• ThePlus Audio
Layer-5-1.png

مناجاة الخائفين كما لم تقرأها من قبل

بسم الله الرحمن الرحيم

مما يشتكي الإمام زين العابدين (عليه السلام)؟

عندما يقرأ البعض مناجيات الإمام زين العابدين (ع) المعروفة بالمناجيات الخمس عشرة؛ قد يتسائل في نفسه: هل تتناسب مضامين بعض هذه المناجيات كمناجاة التائبين والشاكين والخائفين مع مقام العصوم. لا شك أن المعصوم في أعلى درجات العصمة؛ فهل يشتكي من كان كذلك من شيء أو يخاف من شيء أو يتوب من شيء؟ وهذا الإشكال يرد في كثير من الأدعية المأثورة عن أئمة أهل البيت (ع) كدعاء كميل ودعاء أبي حمزة ونضائرهما. لقد أجاب العلماء بصورة مفصلة عن هذا التسائل ولعل أبسط جواب هو: أن الإمام (ع) إنما يتحدث عن النفس البشرية لا نفسه بالذات؛ فهو يُعلمنا كيفية الحديث مع الله عز وجل، خاصة نحن العصاة.

ما معنى الخوف من الله عز وجل؟

لقد وردت الكثير من صفات الرحمة في القرآن الكريم والروايات الشريفة، فوصف الله نفسه بأرحم الراحمين وبالغفور الرحيم وبمن سبقت رحمته غضبه والأقرب إلى الإنسان من حبل الوريد والأبر بنا من أمهاتنا وآبائنا، فلماذا الخوف من الله عز وجل؟

إنه يجدر بالمؤمن الذي أعجبته مضامين هذه المناجيات الرجوع إلى كتاب رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين (ع) للاطلاع أكثر ولقراءة هذه الأدعية والمناجيات بصورة أكثر تخصصية؛ فقد تناول السيد علي خان المدني الشيرازي في شرحه الكثير من المعاني التي وردت في الصحيفة السجادية، وإن كتابه هذا من الكتب المعتمدة عند علمائنا مع وجود شروح أخرى.

الهيبة في صدور المؤمنين

إنه يذكر في شرحه؛ أن الخوف من الله عز وجل على درجات: فهناك خوف من المقام وهو قول الله عز وجل: (وَأَمَّا مَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفۡسَ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ)[١]، وقوله عز من قائل: (وَلِمَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)[٢]. وخوف المقام هو الخوف من الهيبة الإلهية، وقد يتجلى شيء من هذه الهيبة في علمائنا الكبار ومراجعنا العظام؛ فيجلس أحدنا أمامه لا يُكلمه هيبة له، مع أنه ليست لديه درجة عسكرية ضخمة أو ما شابه ذلك.

وذهب البعض إلى الخوف من الله إنما هو الخوف من نقمته وهذا ما نقرأه في دعاء الافتتاح: (أَيْقَنْتُ أَنَّكَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ فِي مَوْضِعِ اَلْعَفْوِ وَ اَلرَّحْمَةِ وَ أَشَدُّ اَلْمُعَاقِبِينَ فِي مَوْضِعِ اَلنَّكَالِ وَ اَلنَّقِمَةِ)[٣]. فإذا لم يعلم الإنسان من أي الصنفين هو، لا يمكنه إلا أن يكون خائفا راجيا. كالطفل الذي ارتكب خطأ في الشارع وهو يرجع إلى المنزل لا يدري ماذا سيفعل معه أبواه فهل سيعاقبانه أم يعفوان عنه وهما مظهر الشفقة والرحمة؟ ولابد أن يسأل الإنسان نفسه كل ليلة؛ هل الله سبحانه راض عني أم لا؟ فإن أحرز رضاه شكر الله سبحانه وإن لم يُحرز ذلك، لابد أن يكون وجلا خائفا.

ليتها لم تلدني ولم تربني…!

إن من أكثر المناجيات رقة، المناجيات الخمس عشرة؛ خاصة المريدين والمحبين، والشاكرين. ومن الفقرات التي وردت في مناجاة الخائفين قول الإمام (ع): (لَيْتَ شِعْرِي أَ لِلشَّقَاءِ وَلَدَتْنِي أُمِّي أَمْ لِلْعَنَاءِ رَبَّتْنِي فَلَيْتَهَا لَمْ تَلِدْنِي وَ لَمْ تُرَبِّنِي)، وهذه كلمات عاطفية رمزية يُبين من خلالها (ع) أنه ليس راضيا عن نفسه. وإنننا لنستعمل كلمات مشابهة في عرفنا، فنقول إذا بلغ بنا الخجل غايته: ليت الأرض ابتلعتني وما شابه ذلك. فالعبد يصل إلى درجة من الحياء من الله عز وجل، يتمنى أن لو كان عدماً، وما ذلك إلا لفرط الخجل والذوبان أمام الجبروت والهيبة الإلهية.

هل الخوف عند العبد من العذاب أم من البعد عن الله سبحانه؟

إن هذا الخوف خوف مترتب على عمل العبد. فقد يعيش الإنسان في مرحلة من مراحل حياته حالة الأنس بالله عز وجل وقد هبت عليه نسائم الرحمة واللطف الإلهية ذات يوم؛ فارتكب المعاصي ولم يقدر هذه النعمة، فسُلب هذا التوجه، وتحول إلى خوف من أن يكون هذا الحرمان عقوبة من الله.

ولذا لا ينبغي أن يعول المؤمن على الإقبال المرحلي في شخر رمضان المبارك وفي ليالي القدر أو تحت القبة الشريفة، فهي نفحات موقتة قد تدوم إذا أعطاها العبد حقها من الشكر، فكما روي: (مَعَ اَلشُّكْرِ تَدُومُ اَلنِّعْمَةُ)[٤]. والمؤمن دائما يخاف من سلب هذه الحالة اللطيفة التي هي بحق من ألذ لذائذ الوجود؛ ولا تضاهيها متعة النساء ولا متعة الطعام ولا ما شابه ذلك من المتع المادية. وهذه المتعة الباطنية هي أن يرضى عنك رب العالمين رب الوجود. إن الإنسان ليصل إلى درجة يختاره الله ويصطنعه لنفسه كما اصطنع الله موسى (ع) لنفسه والحال أنه أغنى الأغنياء لا يحتاج إلى أمثالنا.

والطريق إلى ذلك طريق واضح وهو طريق الاستقامة السلوكية. لا ينبغي أن يكون أحدنا كما روي عن الإمام الصادق (ع):

تَعْصِي اَلْإِلَهَ وَ أَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ
هَذَا مُحَالٌ فِي اَلْفِعَالِ بَدِيعٌ

لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقاً لَأَطَعْتَهُ
إِنَّ اَلْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعٌ[٥]

فالذي يرتكب المعاصي لا يفكر في الحب الإلهي ولا في الوصول إلى المقامات، وهذا كما قال الشاعر:

وَمُكَلِّف الأَيامِ ضِدَّ طِباعِها
مُتَطَّلِب في الماءِ جَذوة نارِ[٦]

والخطوة الأولى ترك المعاصي، وإتقان الواجبات ومن ثم التضرع والتذلل بين يدي الله عز وجل في شهر رمضان المبارك وفي ساعة السحر وبقراءة المناجيات الخمس عشرة وما شابه ذلك. إن شهر رمضان المبارك هو شهر الضيافة الإلهية وهذه الضيافة متفاوتة من شخص إلى آخر. إن الرجل ليدخل على الملك فيُعطيه ما لا يُعطي الخواص من جلسائه وإن كانوا كلهم في ضيافته وجلوسا على مائدته. فسل الله عز وجل الوجبة الاستثنائية لا الوجبة العامة التي يهبها لكل الصائمين. وهذا لا ينال إلا في أسحار شهر رمضان المبارك: (وَٱلۡمُسۡتَغۡفِرِينَ بِٱلۡأَسۡحَارِ)[٧]، فكيف إذا كان ذلك ببكاء وتذلل؟

ومما ورد في مناجاة الخائفين: (أَوْ تُعَاقِبُ أَبْدَاناً عَمِلَتْ بِطَاعَتِكَ حَتَّى نَحِلَتْ فِي مُجَاهَدَتِكَ، أَوْ تُعَذِّبُ أَرْجُلاً سَعَتْ فِي عِبَادَتِكَ)[٨]. ويتبين لنا من هذه المضامين الشريفة؛ أن الذي يريد حياة الدعة ويجانب الطريق ذات الشوكة، فمن الطبيعي أن يعطي النفس مناها. إن طريق الله طريق الكدح والتعب إلى درجة يتحمل البدن ذلك؛ فلا ينبغي أن نشق على البدن أكثر مما يتحمل. وكما ورد في وصية النبي (ص) لجابر: (إِنَّ هَذَا اَلدِّينَ لَمَتِينٌ ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَ لاَ تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اَللَّهِ، فَإِنَّ اَلْمُنْبَتَّ لاَ أَرْضاً قَطَعَ، وَ لاَ ظَهْراً أَبْقَى)[٩].

إن شهر رمضان وقيام الليل وغض البصر وأمثالها رياضات شرعية، فلا ينبغي أن يخترع الإنسان رياضات لم ترد في الشريعة كترك اللحم والتقليل من النوم بما يضر البدن، وما شابه ذلك. فإن هذه رياضات غير شرعية قد تفقد الإنسان المكاسب، ولابد من الاعتدال في جميع الأمور. فنم أول الليل ثم استيقظ قبل الأذان بفترة؛ إذ لا يُمكن الجمع بين سهر الليل والوقوف على السجادة بين يدي الله بكامل النشاط والحيوية. قد نجد بعض الشباب يسهر طول الليل في شهر رمضان، وقد كان في النهار في العمل، فلا ينبغي أن يتوقع الإقبال في صلاته ولا في تلاوته لكتاب ربه.

كيف افهم أن الله عز وجل قبل مني هذه المناجات التي قرأتها؟

إن في زماننا هذا ومع ارتفاع منسوب الفساد والانحراف نجد جيلا من النساء والرجال من الشبان وكبار السن لهم تميز في مجال القرب إلى الله عز وجل. فأقول في مقام الإجابة: أولا: من العلامات الطيبة أن ترى هذه المضامين متحققة في نفسك. ثانيا: التوبة لها برد وحلاوة في الباطن وارتياح يشعر به التائب. فإذا وصلت إلى هذا الارتياح، فاعلم أن مناجاة التائبين مقبولة منك بعد أن تحول الخوف إلى محبة وارتياح لله عز وجل الذي من صفاته: الشفيق الرفيق والجار اللصيق.

أقرأ المناجيات فلا تدمع عيني…!

لو قيل لطالب في آخر السنة الدراسية: أنك قد نجحت في الامتحان، فيشعر بالسرور والفرح وإن لم يأخذ ورقة الشهادة. يقول: إنني نجحت في الامتحان والورقة ستأتيني لاحقا. نعم، إن جريان الدمعة علامة طيبة ولكنها ليست الملاك. فإذا أحسست بانقلاب باطني وتأثر غير معهود، فهذا هو المطلوب، فإذ جرت الدمعة فنور على نور. وإن كانت الروايات الشريفة تذكر نزول الدمعة ولو بمقدار جناح بعوضة أمارة من أمارات القبول.

هل تسود وجوهاً خرت ساجدة لعظمتك؟!

إن السجود اتصال بعالم الغيب وهو أرقى حالة يكون عليها الإنسان، وأقرب ما يكون إلى ربه. فلو قرأ الإنسان هذه المناجيات في سجوده ثم جرت دمعته، فقد جمع جميع عوامل الاستجابة. ولهذا نرى بعد فترة من التكرار، تتحول السجدة إلى محطة جميلة من محطات الحياة. والمؤمن يستغل هذه السجدة ليحقق من خلالها ما يريده من الله عز وجل.

[١] سورة النازعات: ٤٠.
[٢] سورة الرحمن: ٤٦-٤٧.
[٣] مفاتيح الجنان.
[٤] غرر الحکم  ج١ ص٧٠٣.
[٥] الأمالی (للصدوق)  ج١ ص٤٨٩.
[٦] أبو الحسن علي بن محمد بن فهد التهامي.
[٧] سورة آل عمران: ١٧.
[٨] مفاتيح الجنان.
[٩] نزهة الناظر  ج١ ص٢٠.
Layer-5.png
Layer-5-1.png

خلاصة المحاضرة

  • إن السجود اتصال بعالم الغيب وهو أرقى حالة يكون عليها الإنسان، وأقرب ما يكون إلى ربه. فلو قرأ الإنسان هذه المناجيات في سجوده ثم جرت دمعته، فقد جمع جميع عوامل الاستجابة. ولهذا نرى بعد فترة من التكرار، تتحول السجدة إلى محطة جميلة من محطات الحياة.
  • إن شهر رمضان وقيام الليل وغض البصر وأمثالها رياضات شرعية، فلا ينبغي أن يخترع الإنسان رياضات لم ترد في الشريعة كترك اللحم والتقليل من النوم بما يضر البدن، وما شابه ذلك. فإن هذه رياضات غير شرعية قد تفقد الإنسان المكاسب، ولابد من الاعتدال في جميع الأمور.
Layer-5.png