- ThePlus Audio
من سجين مطلوب إلى حاكم مرغوب؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
من الذي قال: (وَمَآ أُبَرِّئُ نَفۡسِيٓ)؛ يوسف (عليه السلام) أم زليخا؟
من الآيات التي اختلف في تحديد قائلها المفسرون، ما ورد في سورة يوسف (ع): (وَمَآ أُبَرِّئُ نَفۡسِيٓۚ إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوٓءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّيٓۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورࣱ رَّحِيمࣱ)[١]. ويبدو على الظاهر من سياق الآية، أنها كلمات يوسف (ع)، قالهن في مواجهة زليخا وظهور الحقيقة أمام الملك والناس ببراءته. وهو لا يبرئ نفسه، لأنه لو لم يرى برهان ربه لهم بها، وأن البرهان الإلهي هو الذي أوجب له العصمة وحفظه من كيدها.
وهنا بحث بين العلماء، وهو أنه: ماذا لو أعطيت هذه العصمة لكل أحد؟ ألم يكن شأنه شأن يوسف (ع)؟ وهنا لابد من الإشارة إلى أن العصمة لا تعطى إلا لأهلها كما أن الإمامة لا تعطى للظالمين، وقد بين ذلك سبحانه في قوله: (لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّـٰلِمِينَ)[٢]. فالعصمة لا تعطى إلا لأهلها بعد اجتياز الامتحانات، والله يجتبي من رسله من يشاء بعد التمحيص والاختبار. ولم يكن يريد يوسف (ع) من ذلك أن يمدح نفسه ولذا قال بعد ذلك: (وَمَآ أُبَرِّئُ نَفۡسِيٓ) ليوازن بين الكلمتين. وأولياء الله عز وجل هم بين الخوف والرجاء. وهو يشير إلى طبيعة النفس الإنسانية أنها أمارة بالسوء إلا ما رحم الله. وقد نسب البعض هذه الكلمات إلى زليخا وهي كلمات لا تناسب مقامها وإن كانت قد تابت واعترفت بتقصيرها، وهي أنسب بيوسف (ع) منها.
من سجين إلى حاكم في الأرض
ولابد أن نتأمل هنا التدبير الإلهي في كيفية جعل من كان سجينا قبل سويعات إلى من مالك خزائن الأرض. فبعد تأويل الرؤيا من قبل يوسف (ع)، طلبه الملك فقال: (ٱئۡتُونِي بِهِۦٓ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِي)[٣]؛ أي أجعله من خواصي، وقد ورد ما يشبه هذا التعبير بالنسبة إلى اصطفاء موسى (ع) وذلك قول الله عز وجل: (وَٱصۡطَنَعۡتُكَ لِنَفۡسِي)[٤]. ثم تقول الآية: (فَلَمَّا كَلَّمَهُۥ قَالَ إِنَّكَ ٱلۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا مَكِينٌ أَمِينࣱ)[٥]. أي ستكون صاحب مكانة كبيرة ومنزلة عظيمة. ولكن ماذا دار بينهما؟ فكلمه تدل على حوار قد تم بينهما لم تذكر الآية لنا تفاصيله كما لم يفصل لنا ما دار بين النبي (ص) ورب العزة في العرش، فقال: (فَأَوۡحَىٰٓ إِلَىٰ عَبۡدِهِۦ مَآ أَوۡحَىٰ)[٦]. ولما رأى يوسف (ع) إقبال الملك، قال: (ٱجۡعَلۡنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمࣱ)[٧].
وهنا لابد من الالتفات إلى أن الملك لا يبدو من كلامه أنه أصبح مؤمنا موحدا وأنه لا يزال على ملة قومه. ولكن عندما رأى يوسف (ع) مصلحة العباد والبلاد في أن يتولى هو أمر الخزائن ويعبر بهذا البلد وهذا الشعب سنوات المجاعة والقحط، لم يتوانى عن ذلك ولم ينظر إلى دينهم وإنما نظر إلى حاجتهم وجوعهم. إنه نبي من أنبياء الله العظام ومن المخلصين والصديقين وإلى آخر ذلك من الصفات والخصوصيات التي امتاز بها، ولكنه قد قبل أن يكون في حكومة ملك غير موحد من أجل إنقاذ العباد من الجوع ومن القحط والجدب. وفي هذا الموقف اليوسف (ع)ي درس بليغ للإنسانية جمعاء، وهذا كمال الرقة والإنسانية التي نجدها في أنبياء الله عموما.
يوسف (ع) (عليه السلام) يريد خزائن الأرض؟!
وعندما قال: اجعلني على خزائن الأرض، فيعني الخزائن بما فيها من النقود والجواهر، لا ما يتعلق بالمحاصيل الزراعية فحسب. وقال البعض: ما ليوسف (ع) والجواهر؟! إنه يريد ما يتعلق بصلاحيتها وهمه وهو إنقاذ الناس من المجاعة ولذلك كان يقصد بالخزائن هزائن القمح لا شيئا آخر. مهنتي في حدود صلاحيتي ولهذا البعض يقول ليس المراد الخزائن الجواهر ما ليوسف (ع) والجواهر، يقول اجعلني على خزائن القمح والحنطة والى آخره
ومن الصفات التي ذكرها يوسف (ع) لتولي هذه المسئولية؛ أن يكون حفيظا وهي المبالغة في الحفظ وأن يكون عليما ونصطلح على ذلك اليوم بالخبرة في العمل. فلو أننا اخترنا الأمراء والوزراء والموظفين وكل مسئول بهذين الشرطين، لكانت الأمور على ألف خير ولتطورت البلاد وانتعش العباد.
هو المدبر أم أنت؟
ثم يقول سبحانه: (وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيوسف (ع) فِي ٱلۡأَرۡضِ يَتَبَوَّأُ مِنۡهَا حَيۡثُ يَشَآءُ)[٨]؛ أي جعلنا له مكاناً ثابتاً، وهو متمكناً فيها بعد أن كان مشرداً. فقد كان يوما في الجب ويوم في قصر زليخا ومن القصر إلى السجن إلى أن أصبح له مكانا ثابتا في أرض مصر، بل أصبح عزيزا فيها. فكان في السجن ينتقل من زنزانة إلى أخرى وهو اليوم يتبوء من أرض مصر حيث يشاء. وهكذا هو دأب رب العالمين، ينقذ عباده المؤمنين إذا أراد، بحركة بسيطة كما أنقذ يوسف (ع) وأخرجه من السجن بمنامين لا بيقظتين؛ منام الساقي الناجي ومنام الملك. ولذا ما على المؤمن إلا الدعاء؛ والتدبير أمر لا يختص به وإنما هو شأن رب العالمين.
وللأجر الآخرة خير مهما عظم أجر الدنيا
ثم يقول سبحانه: (وَلَا نُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ * وَلَأَجۡرُ ٱلۡأٓخِرَةِ خَيۡرࣱ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ)[٩]؛ أي أننا نجينا يوسف (ع) في الدنيا وصار عزيزا وجعلناه على خزائن الأرض، ولكن المقام الحقيقي ليوسف (ع) يتجلى يوم القيامة، فلأجر الآخرة خير. فمن الطبيعي أن يحشر هذا النبي العظيم مع الأنبياء والمرسلين وعلى رأسهم النبي المصطفى (ص).
خلاصة المحاضرة
- عندما رأى يوسف (ع) مصلحة العباد والبلاد في أن يتولى هو أمر الخزائن ويعبر بهذا البلد وهذا الشعب سنوات المجاعة والقحط، لم يتوانى عن ذلك ولم ينظر إلى دينهم وإنما نظر إلى حاجتهم وجوعهم.