرار في العبادات في جميع الحالات. قد يزور المؤمن الحرم الشريف ثم لايرى إقبالا في الزيارة فلا يزور مرة أخرى، أو في زيارة إلى بيت الله الحرام لا يرقَّ قلبه، فينوي أن لا يعيدها. والحال أن الإقبال واللذة والاستئناس بالدعاء ليست من الأمور التي يبحث عنها المؤمن لذاتها، المهم أن يكون في هيئة الداعين ويمتثل أوامر رب العالمين.
يقول سبحانه: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ)[٣] وهي من الآيات الغريبة في القرآن الكريم وكأنها تقول: يا بني آدم ما أنتم ورب الأرباب؟ ما هو وزنكم بين يدي الله عزوجل لو لا التفضل الإلهي عليكم؟ هب أنك أمير على الناس أو سلطان من السلاطين ف هل هناك سلطان عند الله عزوجل؟ وهل هذه الأسماء التي يسميها البشر ويتداولونها بينهم مما تعطي ترفع من مقام الإنسان عند الله عز وجل؟ أليست هي أول ما يزول عنه عند موته؟ وإنما الدعاء هو الوسيلة التي جعلها الله لك ليرفع من مقامك وتكون أهل لمخاطبته، ويُخرجُك من عالم الأرض إلى عالم السماء
النقطة الخامسة: أن يكون الدعاء عوضا عن العمل والتدبر والتفكير. فقد يلتزم الإنسان لتيسير الرزق بقراءة سورة الواقعة كل ليلة، ويبقى مستيقظا بين الطلوعين، ويلتزم ببعض الأختام المأثورة وغير المأثورة ولكنها لا تُغني عن العمل والتدبر والتفكير في أمر المعيشة. بل لا بد من التخطيط والسعي الحثيث والجاد لإيجاد فرصة عمل ثم بعد ذلك يفوض الإنسان أمره إلى الله عز وجل.
النقطة السادسة: الدعاء الفصلي أو المرحلي. وهو أن تكون للإنسان حاجة ملحة كالشاب المغرم بفتاة، يدعو الله عز وجل ويُقبل على الصلاة والعبادة والقيام والتهجد والنذر والعهد والقسَم وما شابه ذلك، فإذا قُضِيت الحاجة ترك كل شيءٍ ، وعاد إلى ما كان عليه.
والدعاء بهذه الصورة هو سوء أدب مع رب العالمين. وكأن الإنسان يقول لله عز وجل بلسان الحال: أعبدك لتقضي لي حاجتي، فإذا أعطيتنيها فلا شأن لي معك بعدها. ولو قالها بلسان النقال لخرج إلى الكفر والارتداد. وإذا قضى الله للمؤمن حاجته ثم أعرض حتى يقع في البئر مرة أخرى ثم يقبل لطلب الحاجة فيقال له: أتتخذنا هزوا؟ وقد يطلب الإنسان حاجة من ربه فيؤخرها لتأخيرها الصلاة والتهاون بها. يقول المؤذن: حي الفلاح حي على خير العمل فلا يتزحزح من أمام التلفاز ولا يدع الصحيفة التي يقرأها جانبا ولا يوقف عمل من أعماله استعجالا بالصلاة فإذا ما جاء ربه في حاجة وقال له يا رب: حي على العلاج حي على قضاء حاجتي فيأتيه النداء هذه بتلك. بل المؤمن يطيع ربه ويقبل عليه في جميع الحالات فإذا وقع في معضلة فسرعان ما تنتشله الملائكة.
وينقل قصة ولي صالح طلب من الله سبحانه أمرا فيه خرق للعادة ولقوانين الطبيعة فاستجاب الله له فتعجب الحاضرون من فعله وقالوا له هل أنت وصي أم نبي أم ماذا؟ فقال: بل أنا رجل عادي أطعت الله دهرا واستجبت له دهري وقد استجاب لي مرة واحدة..!
النقطة السابعة: التعود على أجواء خاصة. فالبعض لا يسبح إلا بسُبحة خاصة، فإذا فقد تلك السُبحة توقف عن التسبيح، أو لا بد وأن يصلي في زاوية خاصة في المنزل، إذا لم يصل في تلك الزاوية لايخشع، ولابد وأن يدعو في مسجدٍ معين وخلف إمام معين وفي جوٍّ معين وهذه عادات لا تجمل بالمؤمن. تحرر من جميع القيود واذكر الله في جميع الأحوال. وقد سمعت عمن يخشع في حمام منزله عندما يرى الماء الحار يتذكر الجحيم والحمام يذكره بالمغتسل..! هي خلوة لا يراقبه فيها أحد خاصة وإن كان منزله صغيرا لا مجال للخوة فيه مع الله عز وجل.
فالدعاء حسن في كل حال هادئ البال كنت أو مغضبا، في مصيبة كنت أو في رخاء، في منزلك كنت أو في المسجد وهلم جرا. وما أجدر بالذي أُثير غضبه ويعيش الغليان والغيظ، وحب الانتقام أن يتوضأ ويُصلي ركعتين ويقول: (يارب علمك بحالي يُغني عن سؤالي)، وهذا الدعاء من الأدعية سريعة الأثر، أو يقول: (يارب قد تعلم ما أنا فيه، ففرج عني ما أنا فيه) كلمتان ولكنهما برقية مستعجلة إلى عالم العرش.
النقطة الثامنة: تحول الدعاء من حركة قلبية إلى لقلقة لسانية. فتراه ينظر إلى البرنامج التلفزيوني، ولعله محرم وبيده السُّبحة، فيُكمل زيارة عاشوراء وهو ينظر يمينا وشمالا للحلال والحرام أو يحك رأسه أو يعبث بلحيته أو يعمل ما يعمل وهو يكمل أذكاره وأوراده وأدعيته. وهي وإن كانت خيرا من العدم إلا أنها لا يصدق عليها الدعاء الحقيقي. وخاصة إذا كان لديه ورد يلتزم به لنذر أو لغيره كزيارة عاشوراء لمدة سنة كاملة فتراه يقرأ هذه الزيارة بتثاقل.
النقطة التاسعة: الدعاء بالأدعية الغريبة. فقد يدعو البعض بأدعية فيها الكثير من المضامين الغريبة والكلمات الغامضة والركيكة ويترك الأدعية القرآنية والأدعية المأثورة عن أهل البيت (ع) كدعاء الصباح، ودعاء كميل، ودعاء أبي حمزة الثمالي، وأدعية الصحيفة السجادية، والمناجاة الخمسة عشر.
هاشتاغ
خلاصة المحاضرة
- الداعي هو بمثابة مُقاتل في ميدان الحرب يحمل بإحدى يديه سلاحا وبالأخرى جهازا يتصل من خلاله بالقيادة لتلقي الأوامر ولمعرفة الاتجاهات. والذي لا يُقاتل ولا يُجاهد، ما قيمة دعائه الذي يتحول إلى أنين في جوف الليل من دون أن ينعكس إلى سلوك في النهار؟
- فقد يشعر المؤمن بالتغيير والتحسن والحال أنه لم يتغير فيه ولا في سلوكه شيء سوى بضع قطرات من الدمع أو صرخة أو اثنتين من خشية الله عز وجل. وهي وإن كانت تدل على بداية تغيير وعلامة قبول إلا أنها تحتاج إلى استمرار ومجاهدة.
- قد يدعو البعض بأدعية فيها الكثير من المضامين الغريبة والكلمات الغامضة والركيكة ويترك الأدعية القرآنية والأدعية المأثورة عن أهل البيت (ع) كدعاء الصباح، ودعاء كميل، ودعاء أبي حمزة الثمالي، وأدعية الصحيفة السجادية، والمناجاة الخمسة عشر.
- من المؤمنين من لا يسبح إلا بسُبحة خاصة، فإذا فقد تلك السُبحة توقف عن التسبيح، أو لا بد وأن يصلي في زاوية خاصة في المنزل، إذا لم يصل في تلك الزاوية لايخشع، ولابد وأن يدعو في مسجد معين وخلف إمام معين وهذه عادات لا تجمل بالمؤمن. تحرر من جميع القيود واذكر الله في جميع الأحوال.