

- ThePlus Audio

مم نخاف في مناجاة الخائفين؟
بسم الله الرحمن الرحيم
حذار من إغلاق باب الرحمة…!
إن من يتأمل في مناجايات الإمام زين العابدين (ع) يُدرك بحق أنها كلمات لا يُمكن أن تصدر إلا عن المعصومين (ع). ولو استطعنا أن نوصل هذه المناجيات وغيرها من كلماتهم الحكيمة إلى غير المسلمين، لاتبعوا مذهب أهل البيت (ع) من دون أدنى شك، كما أن الكثير من المستبصرين قد اختاروا هذا المذهب ببركة الصحيفة السجادية.
ولذا نرى من المهم الوقوف على المعاني الواردة في هذه المناجيات. من الفقرات التي وردت في إحدى هذه المناجيات وهي مناجاة الخائفين قوله (ع): (إِلَهِي لاَ تُغْلِقْ عَلَى مُوَحِّدِيكَ أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ وَلاَ تَحْجُبْ مُشْتَاقِيكَ عَنِ اَلنَّظَرِ إِلَى جَمِيلِ رُؤْيَتِكَ)[١]. إننا لا نعلم أثر أعمالنا على مكانتنا في عالم العرش، فقد نرتكب ذنبا نراه صغيرا ولكنه يكون كما قال العرب: القشة التي قصمت ظهر البعير.
لا تتجاوز الحد فتهلك
وإنني أتصور أن لأحدنا حداً في العرش إذا تجاوزه بكثرة المعاصي تنتهي المهلة الإلهية ويطفح الكيل ويستحق العبد إغلاق الباب في وجهه. ولذا روي: (يَا اِبْنَ مَسْعُودٍ لاَ تُحَقِّرَنَّ ذَنْباً وَلاَ تُصَغِّرَنَّهُ)[٢] وروي أيضا: (إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ اَلذُّنُوبِ فَإِنَّ لَهَا مِنَ اَللَّهِ طَالِباً وَإِنَّهَا لَتَجْمَعُ عَلَى اَلْمَرْءِ حَتَّى تُهْلِكَهُ)[٣]. فلا يقولن قائل: إنني صائم مصل عابد ولكنني أستمع إلى الغناء أو أنظر إلى الحرام أو ما شابه ذلك، فهي معصية كسائر المعاصي لها من الله طالبا.
ولابد من الالتفات إلى أن في السنة أشهر وأيام محترمة يتضاعف فيها إثم ارتكاب المعاصي كشهر رمضان المبارك وأيام الزيارة، وأن المعصية ممن يُعرف بالتدين أقبح من غيره ولذا قال عز من قائل: (يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدࣲ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّۚ)[٤]. فإذا كان المرء يُعرف بين الناس بالتدين والإيمان والمرأة تُعرف بحجابها والتزامها ثم تخلو لترتكب من المعاصي ما يتركب غيرها، فهي قد تُحرم الصفح والتجاوز الإلهي وقد تكون المعاصي قاصمة للظهر في مثل هذه الأحوال. وقد تكون الذنوب سببا لحبس الدعاء، كما ورد في دعاء كميل: (اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِيَ اَلذُّنُوبَ اَلَّتِي تَحْبِسُ اَلدُّعَاءَ)[٥].
كيف تُحجب الرؤية الإلهية؟
وقد يتسائل البعض حول هذه الفقرة (وَلاَ تَحْجُبْ مُشْتَاقِيكَ عَنِ اَلنَّظَرِ إِلَى جَمِيلِ رُؤْيَتِكَ) قائلين: وهل يُمكن رؤية الله سبحانه، هل تكون الذنوب هي المانعة؟ إن هذه الفقرة ونظائرها من كتاب الله عز وجل من الآيات التي تتحدث عن الرؤية والنظر إلى الله عز وجل كقوله: (وُجُوهࣱ يَوۡمَئِذࣲ نَّاضِرَةٌ)[٦]، إنما تدل على الرؤية غير المادية. فمن اعتقد بالرؤية المادية فقد كفر، فذلك يوجب التحيز والتجسم. إن الجسم محتاج إلى حيز وإلى مكان وزمان، فلو كان سبحانه جسما لما كان ربا وإنما كان فقيرا محتاجا.
إن الحديث هنا هو الحديث عن التجلي الإلهي وهو متاج للجميع ولا يتوقف على دراسة أكاديمية أو حوزوية وإنما الأمر بحاجة إلى مجاهدة في سبيل الله. ولذا نرى أن امرأة فرعون قد رُفع عنها الحجاب، فقالت: (رَبِّ ٱبۡنِ لِي عِندَكَ بَيۡتࣰا فِي ٱلۡجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرۡعَوۡنَ وَعَمَلِهِۦ)[٧]، وكذلك كانت مريم (س) التي تصفها الآية: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقࣰا)[٨].
بين المجاهدة الآنية والمجاهدة المستمرة
وقد تكون المجاهدة التي يقوم بها المؤمن مجاهدة خفيفة مستمرة وقد تكون مجاهدة ثقيلة آنية. أما مثال المجاهدات المستمرة مثال الوالدين اللذين يعتنيان بولد لهما يعاني من الإعاقة، فإن طول خدمتهما وتراكم سني الرعاية هذه توجب لهما القرب من الله عز وجل، أو قد يكون الولد هو الذي يرعى والديه فترة طويلة فينال من القرب من الله عز وجل ما ينال في سني الخدمة الطويلة أو قد تكون المجاهدة المستمرة الصبر على مرض مزمن.
ومثال المجاهدة الآنية ما حدث ليوسف (ع) وبطولته المميزة في باب الشهوة ومقاومته إغراءات زليخا. وكان قبل ذلك قد ألقي في غيابة الجب ولبث بعدها في السجن بضع سنين. لقد ابتلي يوسف (ع) بهذه الأمور الثلاثة وكان عند أبيه مدللا من قبل وخرج بعد هذه الامتحانات من السجن ليصبح على خزائن الأرض. فيُمكن القول: إن المجاهدات الموسمية غضباً كانت أو شهوة من موجبات انفتاح باب الرؤية الباطنية.
كيف يُعرض عن الله من رأى جمال الله؟
لو أن إنساناً زوج بملكة جمال العالم واشترطت عليه، عدم النظر إلى شمطاء سوداء قبيحة وإلا انفصلت عنه؛ فهل يمر على قلبه النظر إلى مثل هذه المرأة؟ إن الدنيا وما فيها بمثابة حية لين مسها قاتل سمها كما عبرت عن ذلك الروايات الشريفة؛ فكيف يُمكن لمن علم ذلك أن يدع الأنس بالجلال والجمال الإلهي الذي لا يقارن بجلال ولا جمال ويلتهي بهذه الحية الرقطاء؟ بل إن من يأنس بالله عز وجل، يُصبح كأمير المؤمنين (ع) الذي طلق الدنيا ثلاثا؛ لا يستهويه شيء في هذه الدنيا أبدا، فلا يغريه الحلال منها، فكيف بالحرام الموبق؟
وإذا أخذ منها شيئا فإنما يأخذ ذلك لأنه مما يُقربه إلى الله عز وجل ولأن الله أمره بالأخذ منها. ولذا يُصبح الإنسان في حكم المعصوم لا يمكنه أن يفكر في الحرام. ولذا أوصي دائما من يشتكي من المعاصي والذنوب ومن البيئة القاهرة كمن يعيش في الدول الغربية أن يوجد في قلبه الجمال البديل الذي يغنيه عن جمال الطبيعة والنساء وغيرها. عندئذ يصبح في أعلى درجات الاستقامة. إنني لا أظن امرأة على وجه الأرض عانت ما عانته آسية زوج شر خلق الله؛ ولكن الله أعطاها ما أعطاها من المنح والمواهب.
مهانة الهجران؟!
هذا ومن اقترن بحسناء يخاف هجرانها، فهو يخشى من أن يفقد هذا الجمال وهذا الأنس ويخشى من أذى باطني وفراغ لا يُمكن أن تملأه غيرها من النساء. وكذلك من أنس بهذه المقامات الروحية يخشى من يوم يفقدها فيه. فمن أنس بالزيارة والوقوف تحت القبة الشريفة، وأنس بزيارة الرضا (ع) يخشى من مجرد التفكير في اليوم الذي يفقد فيها هذه المنح الإلهية. لقد رأيت أحد الشباب وكان قد تزوج حديثا، فسألته عن حاله بعد الزواج فقال لي: لقد كانت لي وقفات مع ربي قبل هذا الزواج وكنت أشعر فيها من الأنس واللذة ما لا يُمكنني مقارنته بلذة النساء…! نعم، إنه يأنس بمن أعطاه هذه النعمة وهذا الوجود.
لقد أسر لي أحد الأولياء المعروفين بحديث، فقال: في فترة من الفترات أصابتني حالة من القساوة القلبية أصبحت فيها كالمجانين وهمت على وجهي أجوب الشوارع وأقول: يا رب، إلى أين مذهبي عن بابك؟ وأي سماء تظلني وأي أرض تقلني وأنت مدبر عني؟ لو رأى ربك فيك هذه الحالة من التألم لرحمك وأدناك. لا تكن ممن لا يبالي أقبل في صلاته أم لم يُقبل، استيقظ لصلاة الفجر أم لم يستيقظ. يُقال: أن لأحد الشهيدين الأول أو الثاني قصيدة يشتكي فيها من فوته في ليلة من الليالي صلاة الليل، فكان يراها مصيبة لا تُنسى. إن هذه الحالة، هي حالة راقية جداً، ومن يعيشها ينال الوصال ويبتعد عن أسباب الهجران.
كيف يحقق العبد المودة الإلهية؟
لقد ورد في حديث قدسي: (إِنَّ اَللَّهَ يَقُولُ: عَبْدِي خَلَقْتُ اَلْأَشْيَاءَ لِأَجْلِكَ وَخَلَقْتُكَ لِأَجْلِي، وَهَبْتُكَ اَلدُّنْيَا بِالْإِحْسَانِ وَاَلْآخِرَةَ بِالْإِيمَانِ)[٩]. انظر المحبة الإلهية كم بلغت حتى يخلق الأشياء كلها من أجل الإنسان. يُقال: عندما دعا نوح (ع) على قومه، أمره الله سبحانه بصناعة الكوز ثم أمره بكسرها؛ فكان يكسرها وفي قلبه شيء فجاءه الوحي: تريد مني إهلاك عبادي وأنت تكسر الكوز على مضض وتستثقل من هذا الفعل. وقد روي عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: (إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ وَزَادَهُ فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ فَوَجَدَهَا فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ ذَلِكَ اَلرَّجُلِ بِرَاحِلَتِهِ حِينَ وَجَدَهَا)[١٠]. والله سبحانه يدعو العباد في كتابه إلى نفسه ويقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)[١١].
ولو كُشف الغطاء لأحدنا لرأى أن الله سبحانه يبحث عن الزبائن ونحن معرضون عنه، وهذا ما ورد في دعاء الافتتاح: (اِنَّكَ تَدْعُونِي فَأُوَلِّي عَنْكَ وَتَتَحَبَّبُ إِلَيَّ فَأَتَبَغَّضُ إِلَيْكَ وَتَتَوَدَّدُ إِلَيَّ فَلاَ أَقْبَلُ مِنْكَ كَأَنَّ لِيَ اَلتَّطَوُّلَ عَلَيْكَ فَلَمْ يَمْنَعْكَ ذَلِكَ مِنَ اَلرَّحْمَةِ لِي وَاَلْإِحْسَانِ إِلَيَّ وَاَلتَّفَضُّلِ عَلَيَّ بِجُودِكَ وَكَرَمِكَ)[١٢]. فيُمكن القول: أن الله سبحانه أقرب إلى العبد من كل حبيب ولكن العبد يُصبح من السوء بمكان يحجب عن نفسه هذه الرأفة والمودة الإلهية.
ما وزن ذنوبي عند الله؟
قد يقول قائل: وما وزن ذنوبي عند الله عز وجل من نظرة محرمة أو استماع إلى غناء أو تناول لقمة محرمة؟ والجواب ما ورد في الرواية الشريفة: (إِذَا وَقَعْتَ فِي مَعْصِيَةٍ فَلاَ تَنْظُرْ إِلَى صِغَرِهَا وَلَكِنِ اُنْظُرْ مَنْ عَصَيْتَ)[١٣]. إن العصيان تجاوز حدود الله عز وجل ولو تجاوزت حدود البلدان اليوم لأطلقوا عليك النار سواء تجاوزت الحدود مترا أو ألفا. والحال أنها حدود وهمية قد رسمها من رسمها ولكن اجتيازها من دون تصريح هتك لتلك الدولة. وكذلك أعلام الدول عبارة عن خرق ملونة ملصوقة بعضها ببعض؛ ولكن من أهان هذه الخرقة يلقى القبض عليه، ويُتهم بانتهاك القوانين في تلك الدولة. ولهذا المؤمن عندما يذنب ذنباً لا ينسى هذا الذنب لأنه هتك به حرمة المولى فيبالغ في التوبة.
ونجد في المقابل من لا يعصي الله فترة من عمره فيُصاب بالعجب بعد أن أصبح إنسانا عادلا؛ فلا بأس أن يذكر ما أسلف من الذنوب. فالكثير منا كانت لديه فترة رمادية أو سوداء بعد البلوغ. إن البنت تبلغ في التاسعة وإلى أن تلتزم بالصلاة والصيام قد تكون بلغت الخامسة عشر من عمرها. ولهذا اُمرنا في الحطيم وفي الملتزم عند الذهاب إلى الحج والعمرة، بإلصاق الصدر بالكعبة وتذكر الذنوب السالفة، وهي حالة جيدة لكسر الغرور وعدم الرضا عن النفس. ومن أذنب في العاشرة من عمره، قد يُذنب في الستين؛ فالشيطان هو الشيطان والنفس الأمارة في ذاتها في الستين.
[٢] مکارم الأخلاق ج١ ص٤٤٦.
[٣] إرشاد القلوب ج١ ص٣٣.
[٤] سورة الأحزاب: ٣٢.
[٥] مصباح الزائر ج١ ص٣١٧.
[٦] سورة القيامة: ٢٢.
[٧] سورة التحريم: ١١.
[٨] سورة آل عمران: ٣٧.
[٩] کلیات حدیث قدسی ج١ ص٧١٠.
[١٠] الکافي ج٢ ص٤٣٥.
[١١] سورة البقرة: ١٨٦.
[١٢] مفاتيح الجنان.
[١٣] بحار الأنوار ج٧٥ ص٤٥٢.


خلاصة المحاضرة
- وإنني أتصور أن لأحدنا حداً في العرش إذا تجاوزه بكثرة المعاصي تنتهي المهلة الإلهية ويطفح الكيل ويستحق العبد إغلاق الباب في وجهه. ولذا روي: (إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ اَلذُّنُوبِ فَإِنَّ لَهَا مِنَ اَللَّهِ طَالِباً وَإِنَّهَا لَتَجْمَعُ عَلَى اَلْمَرْءِ حَتَّى تُهْلِكَهُ).
- قد يقول قائل: وما وزن ذنوبي عند الله عز وجل؟ والجواب ما ورد في الرواية الشريفة: (إِذَا وَقَعتَ فِي مَعصِيَةٍ فَلا تَنظُر إِلَى صِغرِها ولَكنِ اُنظُر مَن عَصيْت). إن العصيان تجاوز حدود الله عز وجل ولو تجاوزت حدود البلدان اليوم لأطلقوا عليك النار سواء تجاوزت الحدود مترا أو ألفا.
