إن الشارع المقدس، يهيئ الإنسان لما يريد تدريجيا: ففي شهر رمضان، جعل ليالي القدر في العشر الأخيرة؛ لذا فهي خير الليالي.. وليلة القدر الكبرى، هي الليلة الثالثة والعشرون.. أي هناك عشرون يوما قبل العشر الأخيرة، وهناك ليلتان قبل ليلة القدر.
في موسم الحج كذلك: الذهاب إلى المدينة عنصر مهيئ، ثم عمرة التمتع، وبعد ذلك حج التمتع.. الحج عرفة، فلو كان الأمر أن ندخل المسجد الحرام، فنطوف، ونسعى، وفي اليوم الثاني نذهب إلى عرفة، ثم نبقى عشرة أيام في مكة.. لكان الحج باهتا؛ لأن الإنسان بعد عرفة يسترخي.
فإذن، هناك تدريج، حتى لا يفاجأ الإنسان بالكنز.. يوم عرفة هو الكنز، وقبله مقدمات.. وليلة القدر هي الكنز، وقبلها مقدمات.. والصلاة بين يدي الله -عز وجل- هي الكنز، وقبلها أيضا مقدمات.. ولكن هذا الكنز؛ كنز دائمي: حيث أن الحج يكون في العمر مرة واحدة، وصوم شهر رمضان في السنة مرة واحدة، أما الصلوات فهي يومية، وفي اليوم خمس مرات.. لذا، لابد أن نفهم سياسة الشارع بالنسبة إلى الصلاة.
إن رب العالمين، جعل محطات للإنسان قبل قراءة السورة.. فالإنسان يصفي نفسه بمصفاة التكرير، مثل النفط الخام الذي يدخل خاما ويخرج بنزينا.. يصفى مرحلة مرحلة:
المرحلة الأولى: الوضوء بآداب الوضوء.. هناك وضوء عادي، قد يتوضأ الإنسان وهو يتكلم مع زيد وعمرو، وقد ينظر للتلفاز.. هذا الوضوء صحيح، ولكن الوضوء الشرعي أن يقرأ الإنسان المستحبات والآداب.. لأن هذه المناجاة في الوضوء، تهيئ الإنسان للصلاة.. والمتوضئ قبل الصلاة، أيضا يتوضأ مرة أخرى؛ لأن (الوضوء على الوضوء، نور على نور).
المرحلة الثانية: الأذان والإقامة.. الأذان والإقامة سنتان من سنن الصلاة.. وبعد “قد قامت الصلاة” يجب عدم التكلم في شيء من أمور الدنيا.. وتشتد كراهة الكلام بعد قول المقيم: “قد قامت الصلاة” إلا فيما يتعلق بالصلاة.
المرحلة الثالثة: التكبيرات الست الافتتاحية، ثم تكبيرة الإحرام.. وبعد التكبيرات هناك أدعية تهيئ الإنسان للدخول في بحر الصلاة.
المرحلة الرابعة: الاستعاذة بالله -عز وجل- قبل قراءة السورة؛ لأن الشيطان قد يدخل على الخط بعد التكبيرة مباشرة.
الخلاصة: أن الله -عز وجل- في تشريع الصلاة، أراد من الإنسان أن ينتقل إلى لب الصلاة بشكل تدريجي: من أول نظرة لماء الوضوء، فيقرأ أدعية الوضوء.. ثم الأذان، والإقامة.. ثم التكبير؛ قبل التكبير يفكر الإنسان قليلا، يحاول أن يستجمع أفكاره، ثم يكبر.. ثم الاستعاذة.. فحقيقة الصلاة الخاشعة تحتاج إلى تمهيد، والمصلي ينبغي أن لا يدخل في نقاش مع أحد قبل الصلاة؛ لأن ذلك يشغله أثناء الصلاة بين يدي الله عز وجل.
كل هذه أجواء مهيئة، وإلا فإن الأمر يحتاج إلى أمر آخر، وهو التفاتة القلب.. فمن لم يسيطر على صلاته من تكبيرة الإحرام؛ الشيطان يسرقه.. لذا عليه أن يحاول من تكبيرة الإحرام أن يكون مؤدبا بين يدي الله عز وجل، وإلا إذا تزحلق فهو على جبل جليدي، لا يلتفت إلا وهو يقول: السلام عليكم، وهو في خمسين واد من وديان الدنيا.
وبالتالي، إذا أتقن المصلي التكبير في أول صلاته، وذكّر نفسه بمقتضى هذا التكبير، وبمعاني التكبير في كل خطوة من خطوات صلاته، التي يكبر فيها.. يرجى أن يأتي بصلاة خاشعة، يقبلها الله -عز وجل- بمنه وكرمه.
ملاحظة: هذا النص تنزيل لصوت محاضرة الشيخ حبيب الكاظمي فقط، ولم يمر بمرحلة التنقيح واستخراج المصادر بعد.