إن أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة، يصف المتقين بصفات، ينبغي للمؤمن بين وقت وآخر، أن يرى نسبة انطباق هذه الصفات عليه؛ لأن كل هذه الصفات لا تجتمع عادة في شخص واحد.. ولكن لينظر إلى النسبة المئوية، فبدرجة التأسي يكون موالياً لهم.
(مُفْتَرِشُونَ لِجَبَاهِهِمْ، وَأَكُفِّهِمْ، وَرُكَبِهِمْ، وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ).. إن المؤمن على المائدة المعنوية، شأنه شأن الإنسان الجالس على المائدة المادية.. إذ أنه عندما يجلس الإنسان على المائدة المتنوعة، يأكل ما يشتهيه.. والمائدة المعنوية أيضاً مائدة ممدودة، والإنسان الذي يستيقظ في جوف الليل، إذا كان يغلب عليه الميل لقراءة القرآن مثلاً؛ يكون معظم الوقت في تلاوة القرآن.. والذي يغلب عليه الميل لقراءة الدعاء، يأخذ نصيبه منه.. والذي يغلب عليه الميل لصلاة الليل، يصلي.. ولكن صلاة الليل في الحد الأدنى؛ لابد منها.. البعض يستيقظ ويبقى في فراشه متأملاً في خلق السموات والأرض، مدّعياً التعبد؛ هذا إغواء من الشيطان الرجيم.. فصلاة الليل لها حكم خاص: إذا كان الإنسان متعباً، أو مريضاً، أو كان الوقت ضيقاً؛ فبإمكانه أن يختصر الصلاة إلى ثلاث ركعات: ركعتي الشفع وركعة الوتر، ومن دون سورة؛ لأن السورة في المستحبات ليست واجبة، إذ يكفي قراءة الحمد.. وعليه، فإن الإنسان بإمكانه أن يصلي صلاة الليل قبل آذان الفجر بخمس دقائق، ويكتب في ديوان قائمي الليل.
إن المؤمن في جوف الليل، له ثلاثة برامج: صلاة الليل، وتلاوة القرآن، والسجود.. وللسجود معان كثيرة: عن النبي الأكرم (ص): (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ؛ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ)!.. ورب العالمين يحدث عبده وهو ساجد.. أما كيف يحدثه؛ فإن له طرقه الخاصة!.. فهذه أم موسى (ع) لم تكن نبياً أو إماماً، ومع ذلك فإن رب العالمين أوحى إليها، فالأمر بيده!.. {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ}.. لذا، فإن المؤمن عندما يسجد، يطلب من رب العالمين المدد الغيبي.
(يَطْلُبُون إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى- فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ).. هؤلاء يطلبون من الله -عز وجل- في جوف الليل فكاك رقابهم.. لم يقل: فكاك رقابهم من نار جهنم، يبدو أن هؤلاء لهم هاجس أكبر من نار جهنم!.. فالمؤمن يقضي سنوات طويلة في عبادة الله -عز وجل- ومع ذلك يخاف من نار جهنم؛ ولكن البعض يصل إلى درجة يكون فيها مطمئناً إلى أن رب العالمين لن يدخله النار.
فإذن، إن فكاك الرقاب الذي يطلبونه، هو من غضب الله -عز وجل- ومن إعراض الله -عز وجل- عنهم.. مثلاً: الإنسان الذي يسهر فيما لا يحرم وما لا يجمل -ليس حراما- ولكنه سهر على الباطل، فبسبب هذا اللغو رب العالمين يعرض عنه.. إن للإمام السجاد (ع) كلمة تهز الأرواح، يقول (ع): (… لو ملتُ بوجهي عنه؛ لمال بوجهه عني.. أفمن يُرى راحما بعده)؟!.. هذه معادلة: أي إذا أنا صرفت النظر عن ربي؛ فإن رب العالمين يصرف النظر عني.. بعض الناس ليسوا من أهل جهنم، ولكن رب العالمين أيضاً لا يلتفت إليهم؛ لأنهم مشغولون بالأباطيل، وما لا طائل منه.
إن المؤمن بين خوفين: إما الخوف من النار في أوائل أمره، أو الخوف من إعراض الله -عز وجل- في نهايات أمره؛ وهذا الخوف يبقى إلى ساعة الموت.. فالإنسان مهما بلغ -غير المعصوم- يبقى خائفاً؛ لأنه لا يعلم هل الله -عز وجل- راضٍ عنه، أم لا!.. مثلاً: هناك أب عنده ثلاثة أولاد: يحب أحدهم كثيراً؛ لأنه مطيع ويرضى عنه.. وهناك ولد مشاكس؛ فإنه يغضب عليه.. وهناك ولد ليس فيه خير، وليس فيه شر؛ فإنه لا يلتفت إليه.
وعليه، فإن الناس ثلاثة أصناف، ومعظم الناس يندرج تحت الصنف الثالث.. لذا، فإن النبي الأكرم (ص) كان يدعو بهذا الدعاء دائماً: (لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً)!.. بعض الناس رب العالمين أوكل أمرهم إلى أنفسهم: لا غضب، ولا رعاية.. وهذه أيضاً كارثة: أن يكون الإنسان مهملاً في هذه الدنيا لا ولي له، يقول تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، فإذا لم يكن الإنسان مؤمناً؛ فهو لا ولي له.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.